اَلْمَزْمُورُ ٱلسَّادِسُ وَٱلْعِشْرُونَ

لِدَاوُدَ


«١ اِقْضِ لِي يَا رَبُّ لأَنِّي بِكَمَالِي سَلَكْتُ، وَعَلَى ٱلرَّبِّ تَوَكَّلْتُ بِلاَ تَقَلْقُلٍ. ٢ جَرِّبْنِي يَا رَبُّ وَٱمْتَحِنِّي. صَفِّ كُلْيَتَيَّ وَقَلْبِي. ٣ لأَنَّ رَحْمَتَكَ أَمَامَ عَيْنِي. وَقَدْ سَلَكْتُ بِحَقِّكَ. ٤ لَمْ أَجْلِسْ مَعَ أُنَاسِ ٱلسُّوءِ، وَمَعَ ٱلْمَاكِرِينَ لاَ أَدْخُلُ. ٥ أَبْغَضْتُ جَمَاعَةَ ٱلأَثَمَةِ، وَمَعَ ٱلأَشْرَارِ لاَ أَجْلِسُ. ٦ أَغْسِلُ يَدَيَّ فِي ٱلنَّقَاوَةِ، فَأَطُوفُ بِمَذْبَحِكَ يَا رَبُّ»
هذا المزمور يتشابه والمزمور سابقه في الأفكار والتعبير. فهو صرخة لله أن ينجيه وينقذه من متاعب هو فيها طالباً الرحمة والرضا من لدنه ولكنه لا يسمو مثل ذاك إذ فيه الكثير من روح الاعتداد بالذات ومحاولة أن يبرهن بره الذاتي بالمقابلة مع غيره من الناس وإنه أفضل منهم. وقد يناسب وصفه الأعداء أنهم أتباع أبشالوم الذي لحقوه بالرشوة (راجع ٢صموئيل ١٥: ٦). ولكن هذا المزمور يحوي حنين المرنم إلى بيت الله والسجود فيه.
(١) لأنه مضطهد وفي حالة العداوة لذلك يلتمس من الله أن يقضي له وينصفه من الأعداء. هو متكل بالتمام على إلهه ويحاول أن يستشهد بسلوكه الشريف وكماله لذلك لا يستحق مثل هذه المعاملة ومع ذلك فهو ثابت الإيمان راسخ اليقين ولا شيء يقلقله.
(٢) في هذا العدد لا يطلب المرنم من الرب أن يبرهن بره في حالته هذه مثلما يتوسل أن يخفف عنه أحمال ضيقه. التجربة أولاً ثم بعد ذلك الامتحان وقوله «صفِّ» في الأصل العبراني تحمل معنى تنقية المعادن بواسطة النار. أي يطلب من الله أن يجيزه أشد الامتحانات لكي يُعرف من أي معدن هو. فإذا لم يحوِ شيئاً يذهب محترقاً كلا شيء. والكليتان حسب العرف القديم مركز العواطف والقلب مركز الإدراك.
(٣) هو مطمئن البال بعد كل امتحان لأنه رحمة الله ترافقه بل ماثلة أمام عينيه لا تفارقه لحظة ثم يكرر تأكيده أنه سالك بحق الله والذي يسلك بالحق لا يخيب قط ذلك لأن الباطل إلى حين وأما الحق فإلى كل حين. فإن اتبعنا الحق على قدر مكنتنا مصحوباً برحمة الله التي لا تتخلى عنا نصبح قادرين على العيش ثم نثق بأننا نتغلب على كل الأعداء.
(٤ و٥) يشرح هنا مجرى سلوكه فلم يجالس أهل السوء. ولم يتداخل مع الماكرين الذي يلوون الحق باطلاً والباطل حقاً على حسب أهوائهم ونزعاتهم. بل يزيد بعد ذلك أنه تركهم جانباً وأبغض سبلهم ولم يجالسهم قط. وهنا زيادة إيضاح لما بدأ به أولاً فهو مملوء من خلوصه لله ونوره في داخله لذلك لا خلطة لنور الله مع ظلمة الأشرار وفسادهم (انظر أيوب ٢٢: ١٥).
(٦) وهنا بعد أن يتبرأ من المذنبين حواليه يطلب أولاً أن يتنقى ويغتسل من شروره كلها حينئذ يصبح أهلاً لأن يطوف بمذبح الرب (انظر تثنية ٢١: ٦ ومتّى ٢٧: ٢٤). وهنا صورة عن الكاهن الذي كان يجب عليه أن يغسل يديه قبلما يقدم الذبيحة (راجع خروج ٣٢: ٢٠ الخ) ومن هذا العدد نجد شيئاً من شرح عمل الكاهن وما يقوم به من رسوم وطقوس (انظر خروج ١٩: ١٦).
«٧ لأُسَمِّعَ بِصَوْتِ ٱلْحَمْدِ وَأُحَدِّثَ بِجَمِيعِ عَجَائِبِكَ. ٨ يَا رَبُّ، أَحْبَبْتُ مَحَلَّ بَيْتِكَ وَمَوْضِعَ مَسْكَنِ مَجْدِكَ. ٩ لاَ تَجْمَعْ مَعَ ٱلْخُطَاةِ نَفْسِي، وَلاَ مَعَ رِجَالِ ٱلدِّمَاءِ حَيَاتِي. ١٠ ٱلَّذِينَ فِي أَيْدِيهِمْ رَذِيلَةٌ، وَيَمِينُهُمْ مَلآنَةٌ رَشْوَةً. ١١ أَمَّا أَنَا فَبِكَمَالِي أَسْلُكُ. ٱفْدِنِي وَٱرْحَمْنِي. ١٢ رِجْلِي وَاقِفَةٌ عَلَى سَهْلٍ. فِي ٱلْجَمَاعَاتِ أُبَارِكُ ٱلرَّبَّ».
(٧) هنا يصف وجوده في الهيكل حيثما يسمع ويشترك أيضاً بالحمد والتسبيح للرب. وهناك يخبر الآخرين عما فعله الرب معه من العجائب والعظائم. هو يشتاق للرجوع بعد طول الغياب إلى مراسيم العبادة المعتادة فقد حرمها مدة والآن يرجوها.
(٨) وهنا يظهر كفايته بخدمة العبادة المقدسة. يحق له الطواف حول المذبح الخارجي حيثما كان يسمح لجمهور العابدين أن يكونوا وأما القدس فقد كان للكهنة فقط. هناك يظهر مجده وجلاله ويعاينه كل إنسان.
(٩) يطلب من الله أن يهرب من الذين تأباهم روحه فلا يخالطهم ولا يكون معهم قط. ورجال الدماء هم الذين يقدمون على القتل إذا كانت مصلحتهم تقتضي ذلك ولا قيمة للحياة البشرية في عيونهم.
(١٠) «الرذيلة» تأتي من كلمة تعني القصد الشرير. فهي التي تسبب الصيت الرديء وعدم الطهارة في الفكر والعمل. فهم زناة فاسقون لا يتورعون عن ارتكاب القبائح. وفي الوقت ذاته هم يرتشون يهمهم جمع المال لصرفه في غير طرقه فلا يهمهم إذا جمعوه بغير طرقه أيضاً. ويمينهم التي يجب أن تسبب اليمن والخير والبركة إذا بها تسبب الضرر والحيدان عن الحق لأن الرشوة لا تقدم إلا في سبيل ذلك ولغرض سافل كهذا (راجع تثنية ٢٧: ٢٥).
(١١) يكرر المعنى السابق من جهة الكمال الذي ينشده ويطبقه في حياته. فهو ليس كالذين يذكرهم لذلك فهو سعيد بضميره النقي من كل الشوائب والخطايا والعيوب.
(١٢) وهنا يختم هذا المزمور ويتأكد أن الله يسمع دعاءه ويستجيب صلاته ولا يتركه قط. لقد حسب نفسه من قبل واقفاً في وديان عميقة والضيقات تكتنفه من كل جانب ولا يرى مناصاً أما الآن فهو في السهل الفسيح الممتد أمامه. يعود ليجتمع مع الناس الذين هربوا منه قليلاً أو هو تجنب ازدراءهم. يعود الآن سعيداً مسروراً وأكاليل النصر فوق رأسه. يجد سعادته لأنه قد تخلص من أولئك الأشرار الذين اضطهدوه ولا شيء يؤلم الإنسان مثل صحبة ملزمة لا سبيل للتخلص منها. الآن يشعر المرنم أن الأرض التي يقف عليها ثابتة غير متقلقلة فيلتذ حينئذ أن يرنم للرب مع جمهور العابدين الذين اعتاد أن يشاركهم العبادة ويفرح بمعاشرتهم.

اَلْمَزْمُورُ ٱلسَّابِعُ وَٱلْعِشْرُونَ


لِدَاوُدَ


«١ اَلرَّبُّ نُورِي وَخَلاَصِي، مِمَّنْ أَخَافُ؟ ٱلرَّبُّ حِصْنُ حَيَاتِي، مِمَّنْ أَرْتَعِبُ؟ ٢ عِنْدَ مَا ٱقْتَرَبَ إِلَيَّ ٱلأَشْرَارُ لِيَأْكُلُوا لَحْمِي، مُضَايِقِيَّ وَأَعْدَائِي عَثَرُوا وَسَقَطُوا. ٣ إِنْ نَزَلَ عَلَيَّ جَيْشٌ لاَ يَخَافُ قَلْبِي. إِنْ قَامَتْ عَلَيَّ حَرْبٌ فَفِي ذٰلِكَ أَنَا مُطْمَئِنٌّ. ٤ وَاحِدَةً سَأَلْتُ مِنَ ٱلرَّبِّ وَإِيَّاهَا أَلْتَمِسُ: أَنْ أَسْكُنَ فِي بَيْتِ ٱلرَّبِّ كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِي، لِكَيْ أَنْظُرَ إِلَى جَمَالِ ٱلرَّبِّ، وَأَتَفَرَّسَ فِي هَيْكَلِهِ».
قد يكون أن داود كتب الأعداد الستة الأولى من هذا المزمور فقط وأما البقية فالمرجح أن كتبها كاتب آخر لأن المزمور مقسوم إلى قسمين متباينين.
(١) إن الرب نور عندما تشتد ظلمات الحياة من تعاسة وضيق وحزن وما أشبه يكفيه أن يشرق عليه نور الرب فتتبدد كل ظلمة. وهذه أول مرة يشبه الله بالنور وهو تشبيه بارع لطيف للغاية ونجده (إشعياء ٤٠: ١). أما في العهد الجديد فموجود بكثرة (انظر متّى ٥: ١٣ ويوحنا ١: ٩ و١٢: ٤٦) فالرب نور له لكي يهتدي وخلاص لكي ينجو. بل بعد نجاته يعتز بحصنه فلا يقدر أحد أن يسبب له أي خوف أو اضطراب.
(٢) «ليأكلا لحمي» هذا تعبير قوي كإنما هؤلاء الأعداء وحوش ضارية والكلام مجازي يقصد به الاغتياب والسعاية والنميمة (انظر أيوب ١٩: ٢٢). ولكن هؤلاء الأعداء لا يستطيعون شيئاً لأنهم يعثرون ويسقطون. لأن الساعي بالضرر يضر نفسه أولاً. والذي يلحق الأذى بالغير يكون أول المتأذين. والمرنم يرى اندحار العدو كشيء مسلم به سلفاً لا يحتاج للبرهان.
(٣) وفي هذا العدد يرتفع المرنم لملء الجسارة الروحية المقدسة ولا يقصد قط أن يتباهى ويتفاخر بل أن يفخر بإلهه الذي هو نوره وخلاصه كما افتتح الكلام فالجيش النازل عليه لا يخيفه. وفي وسط المعركة واشتدادها هو مطمئن البال. إن الشجاعة بحد ذاتها ليست عدم الخوف بتاتاً لأن ذلك مستحيل إذ الخوف هو غريزة طبيعية في أي إنسان ولكن الشجاعة هي أن نطمئن في وسط عدم الاطمئنان ونتشجع بالله فقط (راجع أمثال ١٦: ١٥). وقوله «ففي ذلك» أي رغماً عن كل ذلك وهذا لا ينفي وجود الخوف ولكنه يثبت وجود الشجاعة وهذا يكفي المؤمن المتكل على الله لكي ينال الاطمئنان والسلام (انظر لاويين ٢٦: ٢٧ وقابله مع مزمور ٧٨: ٣٢).
(٤) شيء واحد يشتهيه. أجل إن الرب معه ولو كان في وسط الأعداء والمضطهدين يحتمل كل أنواع الضيقات ولكن متمناه الآن أن يكون في بيت الرب. أي أن يكون له تلك المناجاة السماوية والعلاقة الروحية الوطيدة. فهو يود أن ينظر ويتفرس ملياً بجمال القداسة التي ينالها من مثل هذا الاجتماع. هذا حنين عميق جداً يهز أوتار القلوب ويدعو أي إنسان للمثول إلى بيت الله للتعبد والخشوع والصلاة. إن مطلبه الأول هو السكنى بقرب الله وهي عادة قديمة على ما يظهر في الشرق وحتى اليوم إن بعض المنقطعين للعبادة يسكنون الهياكل والمعابد (مثل سمعان الشيخ وحنة لوقا ١).
«٥ لأَنَّهُ يُخَبِّئُنِي فِي مَظَلَّتِهِ فِي يَوْمِ ٱلشَّرِّ. يَسْتُرُنِي بِسِتْرِ خَيْمَتِهِ. عَلَى صَخْرَةٍ يَرْفَعُنِي. ٦ وَٱلآنَ يَرْتَفِعُ رَأْسِي عَلَى أَعْدَائِي حَوْلِي، فَأَذْبَحُ فِي خَيْمَتِهِ ذَبَائِحَ ٱلْهُتَافِ. أُغَنِّي وَأُرَنِّمُ لِلرَّبِّ. ٧ اِسْتَمِعْ يَا رَبُّ. بِصَوْتِي أَدْعُو فَٱرْحَمْنِي وَٱسْتَجِبْ لِي. ٨ لَكَ قَالَ قَلْبِي: قُلْتَ ٱطْلُبُوا وَجْهِي. وَجْهَكَ يَا رَبُّ أَطْلُبُ. ٩ لاَ تَحْجُبْ وَجْهَكَ عَنِّي. لاَ تُخَيِّبْ بِسَخَطٍ عَبْدَكَ. قَدْ كُنْتَ عَوْنِي، فَلاَ تَرْفُضْنِي وَلاَ تَتْرُكْنِي يَا إِلٰهَ خَلاَصِي».
(٥) هنا يشرح المرنم لماذا يريد أن يسكن في بيت الرب وما معنى تلك الشهوة السامية التي اشتهاها. هناك مخبأ له في يوم تشتد فيه الضيقات عليه حتى لا يدري ماذا يفعل. بل يستره داخل خيمته ويحميه ولا يتخلى عنه مهما لحقه الأعداء من الخارج. هو في حرز وأمان لأنه دخل في حمى الرب. فإذا كان الأعرابي حتى الآن يضحي بنفسه وعياله في سبيل إجارة مستجير حتى ولو كان عدواً من قبل فكم بالأحرى الرب يمنح حمايته للاجئين إليه والمتكلين عليه؟ بل إن الرب يرفعه كإنما على صخرة وقد يكون الفكرة لكي يهرب من أمواج البحر المتلاطمة حواليه فهو أرفع منها لا تطاله بأي سوء.
(٦) «والآن» أي وقد نال ما تمناه فهو مرتفع الرأس عالي الجبين. وأولئك الأعداء أصبحوا في أسفل من جراء اندحارهم. لقد قصد الأعداء له ضراً وبه سوءاً ولكن الرب لم يسلم تقيه لأيديهم لذلك هو فخور بما نال سعيد بما أنعم الله عليه وهكذا يتمم فريضة الدين فيذبح ذبيحة الشكر القلبي على هذا الخلاص بل ينشد مع ذلك ويغني أطيب الأغاني والأناشيد الروحية. فإن الذي خلّصه من ضيقه قد وفى بكل مواعيده وحقق له كل رغباته.
(٧) هنا كما ذكرنا نأتي على الأرجح إلى قسم متميز عن المزمور يكاد لا يمت لما تقدم بأية صلة. وكل ما هنالك أنه يتابع فكرة وجود الضيق ويطلب الرحمة من الله أن ينجيه مع أنه من قبل ذلك أن الله ستره وخبأه وارتفع على أعدائه. لذلك هنا انحدار في المعاني عما تقدم. يتذلل أمام الرب ويصرخ ويستنجد ويسترحم وكأنما الاستجابة بعيدة عنه.
(٨) هنا أيضاً يرى أن يطلب وجه الرب أي يلتمس رضاه. وفي تكرار المعنى «وجهك يا رب أطلب» توكيد جميل للغاية (انظر أيوب ٤٣: ٣) إن الله يأمرنا أن نطلب وجهه والمرنم يصدع بالأمر ويطل بما يريده الرب منه. واتكاله هنا ليس بالنسبة لأي قول معين بل بالنسبة لمواعيد الرب وعهوده بصورة عامة.
(٩) في هذه الأدعية القصيرة جمال وروعة فهي تتعاقب آخذه بعضها برقاب بعض تصور لنا إنساناً ملهوفاً يتكلم كلاماً كثيراً وبسرعة طالباً العون والنجاة. يلتمس وجه الرب بأن هذا الوجه لا ينحجب عنه ولا يبتعد ويلتمس أن ينجح في طلبه ثم يذكر الرب بأنه كان عونه سابقاً فليسكن كذلك لاحقاً أيضاً. وينهي الدعاء بأن يكون مقبولاً ولا يترك من الخلاص.
«١٠ إِنَّ أَبِي وَأُمِّي قَدْ تَرَكَانِي وَٱلرَّبُّ يَضُمُّنِي. ١١ عَلِّمْنِي يَا رَبُّ طَرِيقَكَ، وَٱهْدِنِي فِي سَبِيلٍ مُسْتَقِيمٍ بِسَبَبِ أَعْدَائِي. ١٢ لاَ تُسَلِّمْنِي إِلَى مَرَامِ مُضَايِقِيَّ، لأَنَّهُ قَدْ قَامَ عَلَيَّ شُهُودُ زُورٍ وَنَافِثُ ظُلْمٍ. ١٣ لَوْلاَ أَنَّنِي آمَنْتُ بِأَنْ أَرَى جُودَ ٱلرَّبِّ فِي أَرْضِ ٱلأَحْيَاءِ ١٤ ٱنْتَظِرِ ٱلرَّبَّ. لِيَتَشَدَّدْ وَلْيَتَشَجَّعْ قَلْبُكَ وَٱنْتَظِرِ ٱلرَّبَّ».
(١٠) هنا منتهى الاستعطاف بل من أروع مظاهر الإيمان الحي. فلا محبة أعظم ولا عناية أتم من عناية الوالدين بأولادهم ولكن! هنا يصور محبة أعظم مما تشاهد في الوالدين أيضاً وهي ما يظهره الله نحو المؤمنين به والملتمسين رضاه. لو قال المرنم «ولو تركت أبي وأمي فالرب يضمني». لحسبنا الكلام لداود وناسب تماماً مع ما ورد في (١صموئيل ٢٢: ٣ وما بعده). وقوله يضمني أي لو تركت يتيماً فإن الرب يجعلني من أحد أفراد عائلته الكبرى.
(١١) يلتمس أن ينجو من كل المخاطر كأنه وعل مطارد من صيادين يطلبون أن يمسكوه. ولأنه أصبح الآن في عداد عائلة الله الذين نالوا محتماه لذلك فهو يلتمس أن يتعلم كيف يسلك في طرق الله. ويلتمس الهداية لئلا يسقط في يد أعدائه اللاحقين به ليلاً ونهاراً.
(١٢) وهو يرجو أن ينال خلاصاً تاماً من هؤلاء الأعداء ويطلب من إلهه أن لا يسلمه لأيديهم لا سيما وهم قوم ظلام شهدوا عليه زوراً وأرادوا به سوءاً ولم يتهيبوا قط من أي الأشياء.
(١٣) يظهر هذا العدد كإنما هو ناقص لأنه بقوله «لولا» كنا ننتظر أن نسمع منه ماذا يحدث يا ترى؟ كما وأنه في قوله «آمنت» كإنما يعني شيئاً حدث في الماضي ولا علاقة له في الحاضر والمستقبل بل بالعكس فإن المعنى هو الإتمام أي أنه مؤمن حقاً بإلهه ولذلك يرى جود الرب عليه وعلى كل حي. فكما أن الخطر موجود ومداهم والأعداء كثار ويتعقبونه مع ذلك فهو مؤمن. فيكون الجواب في هذا الترجي باولا أنه يكفيه إيمانه بالله فيرى جوده ويتمتع به.
(١٤) وهذا الإيمان يدعوه أن ينتظر لأن الإيمان إذا لم ينتظر فهو ليس إيماناً بالمعنى الحقيقي ولا هو اتكال. يبدأ العدد بقوله انتظر الرب وثم يختمه بالكلمات ذاتها انتظر الرب وفي هذا التكرار توكيد جميل للمعنى الذي يقصده. ولا سيما قد وضع بينهما هذه العبارة أن يتشدد ويتشجع لأن الانتظار بدون ذلك لا يفيد شيئاً. عليه أن ينتظر سعيداً فرحاناً. لأن الشجاعة لا تتحقق ولا تكمل نتائجها إلا بمثل هذا الانتظار.


اَلْمَزْمُورُ ٱلثَّامِنُ وَٱلْعِشْرُونَ


لِدَاوُدَ


«١ إِلَيْكَ يَا رَبُّ أَصْرُخُ. يَا صَخْرَتِي لاَ تَتَصَامَمْ مِنْ جِهَتِي لِئَلاَّ تَسْكُتَ عَنِّي فَأُشْبِهَ ٱلْهَابِطِينَ فِي ٱلْجُبِّ. ٢ ٱسْتَمِعْ صَوْتَ تَضَرُّعِي إِذْ أَسْتَغِيثُ بِكَ وَأَرْفَعُ يَدَيَّ إِلَى مِحْرَابِ قُدْسِكَ. ٣ لاَ تَجْذِبْنِي مَعَ ٱلأَشْرَارِ، وَمَعَ فَعَلَةِ ٱلإِثْمِ ٱلْمُخَاطِبِينَ أَصْحَابَهُمْ بِٱلسَّلاَمِ وَٱلشَّرُّ فِي قُلُوبِهِمْ. ٤ أَعْطِهِمْ حَسَبَ فِعْلِهِمْ وَحَسَبَ شَرِّ أَعْمَالِهِمْ. حَسَبَ صُنْعِ أَيْدِيهِمْ أَعْطِهِمْ. رُدَّ عَلَيْهِمْ مُعَامَلَتَهُمْ».
(١) ينقسم هذا المزمور أيضاً إلى قسمين كما هي الحالة في المزمور السابق. قد يختلف القسم الواحد عن الآخر في شكل النظم ولكنهما يتفقان في المعاني والأفكار. وأصداء هذا المزمور موجودة في إشعياء وإرميا بصورة محسوسة. القسم الأول هو (عدد ١ - ٥) وهو تضرع لله. يبدأ المزمور بصرخة استغاثة ذلك لأن الرب هو صخرة خلاصه وإذا سكت الله وتصام عنه فهو يشبه المائتين الذين لا رجاء لهم (انظر إشعياء ١٤: ١٩).
(٢) يرفع يديه إلى محراب قدسه أي قدس الأقداس. والكلمة في العبرانية تفيد مؤخرة الهيكل أي المحل الخلفي منه حيثما لا يصله الناس في كل وقت. لذلك فهو يستند بأقدس مكان لأهم الأمور.
(٣) يلتمس أن لا يصحب الأشرار والأثمة (انظر حزقيال ٣٢: ٢٠ و١٠: ٩ وأيوب ٢٤: ٢٥). هؤلاء هم الأعداء فإذا تغلبوا عليه وقهروه فهو منجذب معهم وخاضع لهم ويكون نصيبه كنصيبهم الدمار. إنهم أشرار لأنهم بوجهين ولسانين إذ يتكلمون بالسلام ولا يعنونه. يضمرون غير ما يظهرون (انظر إرميا ٩: ٧) هم مخادعون كذابون (هوشع ٩: ١٤ وإرميا ٣٢: ١٩).
(٤) يطلب المرنم لهم جزاء أفعالهم (راجع إشعياء ٣: ٨ - ١١ و١: ١٦). هو يطلب لهم الانتقام من الله ولا يريد أن ينتقم لنفسه. أما الطلب فيتضمن شكراً لله على أنه لم يجذبه معهم ليفعل أفعالهم الرديئة وكان على صواب عظيم في طلبه هذا. ثم هو يتضمن أيضاً إظهار عدل الله في حكمه هذا العالم وتسييره أموره وإلا كان الأمر فوضى ولا رابطة تربط بين عمل ونتيجة وبين عامل شرير وجزاء أعماله الشريرة. وهكذا فلا يغتر الأشرار برحمة الله ويحسبون طول أناته كأنه لن يحاسب أبداً. والله يجازي ليس على العمل فقط بل على التصميم وإرادة العمل ذاته لأن الذين يسيئون قد يفعلون ذلك بالإرادة ولا يضعونها موضع التنفيذ ولكنهم ينفذون متى سنحت لهم الظروف بذلك.
«٥ لأَنَّهُمْ لَمْ يَنْتَبِهُوا إِلَى أَفْعَالِ ٱلرَّبِّ وَلاَ إِلَى أَعْمَالِ يَدَيْهِ يَهْدِمُهُمْ، وَلاَ يَبْنِيهِمْ. ٦ مُبَارَكٌ ٱلرَّبُّ لأَنَّهُ سَمِعَ صَوْتَ تَضَرُّعِي. ٧ ٱلرَّبُّ عِزِّي وَتُرْسِي. عَلَيْهِ ٱتَّكَلَ قَلْبِي، فَٱنْتَصَرْتُ. وَيَبْتَهِجُ قَلْبِي وَبِأُغْنِيَتِي أَحْمَدُهُ. ٨ ٱلرَّبُّ عِزٌّ لَهُمْ، وَحِصْنُ خَلاَصِ مَسِيحِهِ هُوَ. ٩ خَلِّصْ شَعْبَكَ وَبَارِكْ مِيرَاثَكَ وَٱرْعَهُم وَٱحْمِلْهُم إِلَى ٱلأَبَدِ».
(٥) يعجب المرنم من قساوة قلوب هؤلاء الأعداء فهم بلا خجل يتعامون عما فعله الله من عظائم وأفعال عجيبة تجاه الممسوح من قبله ملكاً على إسرائيل. لقد وعد الله داود أن يبني بيته ويحفظه (٢صموئيل ٧) وهو صادق أمين. فإذاً كل انتقاض على هذا الترتيب هو مخالف لأمر الله وترتيبه. وهكذا فكما أن الله سيبني داود هو في الوقت ذات سيهدم كل ما عداه من أعداء.
(٦) هنا يبدأ القسم الثاني من المزمور فكما أن القسم الأول هو تضرع للنجدة والانتقام من الأعداء فهنا شكر قلبي لأن الله قد سمع التضرع وأنجد تقيه وخذل أعداءه. قد يكون أن الناظم كتب القسم الأول من المزمور ثم بعد حين عاد فكتب القسم الثاني بعد أن تحقق ما فعله الله معه وكيف نجاه من الضيق والخطر. فهذا القسم هو بيان لما حصل كشيء تاريخي وليس شيئاً تمناه أن يحدث وهو لم يحدث بعد.
(٧) الرب مجده وعزه. الرب ترسه وملجأه في الضيقات. هو متكله ولذلك انتصر ولو اتكل على أي شيء أو إنسان لانخذل. وهكذا من الضيق يخرج الابتهاج وبعد التأوهات والتنهدات يتبدل الصوت بالهزج والنشيد.
(٨) في هذا العدد يلتفت داود للكلام عن الشعب فهو (أي الرب) عز لهم وليس للملك فقط. لأن الخلاص الذي أعده للملك هو خلاص لشعبه أيضاً. وما أجمل العلاقة الكائنة بين ملك محبوب وشعب يريد مليكه ويتغنى بخدمته بل يتفانى بإظهار الطاعة والخضوع طالما يمشي في رفع الشعب وترقيته وإسعاده.
(٩) يلتمس لشعبه الخلاص والبركة. وهنا صورة الراعي الحنون الذي يرعى شعبه بالخير والسلام ويحمل ضعفاتهم وأثقالهم. الرب يحمل خاصته كما يقول (تثنية ١: ٣١) كالأب يحمل ابنه. وأما (خروج ١٩: ٤ وتثنية ٣٢: ١١) يحملون على أجنحة النسور. وفي (إشعياء ٤٣: ٩) يحملون لأنهم ضعفاء لا يستطيعون مواجهة المصاعب لذلك فالرب ينجيهم منها ويسندهم ويقيل عثراتهم.
إن الله يستجيب صلاة المؤمن ولا يتصام عن صراخه ولكن عليه أن يؤمن وينتظر ولا يستعجل ولا يطلب الأمور أن تجري على هواه بل حسب قصده الإلهي ومشيئته تعالى.


اَلْمَزْمُورُ ٱلتَّاسِعُ وَٱلْعِشْرُونَ


مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ


«١ قَدِّمُوا لِلرَّبِّ يَا أَبْنَاءَ ٱللّٰهِ، قَدِّمُوا لِلرَّبِّ مَجْداً وَعِزّاً. ٢ قَدِّمُوا لِلرَّبِّ مَجْدَ ٱسْمِهِ. ٱسْجُدُوا لِلرَّبِّ فِي زِينَةٍ مُقَدَّسَةٍ. ٣ صَوْتُ ٱلرَّبِّ عَلَى ٱلْمِيَاهِ. إِلٰهُ ٱلْمَجْدِ أَرْعَدَ. ٱلرَّبُّ فَوْقَ ٱلْمِيَاهِ ٱلْكَثِيرَةِ. ٤ صَوْتُ ٱلرَّبِّ بِٱلْقُوَّةِ. صَوْتُ ٱلرَّبِّ بِٱلْجَلاَلِ. ٥ صَوْتُ ٱلرَّبِّ مُكَسِّرُ ٱلأَرْزِ، وَيُكَسِّرُ ٱلرَّبُّ أَرْزَ لُبْنَانَ»
(١) يمكننا أن نسمي هذا المزمور مزمور صوت الرب إذ يكرر هذا التعبير سبع مرات فيه. والأرجح أنه كتب بمناسبة صاعقة نزلت من السماء فاغتنمها المرنم فرصة لتعظيم اسم الله. وكما أن ذكر الرب في المزمور التاسع عشر وارد سبع مرات فهو إله الشريعة كما أنه إله الطبيعة في المزمور ذاته أبناء الله هؤلاء هم الملائكة أو رؤساء الملائكة. أو يقصد نسل الآلهة الآخرين الذين اتخذهم بقية الأمم أرباباً لهم. فهو يريد أن يخص بالله فقط السجود حتى من هؤلاء أنفسهم (انظر خروج ١٥: ١١ ودانيال ٩: ٣٦) وأن نعطي الحمد لاسمه المجيد. وفي تكرار «قدموا» أو «هبوا» كما في العبرانية يوجد توكيد ظاهر لطيف.
(٢) ويطلب تقديم المجد والسجود للرب في هيبة ووقار. أي أن يلبس العابدون ثياباً لائقة مناسبة (انظر ٢أخبار ٢٠: ٢١) إن الرب يريد أن يظهر بمجده لذلك فعلى الأجناد السماوية أن تعد ذاتها لمثل هذا المظهر العظيم. وهنا على ما يرجح ليس الخطاب موجهاً لجمهور العابدين بل لتلك الزمرة السماوية. ونجد شبيهاً لذلك في سفر الرؤيا حيث يصور يوحنا اللاهوتي الملائكة بأبواقهم قبل الدينونة.
(٣) هنا يبدأ المرنم بأن يرينا وصفاً دقيقاً لماذا يعطي المجد لله. هنا تبدأ العاصفة بمياهها العظيمة وبرقها ورعدها وزوابعها. وقوله الرب فوق المياه فليست المياه هنا لتعني المياه السفلى أو البحر المتوسط بل هي تجمع الغيوم المتلبدة التي تحمل الأمطار وتنقلها من مكان لآخر. وصوته الأول في الرعد القاصف فهو ممجد في العلى.
(٤) ونكاد نسمع في هذا العدد استمرار الرعد فهو لم يحدث مرة فقط بل مستمر بشدة حتى يكاد يزلزل السموات بصوته. ولكنه صوت ظاهر بالجلال والعظمة لا يستطيع البشر أن يقلدوه أو يفعلوا مثله. وهوذا الرعد يقترب وينحدر نزولاً حتى يصل إلى كل مكان.
(٥) وهو يكسر الأرز القوي الجبار فكم بالأحرى أي أنواع الأشجار. والناظم هنا يريد أن يصور لنا عز الله وجبروته ويقابل ذلك مع أعظم الأشجار وأثبتها في وجه العواصف فإذا هي ليست شيئاً.
«٦ وَيُمْرِحُهَا مِثْلَ عِجْلٍ. لُبْنَانَ وَسِرْيُونَ مِثْلَ فَرِيرِ ٱلْبَقَرِ ٱلْوَحْشِيِّ. ٧ صَوْتُ ٱلرَّبِّ يَقْدَحُ لُهُبَ نَارٍ. ٨ صَوْتُ ٱلرَّبِّ يُزَلْزِلُ ٱلْبَرِّيَّةَ. يُزَلْزِلُ ٱلرَّبُّ بَرِّيَّةَ قَادِشَ. ٩ صَوْتُ ٱلرَّبِّ يُوَلِّدُ ٱلإِيَّلَ، وَيَكْشِفُ ٱلْوُعُورَ، وَفِي هَيْكَلِهِ ٱلْكُلُّ قَائِلٌ: مَجْدٌ. ١٠ ٱلرَّبُّ بِٱلطُّوفَانِ جَلَسَ، وَيَجْلِسُ ٱلرَّبُّ مَلِكاً إِلَى ٱلأَبَدِ. ١١ ٱلرَّبُّ يُعْطِي عِزّاً لِشَعْبِهِ. ٱلرَّبُّ يُبَارِكُ شَعْبَهُ بِٱلسَّلاَمِ».
(٦) يتكلم هنا عن الأرز فيرميه كما ترتمي العجول متمرغة على الأعشاب وذكره لبنان وسريون (والأرجح هو جبل الشيخ) أي الأشجار الباسقة التي عليها فإن قوة الله تكسرها وترميها. وقد يكون إشارة أن زوابع الله تصل إلى قمم هذه الجبال وتجعلها تلبس جلال الرب. وهذه الجبال كما يصورها كانت تحوي حيوانات كثيرة ترعى فيها. الريم أو البقر الوحشي وهو من أنواع الوعول ذات القرون التي تشبه الأغصان المشتبكة. فالرياح تهز الأشجار وتكسرها والزلازل تحطم الجبال.
(٧) وبعد كل رعد كان يعقبه ومض برق يملأ الفضاء البعيد. فهو يشغل الحاستين الهامتين في الإنسان وهما السمع والبصر.
(٨) هنا يمتد المرنم ببصره إلى القفر البعيد وإلى برية فارس فيرى أن صوت الرب يزلزل البرية ويرجفها حتى برية قادش أي العربة. فهو يطال أعالي الجبال الشوامخ كما يطال السهول والبراري ولا شيء يستطيع أن يقف في وجهه أو يقول له ماذا تفعل. إن للطبيعة روعتها وجلالها فيجب أن يكون الذي أوجدها أجلّ وأروع.
(٩) قد يكون أن الرعب الذي يستولي على الأيائل بسبب البروق والرعود إنها تلد مبكرة. وقد ذكر (بليني) إن ولادة الأيائل صعبة وقد يكون خوفها يسهل ولادتها ولا تشعر عندئذ بآلام المخاض كالمعتاد. وهنا إشارة أن هذا الحيوان كان موجوداً ولا يزال له بقية في بلاد التوراة. وهذا الحيوان قد علمته الطبيعة أن يكون جباناً يفزع من أعداءه الحيوانات بسرعة لينجو ولا عجب أن يكون خوفه الشديد من الرعود يجعله يلد قبل الأوان ليخلص من خطر. أما قوله يكشف الوعور أي أن مختلف الحيوانات تترك مآويها وتهرب وهكذا تنكشف الآجام ويعرف ما فيها. ثم ينهي العدد مسكناً الأعصاب ويدعونا لندخل هيكل الله ولنعط مجداً لله. وما أجمل أن نستعمل هذا المزمور في وقت الرعود.
(١٠) كلمة طوفان العبرانية هنا هي التي وردت في ذكر الطوفان أيام نوح قديماً فقد يكون إشارة لذلك الحادث القديم وإن الله قد نجا عبده نوح الذي اتكل عليه وبالتالي ينجينا. أو قصد المرنم أن يخبرنا أن لا نخاف من أي مياه أو أنهار أو سيول أو مخاطر بحار لأن الرب جالس في كل مكان وهو هناك أيضاً. وهو الملك الحاكم المتسلط الآن وكل وقت إلى الأبد.
(١١) إن الرب يعطي شعبه قوة وبركة لكي يعبدوه بخوف ورعدة ويرفعوا قلوبهم إلى عرشه السماوي (انظر أيوب ٣٦: ٢٥). وعاقبة التقوى هي السلام الدائم. وإذا كان رعد الرب يجعل الأرض كلها وجميع ساكنيها ترتعب وترتجف وأما الذين له فيرفعون رؤوسهم فرحين.


اَلْمَزْمُورُ ٱلثَّلاَثُونَ


مَزْمُورٌ أُغْنِيَةُ تَدْشِينِ اَلْبَيْتِ. لِدَاوُدَ


«١ أُعَظِّمُكَ يَا رَبُّ لأَنَّكَ نَشَلْتَنِي وَلَمْ تُشْمِتْ بِي أَعْدَائِي. ٢ يَا رَبُّ إِلٰهِي ٱسْتَغَثْتُ بِكَ فَشَفَيْتَنِي. ٣ يَا رَبُّ، أَصْعَدْتَ مِنَ ٱلْهَاوِيَةِ نَفْسِي. أَحْيَيْتَنِي مِنْ بَيْنِ ٱلْهَابِطِينَ فِي ٱلْجُبِّ. ٤ رَنِّمُوا لِلرَّبِّ يَا أَتْقِيَاءَهُ، وَٱحْمَدُوا ذِكْرَ قُدْسِهِ. ٥ لأَنَّ لِلَحْظَةٍ غَضَبَهُ. حَيَاةٌ فِي رِضَاهُ. عِنْدَ ٱلْمَسَاءِ يَبِيتُ ٱلْبُكَاءُ، وَفِي ٱلصَّبَاحِ تَرَنُّمٌ. ٦ وَأَنَا قُلْتُ فِي طُمَأْنِينَتِي: لاَ أَتَزَعْزَعُ إِلَى ٱلأَبَدِ».
لقد دعا المرنم في المزمور السابق زمرة الملائكة لمثل هذا الحمد. وقد ذهب العالم هتزج إن هذا المزمور قد كتبه إرميا ولكن أغلب المفسرين يرون إن هذا التشابه في الكتابة قد يكون أن إرميا نفسه قد تأثر من المزامير وليس دليلاً أنه هو كتبها والإشارة هنا للهاوية والجب هو من قبيل المجاز. أما الإشارة في العنوان «تدشين البيت» اي مركز بناء الهيكل (٢صموئيل ٢٤: ١ و١أخبار ٢١) وليس في هذا المزمور ما يرينا تدشين الهيكل لأنه لم يبن إلا في أيام سليمان. والإشارة لجبل الموريا مركز الهيكل. بل قد يكون إشارة للقلعة التي بناها داود وهي حصن داود (انظر ٢صموئيل ٥: ١٢) أو بيت سكنه هناك. وكان يتلى هذا المزمور للتدشين (انظر ١مكابيين ٤: ٥٢).
(١) إن الأعداء يفرحون في سقوطه بالحفرة ولكن الله قد نشله منها ونجاه ولذلك فلن يفرح الأعداء بمصيبته هذه.
(٢) وهنا قد يكون الكلام مجازاً كما في العدد الأول فيتكلم عن الشفاء كأنه كان مريضاً لقد استغاث بالله فأغاثه ونجاه من كل خطر وضيم.
(٢) وكذلك فإن الله لم يتركه في الهاوية ولم يتخلّ عنه قط. لقد كان شبه ميت وأما الآن فهو حي قوي كان هابطاً في الحفرة فصعد وكان عديم الهمة والقوة فأصبح نشيطاً يعيش بين الأحياء ليبارك الرب.
(٣) يدعو الأتقياء للفرح والابتهاج بالرب وطريقة ذلك بالترنم لاسم العلي. ويطلب إليهم أن يذكروا اسم قدسه. وهنا أول إشارة في المزمور للتدشين ويتابع المعنى في العدد السابع حينما يذكر تثبيت عز الجبل أي «موريا».
(٥) وهو يشجع هؤلاء الأتقياء أن يعتصموا بالرب دائماً لأن غضبه قليل بالنسبة لرضاه. فهو رحيم ورؤوف وإن غضب فلشيء وقتي ويصفح وأما رضاه فهو شيء دائم. إذاً فالغضب الإلهي ليس أمراً طبيعياً فيه لأنه يريد الرضا والصفح دائما (انظر إشعياء ١٧: ١٤). حتى ولو بتنا والبكاء حليفنا فسننهض إلى صباح بهيج. لذلك فإن الله لن يتخلى عن أتقيائه ولا يسمح لهم أن يحزنوا ويبكوا طويلاً.
(٦) أخطأ داود من قبل وأغاظ الرب. والرب صفح عنه. وقد تكبر وتجبر واعتبر العطية ونسي الله الذي أعطاها. لقد حسب حساب نعمه ولكنه أغفل المنعم. لذلك ففي حاله رخائه وبحبوحته قال لا أتزعزع كإنما ثباته هو منه ولكن الصواب هو أن الله وحده قادر أن يثبته ويحفظ نسله. وهكذا يفسر معناه في العدد الذي يلي إذ يطلب رضا الرب ويعترف بفضله العميم.
«٧ يَا رَبُّ، بِرِضَاكَ ثَبَّتَّ لِجَبَلِي عِزّاً. حَجَبْتَ وَجْهَكَ فَصِرْتُ مُرْتَاعاً. ٨ إِلَيْكَ يَا رَبُّ أَصْرُخُ، وَإِلَى ٱلسَّيِّدِ أَتَضَرَّعُ. ٩ مَا ٱلْفَائِدَةُ مِنْ دَمِي إِذَا نَزَلْتُ إِلَى ٱلْحُفْرَةِ؟ هَلْ يَحْمَدُكَ ٱلتُّرَابُ؟ هَلْ يُخْبِرُ بِحَقِّكَ؟ ١٠ ٱسْتَمِعْ يَا رَبُّ وَٱرْحَمْنِي. يَا رَبُّ كُنْ مُعِيناً لِي. ١١ حَوَّلْتَ نَوْحِي إِلَى رَقْصٍ لِي. حَلَلْتَ مِسْحِي وَمَنْطَقْتَنِي فَرَحاً، ١٢ لِكَيْ تَتَرَنَّمَ لَكَ رُوحِي وَلاَ تَسْكُتَ. يَا رَبُّ إِلٰهِي إِلَى ٱلأَبَدِ أَحْمَدُكَ».
(٧) الجبل هنا هو جبل صهيون المنيع بمركزه الطبيعي وقد زاده مناعة ما أقام فيه من استحكامات وحصون. ولكن هذه الأشياء ليست شيئاً إذا لم يرض الله عليه لأنه يقول حينما حجب وجهه عنه أصبح مرتاعاً يخاف من أي المخاطر.
(٨) لقد اذنب داود وهو يتوب الآن ويصلي لله بكل حرارة ويتضرع. وهنا تكرار لطيف للتوكيد.
(٩) السؤال عن دمه ليس من الضروري أنه كان في خطر بل كأنه يقول لماذا أقتل واذبح قبل ميعاد موتي؟ (انظر أيوب ١٦: ١٨). بل إذا فعل الرب هذا فكيف يستطيع الإنسان أن يقدم حمده وتسبيحه له. لذلك فهو يلتمس إطالة الحياة ليس لزيادة تمتعه بالخيرات الزمنية والمسرات العالمية ولكن لمجد الله وحمده. ولا يرى أن التراب الذي يتحول إليه الإنسان بعد موته يمكنه أن يحمد الله ويكون معه كل حين. وكانت الهاوية مقر الأموات وأما السماء فهي مقر أبناء الله والملائكة. ولم يعرف بعد الخلاص وحياة الخلد بعد القبر.
(١٠) هنا ارتداد في المعنى للعدد الثامن أي تضرع لله في طلب العون والرحمة والرضوان.
(١١) إن الله قد أعطاه خلاصاً وفرحاً في الوقت الأنسب. لقد اختبر المرنم ضيقات عظيمة فنجده ينزل إلى أعمال الآلاء والمتاعب ثم بعد حين ينهض ويجدد قوة.
(١٢) فهو سعيد لا يستطيع السكوت. ويحمد الرب إلهه إلى الأبد لأنه مخلص نفوس المتكلين عليه.


اَلْمَزْمُورُ ٱلْحَادِي وَٱلثَّلاَثُونَ


لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ. مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ


«١ عَلَيْكَ يَا رَبُّ تَوَكَّلْتُ. لاَ تَدَعْنِي أَخْزَى مَدَى ٱلدَّهْرِ. بِعَدْلِكَ نَجِّنِي. ٢ أَمِلْ إِلَيَّ أُذُنَكَ. سَرِيعاً أَنْقِذْنِي. كُنْ لِي صَخْرَةَ حِصْنٍ، بَيْتَ مَلْجَإٍ لِتَخْلِيصِي. ٣ لأَنَّ صَخْرَتِي وَمَعْقِلِي أَنْتَ. مِنْ أَجْلِ ٱسْمِكَ تَهْدِينِي وَتَقُودُنِي. ٤ أَخْرِجْنِي مِنَ ٱلشَّبَكَةِ ٱلَّتِي خَبَّأُوهَا لِي لأَنَّكَ أَنْتَ حِصْنِي. ٥ فِي يَدِكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي. فَدَيْتَنِي يَا رَبُّ إِلٰهَ ٱلْحَقِّ».
(١) يبدأ المرنم هذا المزمور بصلاة لأجل الخلاص. ويشعر في أعماق نفسه أنه لا يخزى أبداً بل يرى مسبقاً أن الله سيعينه وينجيه ويمنحه سؤل قلبه. هذا هو رجاؤه القوي في الله. ويطلب من الله أن ينصفه من أعدائه.
يصوّر المرنم حالة ضيق شديدة. أمور كثيرة وأحزان سابقة ولاحقة تتنازعه. وفي الوقت ذاته يشعر أن الله قريب إليه لا يتخلى عنه أبداً. بل يدعو جميع الصديقين أمثاله أن يشاركوه هذا الفرح العظيم بنجاته الأكيدة المنتظرة كما في (العدد ٢٣). وقد ذهب بعض العلماء أن إرميا هو الكاتب (قابل العدد ١٤ بما ورد في إرميا ٢٠: ١٨). كذلك (قابل العدد ١٨ بما ورد في إرميا ١٧: ١٨ والعدد ٢٣ بما ورد في مراثي ٣: ٥٤).
(٢) وهنا يبدأ بسلسلة ابتهالات صغيرة يلتمس من الله أن يصغي إليه وينقذه بسرعة. صخرة حصن وفي العبرانية تناسب «معاذ» أي مكان يستفيد به الإنسان للحماية والحفظ.
(٣) ولا يصل الإنسان إلى هذه المنجاة إلا بواسطة هداية وقيادة خاصة توصله إلى ما يريد. إن داود وهو الأرجح كاتب هذا المزمور كان عميقاً كلما ازداد تأثراً بالأحزان. إن الله وحده قادر أن يحمينا وينجينا (انظر أمثال ١٨: ١٠).
(٤) إن هؤلاء الأعداء ماكرون قساة يتظاهرون بالصداقة ولكنهم لا يتممون شروطها وهكذا هم وضعوا شبكة في طريقه يصطادونه بها. لقد أخفوها عن العيون لكي يباغتوه بها مباغتة ولكن الله حصنه فهو وحده ينجيه ويعينه.
(٥) يلتفت لمصدر العون ويسلم ذاته تسليماً تاماً كاملاً. ذلك لأن الله فداه. منه وبه الحق وعليه أن يتكل عليه الاتكال الكامل.
«٦ أَبْغَضْتُ ٱلَّذِينَ يُرَاعُونَ أَبَاطِيلَ كَاذِبَةً. أَمَّا أَنَا فَعَلَى ٱلرَّبِّ تَوَكَّلْتُ. ٧ أَبْتَهِجُ وَأَفْرَحُ بِرَحْمَتِكَ لأَنَّكَ نَظَرْتَ إِلَى مَذَلَّتِي، وَعَرَفْتَ فِي ٱلشَّدَائِدِ نَفْسِي، ٨ وَلَمْ تَحْبِسْنِي فِي يَدِ ٱلْعَدُوِّ، بَلْ أَقَمْتَ فِي ٱلرُّحْبِ رِجْلِي. ٩ اِرْحَمْنِي يَا رَبُّ لأَنِّي فِي ضِيقٍ. خَسَفَتْ مِنَ ٱلْغَمِّ عَيْنِي. نَفْسِي وَبَطْنِي. ١٠ لأَنَّ حَيَاتِي قَدْ فَنِيَتْ بِٱلْحُزْنِ وَسِنِينِي بِٱلتَّنَهُّدِ. ضَعُفَتْ بِشَقَاوَتِي قُوَّتِي وَبَلِيَتْ عِظَامِي».
(٦) قد تترجم «أباطيل كاذبة» بعبادة الأوثان أيضاً. أو الذين يتبعون العرافة والتنجيم. قد يوجد أناس كثيرون يتبعون هؤلاء المشعوذين ويثقون بهم ولكن داود قد كره هؤلاء جميعاً وأبغضهم لأنه اتكل على إلهه فقط وكل ما عدا ذلك فهو باطل ولا يمكنه أن ينجي. وكل جبروته لم يستطع أن يخيفه لأن سلاحه برب الجنود.
(٧) إن الرجاء كله هو بالله وهذا الرجاء يعطينا البهجة والفرح. لا شك أن الحياة ملأى بالمتاعب والضيقات وهي كثيرة وعظيمة فهل لنا رجاء أعظم من هذه كلها يستطيع أن يبتلعها كلها ويتغلب عليها؟ إن الرب لا يتخلى عن الذين يتذللون أمامه ويندمون على خطاياهم. علينا أن نبتعد عن تشامخنا وكبريائنا ولتكن الشدائد دروساً تعلمنا معنى الحياة الفضلى.
(٨) إذا فعلنا ذلك فلن يطالنا العدو بسوء ولن نتضايق من أي الأمور بل بالعكس ستكون الحياة سهلة ورحبة أمامنا. ليس إنه لن يكون شدائد وضيقات بل سيكون كذلك ولكن سيعطينا الله عندئذ قوة للاحتمال. هنا عمل الإيمان فعلينا أن نختبر ما يجعل هذا المزمور ينبض بالقوة والحياة. علينا أن نشهد لما فعله الله معنا وحينما يقيمنا الله في رحب علينا أن نعترف بذلك ونجاهر لأن الشهادة في حينها ضرورية.
(٩) هنا الكلام يشبه ما تفوه به أيوب فهو يعتقد أنه متضايق عينه مغمومة وجسده كله في ضعف وانحطاط. ولا ندري هل الكلام حقيقي أم هو من قبيل المجاز. ونستغرب كيف أن المرنم يفارقه فرحه ويصبح في هذا الحزن الشديد هل طرأ عليه مرض أو انخذال؟ هل تغلب عليه الخوف وذهبت عنه الشجاعة؟
(١٠) لا سيما في هذا العدد فهو يؤكد العدد السابق ويزيده شرحاً وقد يكون كتابة هذا المزمور في أخريات أيامه. لأن قوله «حياتي قد فنيت» يدل على انحطاط قوته واقترابه رويداً إلى خطر الموت. هوذا الحزن العميق ينتابه فيضطر أن يتنهد وينتحب. وإذا قوته تتلاشى بل تسرب هذا التلاشي حتى عظامه. فهو كليل ضعيف من كل وجه. حالته صعبة مؤسفة تصور الشيخوخة في أشد حالاتها تقهقراً وضعفاً.
«١١ عِنْدَ كُلِّ أَعْدَائِي صِرْتُ عَاراً وَعِنْدَ جِيرَانِي بِٱلْكُلِّيَّةِ، وَرُعْباً لِمَعَارِفِي. ٱلَّذِينَ رَأَوْنِي خَارِجاً هَرَبُوا عَنِّي. ١٢ نُسِيتُ مِنَ ٱلْقَلْبِ مِثْلَ ٱلْمَيْتِ. صِرْتُ مِثْلَ إِنَاءٍ مُتْلَفٍ. ١٣ لأَنِّي سَمِعْتُ مَذَمَّةً مِنْ كَثِيرِينَ. ٱلْخَوْفُ مُسْتَدِيرٌ بِي بِمُؤَامَرَتِهِمْ مَعاً عَلَيَّ. تَفَكَّرُوا فِي أَخْذِ نَفْسِي. ١٤ أَمَّا أَنَا فَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ يَا رَبُّ. قُلْتُ: إِلٰهِي أَنْتَ. ١٥ فِي يَدِكَ آجَالِي. نَجِّنِي مِنْ يَدِ أَعْدَائِي وَمِنَ ٱلَّذِينَ يَطْرُدُونَنِي».
(١١) «صرت عاراً» أي صرت مذمة وكل الناس ينحون عليّ باللوم والتثريب كما يحدث حينما يسقط أحدهم في زلة فيسلقونه بألسنة حداد ولا يشفقون عليه ولا يرحمون. ويحسب الناس ذلك مديحاً لأنفسهم. ولو عقلوا لعرفوا أن الذي ينزل مقام غيره ينزل مقامه أيضاً. فهو عار عند الأعداء وكذلك عند الجيران وأصبح المعارف يهربون من تعرفهم بي كأن الذي يلاصقني ينزل من مقامه الشيء الكثير. وإذا ظهرت أمام جمهور منهم لا يمكنهم أن يتعرفوا بي بل يفرون ويهربون لئلا يقع عليهم أي تبعة من لقاء كهذا.
(١٢) لا شيء ينسى كالميت فهو مهمل من الناس ومنسي بتاتاً كأنه ليس في عالم الأحياء. وأصبح مزدرى به كأنه إناء مكسور ليس نصيبه سوى الرمي للخارج لأنه لا ينفع لشيء. حينما يحمل الميت للقبر ويوضع فيه عادة لا يعود الناس يذكرونه. وكذلك الإناء متى تحطم فهو علاوة على أنه لا ينفع يصبح نفاية في البيت.
(١٣) هوذا الناس لا يتكلمون عنه سوى السوء والمذمة ذلك لأنه في خوف دائم تحيط به المخاطر. ولو كان طلبهم مواجهته في عراك عادل وصدام لكانت المصيبة أخف ولكنهم يتآمرون ويضعون الخطط لهلاكه فقط. لا شيء يكفيهم سوى أن يعدموه الحياة بتاتاً (انظر هوشع ٨: ٨ وإرميا ٤٨: ٣٨ وإرميا ٢٢: ٢٨).
(١٤) ذاك ما يستطيعه البشر نحوه ولكن يبقى له الإيمان الذي جعله متكلاً على إلهه. «أنا» و «إلهي أنت» هي كلمات تستدعي انتباهنا الكلي. في هذه الشدائد العظيمة يعود الإنسان إلى نفسه لا سيما حينما يخونه الجيران ويتركه المعارف وبعضهم يضع له المكايد ويلتمسون قتله. الآن وقت الإيمان الذي يجعله أن يتكل كل الاتكال على مصدر القوة والعون. عاد لنفسه ضعيفاً ولكنه تقوى باستناده على الله الذي لا يتركه أبداً.
(١٥) ابتدأ كلامه أن أجله ليس بيده ولا كما يريده. بل هو في يد الله. هنا منتهى الطمأنينة والثقة. حينئذ فالأعداء لا يستطعيون شيئاً والمطاردون لنفسي يصبحون كلا شيء. إن أثمن ما في الدنيا هي حياة الإنسان فإذا نجا من الأعداء فيكون خلاص الله قد تمم له. فإذاً النجاة هي بيد الله وليست منا. فكما أن آجالنا هي بمشيئة الله كذلك فهو يعرف كيف يخلصنا في حينه على شرط أن نعرف كيف نتكل عليه.
«١٦ أَضِئْ بِوَجْهِكَ عَلَى عَبْدِكَ. خَلِّصْنِي بِرَحْمَتِكَ. ١٧ يَا رَبُّ، لاَ تَدَعْنِي أَخْزَى لأَنِّي دَعَوْتُكَ. لِيَخْزَ ٱلأَشْرَارُ. لِيَسْكُتُوا فِي ٱلْهَاوِيَةِ. ١٨ لِتُبْكَمْ شِفَاهُ ٱلْكَذِبِ ٱلْمُتَكَلِّمَةُ عَلَى ٱلصِّدِّيقِ بِوَقَاحَةٍ، بِكِبْرِيَاءَ وَٱسْتِهَانَةٍ. ١٩ مَا أَعْظَمَ جُودَكَ ٱلَّذِي ذَخَرْتَهُ لِخَائِفِيكَ وَفَعَلْتَهُ لِلْمُتَّكِلِينَ عَلَيْكَ تُجَاهَ بَنِي ٱلْبَشَرِ. ٢٠ تَسْتُرُهُمْ بِسِتْرِ وَجْهِكَ مِنْ مَكَايِدِ ٱلنَّاسِ. تُخْفِيهِمْ فِي مَظَلَّةٍ مِنْ مُخَاصَمَةِ ٱلأَلْسُنِ».
(١٦) شعوره أنه في ظلام بسبب أحزانه وضيقاته لذلك فهو يحتاج لنور الله يضيء له السبيل فيعرف كيف يسلك ولا يعثر. وبعد ذلك يلتمس خلاصاً ليس لأنه يستحقه بل لأن الله يرحمه. ذلك هو وقت النجاة لذلك فليكن يا رب هذا بإشراقك وضياء وجهك فرّح قلبي واحمني (انظر عدد ٦: ٢٤ - ٢٦).
(١٧) هنا صلاة قصيرة يلتمس من الله أن يستجيب له فهو محاط بأعداء يهزأون به ولا يؤمنون بإلهه لذلك يحتاج أن يعتز باستجابة الصلاة لكي يبرهن لأولئك الأعداء عن فساد موقفهم تجاهه. إنها لثقة تامة غالبة بالله. وهذه الثقة لا تعتمد على استحقاقه هو بل على الرحمة التي تطاله من فيض إحسانه ولطفه تعالى.
(١٨) ما أحسن سكوت الشفاه الكاذبة. لأنه أفضل للإنسان أن لا يتكلم من أن يتكلم كاذباً لا سيما إذا كان هذا الكذب ضد أناس صالحين وحينئذ يكون الكاذب وقحاً متكبراً لا يخاف الله ولا يهاب إنساناً. يا ليت كل لسان يبكم قبل أن يشرع في تلفيق أمور لا ترضي الله ولا تتمم مشيئته. «الصديق» هنا بالمفرد. وهذه إشارة لخلق داود المتين فمع أنه قد تكلم عنه الناس باطلاً مع أنه هو كامل الطريق. وهكذا فعل الأشرار مع السيد المسيح وأهانوه ظالمين متكبرين (انظر ١بطرس ٢: ١٨ - ٢٥ ويعقوب ٤: ١ - ٦).
(١٩) في هذا العدد يتحول الرجاء المنبعث من الاتكال على رحمة الرب ويصبح حقيقة ثابتة وهكذا يحمد جود الرب وفضله ويرشد الناس الخائفين اسمه أن يتمسكوا بهذه الحقيقة ويثبتوا في الرب غير متزعزعين. وجود الرب مذخور مكنوز وليس شيئاً عارضاً يكون الآن ولا يكون غداً. بل هو ثابت أكيد على شرط أن المؤمن يعرف كيف يستفيد منه. وهذا الخير يفعله نحو المتكلين عليه لكي يظهر عنايته حتى بقية الناس يؤمنون ويخافون اسمه.
(٢٠) إن داود في وسط اضطراباته ومخاطره العظيمة وجد تشجيعاً عظيماً حينما حقق الله مطالبه ونجاه منها مرة بعد أخرى. وهو يعترف أن خلاصه لم يكن من مقدرة فيه بل برحمة من الله. «ستر وجهك» أي بمهابته فحينما يقف واحد ليحامي عن الآخر يواجه العدو المطارد أي يقف بوجهه حتى لا يصل إلى ضالته. إن الله يدافع عنا على هذه الصورة فهو يحمينا بوجهه ثم بعد ذلك يخفينا ويخبئنا حينما تكون الألسنة الشديدة ضدنا ولا نعرف ماذا وكيف ندافع عن أنفسنا فهو سندنا وحرزنا الأمين.
«٢١ مُبَارَكٌ ٱلرَّبُّ لأَنَّهُ قَدْ جَعَلَ عَجَباً رَحْمَتَهُ لِي فِي مَدِينَةٍ مُحَصَّنَةٍ. ٢٢ وَأَنَا قُلْتُ فِي حَيْرَتِي: إِنِّي قَدِ ٱنْقَطَعْتُ مِنْ قُدَّامِ عَيْنَيْكَ. وَلٰكِنَّكَ سَمِعْتَ صَوْتَ تَضَرُّعِي إِذْ صَرَخْتُ إِلَيْكَ. ٢٣ أَحِبُّوا ٱلرَّبَّ يَا جَمِيعَ أَتْقِيَائِهِ. ٱلرَّبُّ حَافِظُ ٱلأَمَانَةِ وَمُجَازٍ بِكَثْرَةِ ٱلْعَامِلَ بِٱلْكِبْرِيَاءِ. ٢٤ لِتَتَشَدَّدْ وَلْتَتَشَجَّعْ قُلُوبُكُمْ يَا جَمِيعَ ٱلْمُنْتَظِرِينَ ٱلرَّبَّ».
(٢١) يعود داود لنفسه ويذكر رحمة الرب الشخصية نحوه. فالرب يستحق شكرنا الشخصي ولا يكفينا أن نذكر أشياء عامة نرددها وقلما نعنيها. إن الرب قد أظهر نحوه خلاصاً ممتازاً عجيباً. فالستر لم يكفه كما في العدد السابق وكذلك اختفاؤه في ظل الرب لأنه الآن قد أدخله إلى حماه الداخلي كأنما إلى مدينة محصنة لا يستطيع العدو أن يجتاز حتى أبوابها (انظر ٢أخبار ٨: ٥) هنا الرحمة الحامية الكاملة فلا يخاف أي عدو ولا أي مصاب عظيم.
(٢٢) هنا يذكر شيئاً مرّ عليه ويراجعه لأجل التذكار فقد صدمته النوائب وأوقعته في الحيرة وارتبك ولم يدر ماذا يفعل وحسب أنه لم يعد في حمى الرب بل قد انقطع وانفرد وعاش مستوحشاً بلا أنيس أو جليس. وهو في هذه الحالة من الحزن والضيق والانفراد يصرخ ويتأكد بعد ذلك إن الله سمع تضرعه واستجاب له ونشله مما هو فيه.
(٢٣) يطلب من كل الأتقياء أن يهرعوا للرب وينصرفوا إليه بخلوص ومحبة إن التقوى تستلزم المحبة التامة «تُحِبُّ ٱلرَّبَّ إِلٰهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ، وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِكَ. هٰذِهِ هِيَ ٱلْوَصِيَّةُ ٱلأُولَى». ودعوته للمحبة هذه مبنية على سببين: الأول لأنه يحفط الأمانة. والثاني لأنه يجازي بالأخص الذي يعصى أمره ولا يتمم مشيئته. إذاً فالربح هو في المحبة والخسارة كلها لجميع الذين لا يرعون حرمة الله ولا يحافظون على تعليمه ونواميسه.
(٢٤) وما أجمل أن يختم هذا المزمور المملوء بذكرى المصائب والشدائد التي مرت بمثل هذا الختام. يطلب أن يكون للمؤمن القوة والشجاعة أما القوة فلكي يستطيع أن يحتمل وأما الشجاعة فلكي يقتحم. الواحدة تؤهله للدفاع والأخرى للهجوم ولا يكفي أن نرى أنفسنا في منجاة بل أن نترنم فرحين سعداء بالنجاة التي يمنحها الله. إن خلاص داود هذا قد كان فائقاً لكل ما انتظره وهكذا كل مرة فإن جود الرب هو أعظم مما نقدر أن نتصور أو نفتكر. فلنلتصق بالرب ولنمسك بيده ولنتشدد بعونه ونعمته (انظر إشعياء ٣٥: ٣ و٤ وعبرانيين ١٢: ١٢ و١٣).


اَلْمَزْمُورُ ٱلثَّانِي وَٱلثَّلاَثُونَ


لِدَاوُدَ. قَصِيدَةٌ


«١ طُوبَى لِلَّذِي غُفِرَ إِثْمُهُ وَسُتِرَتْ خَطِيَّتُهُ. ٢ طُوبَى لِرَجُلٍ لاَ يَحْسِبُ لَهُ ٱلرَّبُّ خَطِيَّةً، وَلاَ فِي رُوحِهِ غِشٌّ ٣ لَمَّا سَكَتُّ بَلِيَتْ عِظَامِي مِنْ زَفِيرِي ٱلْيَوْمَ كُلَّهُ، ٤ لأَنَّ يَدَكَ ثَقُلَتْ عَلَيَّ نَهَاراً وَلَيْلاً. تَحَوَّلَتْ رُطُوبَتِي إِلَى يُبُوسَةِ ٱلْقَيْظِ. سِلاَهْ. ٥ أَعْتَرِفُ لَكَ بِخَطِيَّتِي وَلاَ أَكْتُمُ إِثْمِي. قُلْتُ: أَعْتَرِفُ لِلرَّبِّ بِذَنْبِي وَأَنْتَ رَفَعْتَ أَثَامَ خَطِيَّتِي. سِلاَهْ».
هذا المزمور أشبه شيء بعظة كتبها شخص مختبر الحياة الروحية والعلاقة مع الله ويود أن يلفت نظر الناس إلى عميق الاختبار الذي ناله. وهو مزمور توبة عميقة أيضاً وكان أوغسطينوس يحبه كثيراً. ويظن أن كلا المزمورين ٥١ وهذا المزمور قد كتبا بعد خطيئة الزنا التي ارتكبها. وأما هذا المزمور فقد كتبه بعد تأكد الغفران. وكان يشعر حينئذ بالطمأنينة والسلام بأن الله قد رضي عنه. والعنوان «قصيدة» لا تفيد المعنى تماماً إذ نفس الكلمة العبرانية مترجمة في (٢أخبار ٣٠: ٢٢) «فطنة» والأفضل ترجمتها تأمل.
(١) هنيئاً لمن ينال نعمة الرب فيسلم الإنسان نفسه لعنايته الحنونة. وكلمة إثم تشتق من أصل معناه البعد. لذلك فكل من يبتعد عن الله ويترك وصاياه فهو شرير أثيم. وهنيئاً له إذا عاد. وتستر الخطيئة حتى كأنها غير منظورة بعيني الله لأنه غفار رحيم.
(٢) بل إن خطيئته لا تحسب شيئاً ولا تقيد ضده. ذلك لأن الرب ينظر للقلب فإذا تاب وارتدع فإن الخطايا تمحى تماماً. ويتبع العدد بشرط المغفرة وهو أن لا يكون غش في ما يفعله. وحينئذ تكون التوبة قلبية وحقيقية. لا يعود للخطيئة أبداً. وبالتالي فالذين يتوبون بغش فهم باقون في خطاياهم لا ينالون الغفران.
(٣) لقد سكت من قبل عن أن يتوب وإذا به يصبح في ويل عظيم حتى عظامه فنيت من شدة تأوهاته وزفراته المتصاعدة. كلما حاول أن يكتم إثمه كلما ارتفع صوت الضمير ولم يعد أمامه سوى الحسرات والزفرات حتى لم يستطع صبراً طويلاً واستمر كذلك اليوم كله.
(٤) كانت يد الله عليه وشعر بوخز الضمير وحرارة داخلية محرقة جعلته يابساً كيوم قيظ شديد. ولم يرتح في حالته ليلاً ولا نهاراً. كإنما تلك النار في جوفه أخذت تلتهمه وتحرمه لذة الحياة بالكلية.
(٥) وهنا يصل إلى سبيل الخلاص من حالته السيئة هذه فيعترف ولم يعد يستطيع الكتمان. ثم يكرر اعترافه وهو يرجو الله أن يرفع عنه هذ الحمل الثقيل ولا تكون يده عليه للنقمة بل للبركة. وينهي كلامه بكلمة «سلاه» ولكن هذه تختلف عن التي في العدد الرابع بأنها ختام الفرح بينما تلك كانت تستنجد لأجل الرحمة والرضوان.
«٦ لِهٰذَا يُصَلِّي لَكَ كُلُّ تَقِيٍّ فِي وَقْتٍ يَجِدُكَ فِيهِ. عِنْدَ غَمَارَةِ ٱلْمِيَاهِ ٱلْكَثِيرَةِ إِيَّاهُ لاَ تُصِيبُ. ٧ أَنْتَ سِتْرٌ لِي. مِنَ ٱلضِّيقِ تَحْفَظُنِي. بِتَرَنُّمِ ٱلنَّجَاةِ تَكْتَنِفُنِي. سِلاَهْ. ٨ أُعَلِّمُكَ وَأُرْشِدُكَ ٱلطَّرِيقَ ٱلَّتِي تَسْلُكُهَا. أَنْصَحُكَ. عَيْنِي عَلَيْكَ. ٩ لاَ تَكُونُوا كَفَرَسٍ أَوْ بَغْلٍ بِلاَ فَهْمٍ. بِلِجَامٍ وَزِمَامٍ زِينَتِهِ يُكَمُّ لِئَلاَّ يَدْنُوَ إِلَيْكَ. ١٠ كَثِيرَةٌ هِيَ نَكَبَاتُ ٱلشِّرِّيرِ، أَمَّا ٱلْمُتَوَكِّلُ عَلَى ٱلرَّبِّ فَٱلرَّحْمَةُ تُحِيطُ بِهِ. ١١ ٱفْرَحُوا بِٱلرَّبِّ وَٱبْتَهِجُوا يَا أَيُّهَا ٱلصِّدِّيقُونَ، وَٱهْتِفُوا يَا جَمِيعَ ٱلْمُسْتَقِيمِي ٱلْقُلُوبِ».
(٦) هنا واجب الصلاة والداعي لها لأن من الله النجدة والخلاص. إن التقوى تتطلب من التقي أن يحتمي بالله بل أنها مشتقة من «وقى» أي حفظ أو احتمى. ويحمي الإنسان عادة في أوقات الشدة والصعوبات. وحينما تأتي المياه الغامرة فالمؤمن لا يصيبه شيء لأنه في مرتفع ومنجاة منها. هو أعلى منها وبالتالي هي أوطى منه فيمر فوقها.
(٧) إن الله يستر خائفيه ويخفيهم عن الأنظار فلا يطالهم العدو. وفي وقت الضيق له الرعاية والحفظ. وحينئذ يتبدل ذلك إلى بهجة وترنم ويذهب الحزن والضيق ويكون فرج وسلام. فهو مكتنف بذلك من كل جانب إذاً فنجاته حقيقية لا وهم فيها البتة وهكذا يختم هذا العدد بأعلى أصوات المديح والابتهاج بشكر الله تعالى «سلاه».
(٨) هنا جواب مزمور ٥١ «فأعلم الأثمة طرقك...» إن الرب نفسه هنا معلمنا ومرشدنا للطريق الصالح «أنا هو الطريق والحق والحياة». و «عيني عليك» هو تعبير دارج في الشرق حتى يومنا هذا ويقصد به العناية. والعناية والمعاينة تتقارب جداً وبمعنى واحد.
(٩) هنا يتقدم المرنم بكلام قاس وتشبيه شديد اللهجة. على الإنسان أن يتصرف كإنسان بالطاعة والخضوع لمشيئة الله تعالى وإلا فهو عديم الفهم كالحيوان الأبكم. الحيوان يزين بزمام ولجام وفي الوقت ذاته يقاد بهما لكي يخدم الإنسان ويمنع ضرره. وعلى الإنسان أن يكم ذاته على الأقل. فهو يتميز عن الحيوان أنه يجب أن يقبل التعليم والإرشاد مختاراً.
(١٠) في هذا العدد مقابلة بين حالة الشرير فهو في نكبات مستمرة. وأما الذي يتكل على الرب وينال رضاه فهو محاط برحمته تعالى دائماً الفرق بين نكبة الشرير والصالح ليس فقط من جهة عددها ونوعها بل من جهة استقبالها ومواجهتها ثم نتيجتها الدائمة في القلب.
(١١) ويتابع المعنى في هذا العدد. ويطلب لهؤلاء الأتقياء أن يفرحوا ويبتهجوا ويهتفوا. ما أسعد هذه الآخرة التي يصلون إليها ذلك لأن فرحهم مقدس طاهر يتوقف على حالتهم الروحية الداخلية أكثر مما يصادفونه في هذه الحياة الدنيا الزائلة.


اَلْمَزْمُورُ ٱلثَّالِثُ وَٱلثَّلاَثُونَ


«١ اِهْتِفُوا أَيُّهَا ٱلصِّدِّيقُونَ بِٱلرَّبِّ. بِٱلْمُسْتَقِيمِينَ يَلِيقُ ٱلتَّسْبِيحُ. ٢ ٱحْمَدُوا ٱلرَّبَّ بِٱلْعُودِ. بِرَبَابَةٍ ذَاتِ عَشَرَةِ أَوْتَارٍ رَنِّمُوا لَهُ. ٣ غَنُّوا لَهُ أُغْنِيَةً جَدِيدَةً. أَحْسِنُوا ٱلْعَزْفَ بِهُتَافٍ. ٤ لأَنَّ كَلِمَةَ ٱلرَّبِّ مُسْتَقِيمَةٌ، وَكُلَّ صُنْعِهِ بِٱلأَمَانَةِ. ٥ يُحِبُّ ٱلْبِرَّ وَٱلْعَدْلَ. ٱمْتَلأَتِ ٱلأَرْضُ مِنْ رَحْمَةِ ٱلرَّبِّ. ٦ بِكَلِمَةِ ٱلرَّبِّ صُنِعَتِ ٱلسَّمَاوَاتُ وَبِنَسَمَةِ فَمِهِ كُلُّ جُنُودِهَا».
(١) يبدأ المزمور بمخاطبة الصديقين والمستقيمين الذين يلتمسون الرب ويعيشون في رضاه. الذين يرون أن سلوكهم يجب أن يتمشى بحسب إرشاد روح الله. هم أولئك الذين كالمرآة النقية يعترفون بمراحم الله ويعكسون لذته بحمده تعالى وإذاعة إحسانه وشكره.
(٢) يطلب المرنم أن يكون الحمد بآلات الطرب المعروفة عندئذ. العود والربابة ذات عشرة الأوتار لأن هذه الآلات تزيد في رونق هذا الحمد وتجمّل الصوت البشري وتزيده وقعاً في النفس وتأثيراً في العواطف ومن يستطيع أن ينكر ما للموسيقى الآلية من عميق الأثر في النفوس. ومنذ أيام يوبال (راجع تكوين ٤: ٢١) الذي كان أباً لكل ضارب بالعود والمزمور تعرّف الإنسان على هذا الاختراع المدهش.
(٣) بل يستنجد بالصوت البشري الذي يحسن النشيد والغناء. ويطلب أن تكون أغنية جديدة لأنها ذات وقع عميق في النفس. والعزف هو استعمال الآلات الموسيقية والصنوج التي تساعد الشعب على أن يهتفوا عالياً مسبحين اسم الرب.
(٤) كلمته مستقيمة أي لا غش فيها ولا مورابة وعليه فهي تطال جميع المستقيمين أيضاً. وكذلك فإن ما يصنعه ويعمله مملوء بالأمانة لكل الذين يتقونه ويخافون اسمه.
(٥) ومع أن الرب بار ويحب العدل مع ذلك لا شيء يقارن هذا البر سوى رحمته العظيمة التي تملأ الأرض كلها بالخير والغنى والبركات. قد لا نفهم نحن الآن أعمال الرب بل ونفسرها تفسيرات لا تنطبق على الحقيقة وعلينا أن نعود للصواب دائماً.
(٦) يعود هنا لبدء العالمين فهو الإله الخالق الذي قال للكائنات كوني فكانت. بل نفخ فيها شيء ذا نفس حية. و «جنودها» تعود للسموات وهي بالأرجح النجوم التي تملأ السموات وترصعها. وقد تكون الملائكة التي تسمّى الأجناد السماوية أيضاً. أو يقصد بذلك كل ذي حياة فهو كذلك بروح الله فقط.
«٧ يَجْمَعُ كَنَدٍّ أَمْوَاهَ ٱلْيَمِّ. يَجْعَلُ ٱللُّجَجَ فِي أَهْرَاءٍ. ٨ لِتَخْشَ ٱلرَّبَّ كُلُّ ٱلأَرْضِ، وَمِنْهُ لِيَخَفْ كُلُّ سُكَّانِ ٱلْمَسْكُونَةِ. ٩ لأَنَّهُ قَالَ فَكَانَ. هُوَ أَمَرَ فَصَارَ. ١٠ ٱلرَّبُّ أَبْطَلَ مُؤَامَرَةَ ٱلأُمَمِ. لاَشَى أَفْكَارَ ٱلشُّعُوبِ. ١١ أَمَّا مُؤَامَرَةُ ٱلرَّبِّ فَإِلَى ٱلأَبَدِ تَثْبُتُ. أَفْكَارُ قَلْبِهِ إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ. ١٢ طُوبَى لِلأُمَّةِ ٱلَّتِي ٱلرَّبُّ إِلٰهُهَا، ٱلشَّعْبِ ٱلَّذِي ٱخْتَارَهُ مِيرَاثاً لِنَفْسِهِ».
(٧) وهنا يلتفت للأرض فيرى البحر في كومة مجموعة منفصلة عن اليابسة كما رأى السماء مرفوعة كقبة عظيمة. ولجج المياه أي الأمواج الكبيرة يجعلها مخزونة محفوظة.
(٨) ولأنه الخالق العظيم الذي خلق السموات والأرض والبحر وكل ما فيها لذلك فمن الطبيعي أن سكان الأرض يجب أن يخشوا اسمه ويخافوه. فإنه على نسبة قدرته العظيمة يجب أن يخضع له الجميع ويتمشوا حسب أوامره لأنهم إذا خالفوا ذلك يخسرون أعظم خسارة.
(٩) يعود فيؤكد فكرة الخليقة بأنها بأمر الله تعالى وبكلمة قدرته. الله القادر على كل شيء يأمر وعلى الكل أن يطيعوا (مراثي ٣: ٣٧) فأمره يتمم حالاً كما يفعل العبد الصالح مع سيده فهو يسرع لتنفيذ الأمر الصادر إليه بدون أقل تذمر أو تردد (مزمور ١١٩: ٩١) الرب حميد جداً لأنه حاكم العالمين (انظر ٢صموئيل ١٥: ٣٤ و١٧: ١٤) والتعبير قال كن فكان أصبح شائعاً معروفاً.
(١٠) إن حكم الرب فهو فوق أفكار الشعوب جميعهم. بل بيده أن يبددها كما يشاء ولا يستطيع أحد أن يقول له ماذا تفعل. إن الأمم إذا رتبت أمورها بدون الله فهي لا شك خاسرة فلينتبه رجال السياسة والإدارة ماذا يفعلون.
(١١) (قابل هذا العدد بما ورد في أمثال ١٩: ٢١). قوله مؤامرة الرب أي مشيئته تعالى وما يرتبه. إن تاريخ البشرية في جميع أدوارها هو تاريخ أعمال الرب فيها لأنه هو المدبر لكل شيء وبدونه لا يمكن أن يكون شيء ما. ومظهر أعماله وتفسيرها الكامل هو في شعبه المختار الذي منه جاء الأنبياء والمرسلون ثم المسيح نفسه.
(١٢) يطوّب الأمة التي تختار الرب نصيبها وتخضع له وتمشي بأمره وتنتهي بنهيه. ويطوب الشعب المختار الذي جعله الله واسطة لنقل مشيئته لجميع البشرية في مختلف عصورها وعلى مدى دوران التاريخ (انظر تثنية ٣٣: ٢٩). والحق يقال إنها فكرة سامية عظيمة أن يرى الشعب علاقته الوثيقة بإلهه (انظر ١بطرس ٢: ٩) فإن هذه الفكرة العظيمة قد انتقلت بشكل روحي إلى العهد الجديد كما رأينا مثلاً على ذلك.
«١٣ مِنَ ٱلسَّمَاوَاتِ نَظَرَ ٱلرَّبُّ. رَأَى جَمِيعَ بَنِي ٱلْبَشَرِ. ١٤ مِنْ مَكَانِ سُكْنَاهُ تَطَلَّعَ إِلَى جَمِيعِ سُكَّانِ ٱلأَرْضِ. ١٥ ٱلْمُصَوِّرُ قُلُوبَهُمْ جَمِيعاً، ٱلْمُنْتَبِهُ إِلَى كُلِّ أَعْمَالِهِمْ. ١٦ لَنْ يَخْلُصَ ٱلْمَلِكُ بِكَثْرَةِ ٱلْجَيْشِ. ٱلْجَبَّارُ لاَ يُنْقَذُ بِعِظَمِ ٱلْقُوَّةِ. ١٧ بَاطِلٌ هُوَ ٱلْفَرَسُ لأَجْلِ ٱلْخَلاَصِ، وَبِشِدَّةِ قُوَّتِهِ لاَ يُنَجِّي».
(١٣) نعم إن الرب مسكنه في السماء ولكنه يشرف على الناس جميعاً فهم تحت نظره وفي متناول يده كل لحظة. وهذا ينطبق على جميع الشعوب والقبائل والألسنة على السواء. فكما أن الرب عليم بكل شيء وقدير على كل شيء كذلك هو يطلع على كل شيء ولا تخفى عليه خافية.
(١٤) في هذا العدد أيضاً توكيد لسابقه ويورد لمعنى ذاته ولكنه بشكل آخر فقط. إن النظر العالي هو كاشف أيضاً إذ يتسع الأفق ويمتد النظر إلى كل مكان فكم بالأحرى لله العلي الذي يسكن في أعلى السموات والكلام مجازي بالطبع يقصد به أنه مرتفع عن إفهامنا وعن مدة إدراكنا فنحن لا نستطيع أن ندرك سوى الجزء الأصغر فقط.
(١٥) إن الله يصوّر القلوب ويتحكم بالنوايا والعواطف الداخلية (انظر زكريا ١٢: ١ وأمثال ٢٤: ١٢). ولأنه قد صنع الإنسان فبالطبع يفهم هذا الإنسان الذي صنعه جيداً. ويدرك نتائج أعمال البشر قبلما ينتهون منها لأنه يرى ما لا يرى ويدرك ما لا تدركه البصائر.
(١٦) لذلك فإن هذا الإنسان المتكل على نفسه من دون الله فهو خاسر وفي ضلال مبين. إن كثرة الجيوش قد تتغلب على العدو إلى وقت قصير محدود ثم إذا بهذا العدو يقارعه السلاح بالسلاح وقد يتغلب عليه. وقد جرى مثل ذلك في الحرب العالمية الأخيرة (١٩٣٩ - ١٩٤٥) إذ امتلك هتلر أعظم قوة عسكرية عرفها التاريخ ولكنه أخيراً خسر الحرب. والجبار أيضاً لا يجوز أن يغتر بقوته وجبروته لأن ذلك باطل أيضاً ويجب أن يعتبر أن فوق كل عالٍ عالياً هو الرب العظيم خالق السموات والأرض.
(١٧) قوله «الفرس» أي الفرسان وكانوا وما زالوا قوة جبارة في جميع الحروب. لا سيما إذا وضعت الخيل على مركبات فحينئذ لا تستطيع الجيوش الرجالة أن تقاومها طويلاً وتشبه المركبات «الدبابات» الحربية الحديثة في مدى هولها وتأثيرها الفظيع على سير الحروب الحديثة. وعليه فإن كل مظاهر القوة البشرية لا تفيد شيئاً ولا تجدي نفعاً إذا لم تسيطر عليها قوة الله وتسيرها نحو الأفضل. وفي الوقت ذاته فإن قوته العظيمة تعمل في الضعيف وتقويه حتى يغلب أعظم الأقوياء إذاً فالقوة الحقيقية ليست بشرية بل بالأحرى إلهية.
«١٨ هُوَذَا عَيْنُ ٱلرَّبِّ عَلَى خَائِفِيهِ ٱلرَّاجِينَ رَحْمَتَهُ، ١٩ لِيُنَجِّيَ مِنَ ٱلْمَوْتِ أَنْفُسَهُمْ، وَلِيَسْتَحْيِيَهُمْ فِي ٱلْجُوعِ. ٢٠ أَنْفُسُنَا ٱنْتَظَرَتِ ٱلرَّبَّ. مَعُونَتُنَا وَتُرْسُنَا هُوَ. ٢١ لأَنَّهُ بِهِ تَفْرَحُ قُلُوبُنَا، لأَنَّنَا عَلَى ٱسْمِهِ ٱلْقُدُّوسِ ٱتَّكَلْنَا. ٢٢ لِتَكُنْ يَا رَبُّ رَحْمَتُكَ عَلَيْنَا حَسْبَمَا ٱنْتَظَرْنَاكَ».
(١٨) إن الرب يقف هنا موقف المراقب المهتم بمصير أولاده الذين يخافون اسمه ويرجون رحمته. إن الظفر ليس للفرس ولا للفارس بل للرب الذي ينظر للإثنين ويتصرف كما يشاء. ولا من يرد حكمه. وقوله عينه يفيد أن حكمه النهائي على العالم هو مصلحة خائفيه فقط في النهاية يرعاهم بعنايته ويكلأهم بمحبته العظيمة الدائمة. لذلك فإن هؤلاء المؤمنين عليهم أن يلجأوا إليه في وسط المخاطر ولا يخافوا.
(١٩) وحينئذ ستأتيهم النجاة كاملة والخلاص تاماً. وهذا يتم فقط برحمة الله وليس بالنسبة لاستحقاق الإنسان لأنه لا يستحق شيئاً. حتى الموت لهم نجاة منه. ولو عمت المجاعة كل مكان وعضت بنابها كل شخص فلهم حياة ولا يصيبهم أي أذى (راجع مزمور ٢٠: ٨) وتكاد هذه الجملة أن تكون منفردة بذاتها.
(٢٠) لا شك قد كانت صورة الخطر رهيبة والضيقة عظيمة ولكن في حالة كهذه علينا أن ننتظر الرب ولا نتسرع في أحكامنا لئلا تتعقد كل أمورنا. إن العون سيأتي في حينه على شرط أن نتأكد من هذا الترس الذي يرد عنا كل ضيم وننجو به من كل خطر (انظر تثنية ٣٣: ٢٩) والتشديد في هذه العبارة على «هو» أي الله الذي هو عوننا الدائم وملاذنا الأمين وواقينا من كل الضيقات.
(٢١) وفرح قلوبنا هو لأن اسم الرب أساس إيماننا ومحبتنا ورجائنا وبالتالي بواسطته يأتينا الخلاص. إن انتظار الإنسان لله يجب أن يتعادل مع استعداد الله للمساعدة وعلينا أن لا نستعمل اتكالنا على أنفسنا لئلا نخسر اتكالنا على الله. والذين يعدمون الصبر ويضجرون سريعاً لا يمكنهم ان ينالوا بركات الله ولا أن يتمتعوا بمراحمه كما ينبغي. وليكن فرحنا فقط على نسبة عميق إيماننا به واتكالنا عليه.
(٢٢) ويختم كلامه مؤكداً أن إحسان الرب نحونا هو من رحمته فقط. ولأن المرنم يؤمن بالله ويتكل عليه وينتظر رحمته لذلك فهو يود أن يرى الشيء يقابل بمثله. كأن يضع ذلك في كفتي ميزان. الرحمة من جانب والانتظار من جانب آخر فكلما ثقلت كفة الانتظار وحسن الاتكال عليه تعالى كلما عظمت رحمته أيضاً وازدادت وكان البرهان عليها أكيداً يوماً بعد يوم.

اَلْمَزْمُورُ ٱلرَّابِعُ وَٱلثَّلاَثُونَ


لِدَاوُدَ عِنْدَمَا غَيَّرَ عَقْلَهُ قُدَّامَ أَبِيمَالِكَ فَطَرَدَهُ فَٱنْطَلَقَ


«١ أُبَارِكُ ٱلرَّبَّ فِي كُلِّ حِينٍ. دَائِماً تَسْبِيحُهُ فِي فَمِي. ٢ بِٱلرَّبِّ تَفْتَخِرُ نَفْسِي. يَسْمَعُ ٱلْوُدَعَاءُ فَيَفْرَحُونَ. ٣ عَظِّمُوا ٱلرَّبَّ مَعِي، وَلْنُعَلِّ ٱسْمَهُ مَعاً. ٤ طَلَبْتُ إِلَى ٱلرَّبِّ فَٱسْتَجَابَ لِي، وَمِنْ كُلِّ مَخَاوِفِي أَنْقَذَنِي. ٥ نَظَرُوا إِلَيْهِ وَٱسْتَنَارُوا وَوُجُوهُهُمْ لَمْ تَخْجَلْ».
هذا المزمور هو أحد المزامير الثمانية التي تحسب أنها نظمت وقت اضطهاد شاول لداود ونجد هذا مدوناً في عناوين ابتداء المزمور كما نجد قوله «لداود عندما غيّر عقله...» لقد اضطر داود أن يلجأ إلى الفلسطينيين أعداء بني إسرائيل الألداء لكي يهرب من وجه شاول الذي كان يطارده من مكانٍ لآخر. وهكذا حسب الملك أخيش أن داود عدوه وعدو شعبه القديم قد وقع في أيديهم ولولا هذه الحيلة التي تذرع بها داود وتظاهر بالجنون لفقد حياته لا محالة. وهكذا طرده الملك من أمام وجهه (راجع ١صموئيل ٢١). وعلينا أن ننتبه لذكره «ابيمالك» بينما هناك أخيش. ويحسب بعض المفسرين أن أبيمالك هي لقب وليست اسماً علماً فهي مثل فرعون لكل ملك مصري. وكل عدد من هذا المزمور يبدأ بحرف من حروف الأبجدية ما عدا حرف الواو فهو مفقود.
(١) يبدأ المرنم بحمد الرب ويتكلم بالضمير الأول المتكلم في الأعداد الأربعة الأولى وبعد ذلك يتحول عن الحمد إلى الموعظة والإرشاد. يبارك الرب دائماً وتسبيحه على فمه ليلاً ونهاراً لا يفتأ يفعل ذلك ولا يهدأ له بال حتى يقوم بهذا الواجب المقدس.
(٢) إن فخره ليس بنفسه بل بإلهه. فهو بذلك ينسى ذاته ويضيع تجاه الله الكلي القدرة. هنا الفرق بين المتواضع والمتكبر فالمتواضع ينسى ذاته ويذكر الله والمتكبر ينسى الله ويذكر ذاته. وقوله الودعاء وبالعبراينة قريبة جداً للمساكين أي أولئك الذين تعلموا من حوادث الدهر لين العريكة واللطف وهكذا سلموا أمورهم لله.
(٣) هنا يؤكد ما قاله سابقاً ويطلب تعظيم الرب فقط ولا يكتفي بأن يفعل ذلك بنفسه بل يطلب من الآخرين أن يشاركوه هذا التعظيم والإجلال. لأنه حينما نعظم الرب بالحق نرفع أنفسنا أيضاً إلى عرشه بالدعاء والابتهال وبالعكس فإن تركناه نسقط إلى أوطى الدركات.
(٥) انتهى في الأعداد الأربعة الأولى من سرد الحمد والتعظيم واختباره الشخصي. هنا يبدأ بربط الأفكار وتقديم النصح. فيقول لنا إن الذين يعبدون الرب كان لهم النور في حياتهم والرفع في وجوههم وبدلاً من أن يخجلوا ويخزوا كان لهم الكرامة والمجد.
«٦ هٰذَا ٱلْمِسْكِينُ صَرَخَ، وَٱلرَّبُّ ٱسْتَمَعَهُ، وَمِنْ كُلِّ ضِيقَاتِهِ خَلَّصَهُ. ٧ مَلاَكُ ٱلرَّبِّ حَالٌّ حَوْلَ خَائِفِيهِ وَيُنَجِّيهِمْ. ٨ ذُوقُوا وَٱنْظُرُوا مَا أَطْيَبَ ٱلرَّبَّ! طُوبَى لِلرَّجُلِ ٱلْمُتَوَكِّلِ عَلَيْهِ. ٩ ٱتَّقُوا ٱلرَّبَّ يَا قِدِّيسِيهِ لأَنَّهُ لَيْسَ عَوَزٌ لِمُتَّقِيهِ. ١٠ ٱلأَشْبَالُ ٱحْتَاجَتْ وَجَاعَتْ، وَأَمَّا طَالِبُو ٱلرَّبِّ فَلاَ يُعْوِزُهُمْ شَيْءٌ مِنَ ٱلْخَيْرِ».
(٦) يذكر هنا كما في العدد الرابع لماذا يجب حمد الرب وتسبيحه. فقد كان لهذا الاختبار الشخصي أثره البالغ في نفسه. لقد اشتاق للرب واعتمد عليه ورغماً عن كل ضيقاته لم يتخل عنه قط. يخبرنا أن صلاة المؤمن لا تذهب عبثاً وعلينا حينما نصلي أن نثق بكل جوارحنا بإلهنا فهو قادر أن يعطينا ما نحتاج إليه بالتمام. هنا يسرد في هذه الأعداد المتوالية بعض الحقائق التي اختبرها المرنم في حياته اليومية لذلك فديانته عملية اختبارية وهكذا هي عميقة الأثر وحقيقية. ولأنه اختبر لذلك يستنتج وينصح الآخرين أن ينسجوا على منواله.
(٧) إن هذا الحمد سبب الحماية الإلهية الحنونة فإن الله يرسل ملاكه لكي يحرس خائفيه فلا يطالهم أي ضيق. وقوله ملاك أي رئيس جند الرب المكلف بهذه المهمة الدائمة (راجع يشوع ٥: ١٤) وهذا يصحبه عدد من الأتباع لذلك فهو يحمي من كل جانب وينجي.
(٨) يود المرنم أن يحصل الآخرون على اختباره بالذات يقول ذوقوا (راجع عبرانيين ٦: ٤ وأيضاً ١بطرس ٢: ٣) ولأنه هو ذاق ونظر الرب لذلك يطلب منهم أن يفعلوا هكذا. بل هو يطوّب المتكل على الرب فله الهناء والسعادة والرضوان.
(٩) ثم يطلب إليهم أن يتقوه ويخافوه ذلك لأنه من مصلحتهم الحقة ولا يمكن أن يوجد عوز وضيق بعد ذلك بل يعيشون في شبع ورحب كل أيامهم.
(١٠) الأشبال هنا هي الأسود الشابة التي بلغت أشدها وتستطيع أن تطلب قوتها بنفسها. ولكنه يؤكد أن هذه قد تحتاج وتكون قدرتها على الفتك بدون فائدة أو جدوى ولكن ليس الأمر كذلك مع المتقين الراجين رحمة الرب فهم دائماً في بحبوحة وعيش رغيد. هؤلاء لهم علاقة وطيدة وشركة مع الله ولأن الله هو الغني الجواد لذلك لن يترك أتقياءه فقراء معوزين. وقد وردت كلمة الأشبال مرات عديدة ويظهر أن الأسود كانت تعيش بكثرة في تلك الأيام (راجع المزامير ٣٥: ١٧ و٥٧: ٥ و١٧: ١٢).
«١١ هَلُمَّ أَيُّهَا ٱلْبَنُونَ ٱسْتَمِعُوا إِلَيَّ فَأُعَلِّمَكُمْ مَخَافَةَ ٱلرَّبِّ. ١٢ مَنْ هُوَ ٱلإِنْسَانُ ٱلَّذِي يَهْوَى ٱلْحَيَاةَ، وَيُحِبُّ كَثْرَةَ ٱلأَيَّامِ لِيَرَى خَيْراً؟ ١٣ صُنْ لِسَانَكَ عَنِ ٱلشَّرِّ وَشَفَتَيْكَ عَنِ ٱلتَّكَلُّمِ بِٱلْغِشِّ. ١٤ حِدْ عَنِ ٱلشَّرِّ وَٱصْنَعِ ٱلْخَيْرَ. ٱطْلُبِ ٱلسَّلاَمَةَ وَٱسْعَ وَرَاءَهَا. ١٥ عَيْنَا ٱلرَّبِّ نَحْوَ ٱلصِّدِّيقِينَ وَأُذُنَاهُ إِلَى صُرَاخِهِمْ. ١٦ وَجْهُ ٱلرَّبِّ ضِدُّ عَامِلِي ٱلشَّرِّ لِيَقْطَعَ مِنَ ٱلأَرْضِ ذِكْرَهُمْ».
(١١) لا يقصد بالبنين هنا الأولاد الصغار في السن ولكنه أسلوب لطيف للخطاب فيظهر الناصح كأنه أب حنون للمنصوح عليه أن يقبل النصيحة ويسترشد. بل هو واقف موقف المعلم الحكيم الذي ملأته الأيام حنكة وخبرة. وأعظم العلم في نظره هو مخافة الرب. وهنا يبدأ المزمور بالقسم الرئيسي من الكلام ولطالما استعمل داود مثل هذه الطريقة (راجع أمثال ١: ٨).
(١٢) في هذا العدد سؤال جوهري ثم في العددين التاليين يعطي الجواب عن ذلك. وهو أسلوب بديع للكلام وقد استعمله داود في غير هذا الموضع (راجع مزمور ١٥: ١ و٢٤: ٨ و١٠ و٢٥: ٢٢). ويظهر أن ما ورد في (١بطرس ٣: ١٠ - ١٢) هو اقتباسة من هنا.
(١٣) يطلب من الإنسان أن يصان عن الشر وفي القسم الثاني بقوله «وشفتيك الخ..» هو تكرار لنفس المعنى. قبل كل شيء ليكن اللسان طاهراً يبتعد عن الغش والنميمة والخداع.
(١٤) ثم يطلب أكثر من ذلك ويلتفت للإنسان بجملته وينصحه بالحيدان عن الشر. ولا يكتفي بذلك بل أن يصنع الخير ذلك لأن بالخير وحده يكون سلامة وطمأنينة وعلى الإنسان أن يسعى في سبيل ذلك ولا تأتيهم عفواً وهكذا قال السيد المسيح «طوبى لصانعي السلام...».
(١٥) إنها لفكرة عظيمة هذه أن الله يرى الصديق ويسمعه. وهذا قريب جداً لما ورد في (مزمور ٣٣: ١٨). إن الله يرى الصديقين ويهتم بهم وينظر إلى خيرهم الحقيقي وهو أيضاً يصغي إلى شكاويهم ولا يتخلى عنهم أبداً.
(١٦) وفي الوقت ذاته فهو ضد الأشرار والظالمين . ولا يرى المرنم فرقاً بين الشر والشرير ولم يسمُ بعد في أفكاره ليقول «يشرق شمسه على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين». فهو يرى الخير للصديقين فقط والعقاب والغضب لغيرهم. بل يتجاوز في شدة إلى القول إن الله يبيدهم تماماً لذلك فهم ينالون العقاب السريع على الأرض ويترك دينونة السماء جانباً لأنها لم تكن واضحة بعد.
«١٧ أُولَئِكَ صَرَخُوا وَٱلرَّبُّ سَمِعَ وَمِنْ كُلِّ شَدَائِدِهِمْ أَنْقَذَهُمْ. ١٨ قَرِيبٌ هُوَ ٱلرَّبُّ مِنَ ٱلْمُنْكَسِرِي ٱلْقُلُوبِ، وَيُخَلِّصُ ٱلْمُنْسَحِقِي ٱلرُّوحِ. ١٩ كَثِيرَةٌ هِيَ بَلاَيَا ٱلصِّدِّيقِ وَمِنْ جَمِيعِهَا يُنَجِّيهِ ٱلرَّبُّ. ٢٠ يَحْفَظُ جَمِيعَ عِظَامِهِ. وَاحِدٌ مِنْهَا لاَ يَنْكَسِرُ. ٢١ ٱلشَّرُّ يُمِيتُ ٱلشِّرِّيرَ، وَمُبْغِضُو ٱلصِّدِّيقِ يُعَاقَبُونَ. ٢٢ ٱلرَّبُّ فَادِي نُفُوسِ عَبِيدِهِ، وَكُلُّ مَنِ ٱتَّكَلَ عَلَيْهِ لاَ يُعَاقَبُ».
(١٧) يعود للعدد الخامس عشر ويؤكد أن الله قريب من الذين يدعونه. والصراخ يقصد به صراخ التعاسة والآلام ولأن الله محب حنون لذلك يسمع الذين يستنجدون به ولا يتخلى عنهم قط. إن صلاتنا لله يجب أن تكون في طلب المعونة منه وسط الشدائد لا أن لا تكون شدائد بتاتاً إذ هذه موجودة بطبيعة الحال فمعنى أنه ينقذنا منها لا ينفي وجودها وعلينا أن نثق أن الله برحمته ينجينا.
(١٨) إن قرب الله هو بالأخص للذين قلوبهم منكسرة وأرواحهم منسحقة إذ لا يقبل الله أن يستمروا كذلك دون أن يأتيهم بالعون والإسعاف. أي إن الاقتراب لله يجب أن يكون بالتواضع الحقيقي. القلب المنكسر والمنسحق يا الله لا تحتقره. هؤلاء لا يرون أي فضيلة في عملهم بل كل اتكالهم على نعمة الله ورحمته.
(١٩) إن الصديق يصاب بمصائب جمة فهو عرضة لها كما الشرير أيضاً ولكن الفرق بين الاثنين هو أن الصديق يتعلم من بلاياه وغير الصديق لا يتعلم شيئاً (انظر إشعياء ٥٧: ١٥).
(٢٠) إن حفظ الرب لا يتناول نفس الصديق فقط بل جسده أيضاً فهو يحفظ عظامه لأنها قوام جسمه كله. يحفظه كله فلا يصيبه أدنى ضرر حقيقي. ولا يحفظ جسده إجمالاً بل كل عضو فيه حتى كل عظمة بمفردها لأن الله يعتني هكذا بأولاده حتى أنه يهتم بكل شيء فيهم ولا يتركهم أبداً.
(٢١) وعدل الله يجب أن يظهر ومظهره هو في أن الشر الذي يسعى الشرير وراءه ورغب فيه وأحبه من قبل يتحول الآن عليه لكي يميته. إن الشهوات التي نفسح لها المجال في حياتنا هي التي تسبب لنا أخيراً الهلاك والدمار ونتمنى نادمين لو إننا عرفنا أخطاءنا وآثمنا وأصلحناها.
(٢٢) وبالعكس فإن المسؤولية تجاه الأبرار هي ليست بأيديهم كما الحالة مع الأشرار بل بيد الذي يفدي نفوسهم ويخلصهم من كل ضيق ولذلك فإن جميع المتكلين عليه ينالون الرحمة والرضوان. لا يعاقبون أي لا يطالهم جزاء الله بالقصاص والغضب كما هي الحالة مع مبغضي الصديق.


اَلْمَزْمُورُ ٱلْخَامِسُ وَٱلثَّلاَثُونَ


لِدَاوُدَ


«١ خَاصِمْ يَا رَبُّ مُخَاصِمِيَّ. قَاتِلْ مُقَاتِلِيَّ. ٢ أَمْسِكْ مِجَنّاً وَتُرْساً وَٱنْهَضْ إِلَى مَعُونَتِي، ٣ وَأَشْرِعْ رُمْحاً وَصُدَّ تِلْقَاءَ مُطَارِدِيَّ. قُلْ لِنَفْسِي: خَلاَصُكِ أَنَا. ٤ لِيَخْزَ وَلْيَخْجَلِ ٱلَّذِينَ يَطْلُبُونَ نَفْسِي. لِيَرْتَدَّ إِلَى ٱلْوَرَاءِ وَيَخْجَلِ ٱلْمُتَفَكِّرُونَ بِإِسَاءَتِي. ٥ لِيَكُونُوا مِثْلَ ٱلْعُصَافَةِ قُدَّامَ ٱلرِّيحِ، وَمَلاَكُ ٱلرَّبِّ دَاحِرُهُمْ».
هذا المزمور أيضاً مما قاله داود وقت اضطهاد شاول له وهو المزمور سابقه يؤلفان وحدة وكلاهما يذكران ملاك الرب بصورة خاصة. وهو إيضاح شعري مطول لما ورد في (١صموئيل ٢٦: ١٥). لقد ذهب هتزق أن كاتب هذا المزمور هو إرميا ولكن الأعداد الثلاثة الأولى تنطبق على كلام ملك مضطهد أكثر مما على نبي مضطهد. وهو يشبه المزمور ٤٠ والمزمور ٥٩ شبهاً كثيراً. يسود هذا المزمور روح الكدر والعاطفة المهتاجة لا سيما حينما يصف كنود أعدائه والقائمين عليه. وفيه حزن شامل ممزوج باللوم والتحقير. ويقسم المزمور إلى ثلاثة أقسام هي من الأعداد (١ - ١٠) و(١١ - ١٨) و(١٩ - ٢٨). والشيء الجميل فيه هو أن نار غضبه المنتقم أو الداعي للانتقام تمتزج بنار محبته المضطرمة لله.
(١) إن الرب في نظر المرنم هو رجل الحرب والقتال كما هو وارد في (خروج ١٥: ٣ وتثنية ٣٢: ٤١ وما يليه). وهنا يكسبه هذا الوصف الشعري الجامع جلالاً ويلونه بألوان ساحرة جميلة فالمرنم يطلب أن يقوم الرب لنصرته ولا يتخلى عنه لئلا يدوسه العدو القوي.
(٢) ويطلب من الرب هنا أن يحميه حماية تامة من كل جانب فالمجن والترس لكي يدفعا عنه كل الضربات والصدمات. وكأنه يقرّ بأنه لا يستطيع أن يحمي نفسه لذلك يطلب حماية من الرب.
(٣) وإذا حماه الرب فقد نال التعزية الكافية وفي هذا العدد يطلب من الرب أن يهاجم أعداءه ويهاجم بالرمح ولا يكتفي أن يكون الترس الذي يحميه. وقوله خلاصك أنا يفسر لماذا يطلب العون من الرب. يريد أن يتحقق صراخه للنجدة بإلهه فينال الخلاص الكامل.
(٤ و٥) يطلب لهؤلاء الأعداء الفشل والخذلان بكلام لاذع قوي فيكونون مع العصافة تحملها الريح لأن ملاك الرب هو الذي يطردهم أمامه فلا يحسبون شيئاً. وهنا إشارة لما ورد في (خروج ١٤: ٢٥) حينما ملاك الرب عرقل سير المصريين كما أنه ساعد الإسرائيليين. وهنا يظهر أن عون الرب يأتي في حينه ولا يتركنا بلا عون في الشدائد.
«٦ لِيَكُنْ طَرِيقُهُمْ ظَلاَماً وَزَلَقاً، وَمَلاَكُ ٱلرَّبِّ طَارِدُهُمْ. ٧ لأَنَّهُمْ بِلاَ سَبَبٍ أَخْفَوْا لِي هُوَّةَ شَبَكَتِهِمْ. بِلاَ سَبَبٍ حَفَرُوا لِنَفْسِي. ٨ لِتَأْتِهِ ٱلتَّهْلُكَةُ وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ، وَلْتَنْشَبْ بِهِ ٱلشَّبَكَةُ ٱلَّتِي أَخْفَاهَا، وَفِي ٱلتَّهْلُكَةِ نَفْسِهَا لِيَقَعْ. ٩ أَمَّا نَفْسِي فَتَفْرَحُ بِٱلرَّبِّ وَتَبْتَهِجُ بِخَلاَصِهِ. ١٠ جَمِيعُ عِظَامِي تَقُولُ: يَا رَبُّ، مَنْ مِثْلُكَ ٱلْمُنْقِذُ ٱلْمِسْكِينَ مِمَّنْ هُوَ أَقْوَى مِنْهُ، وَٱلْفَقِيرَ وَٱلْبَائِسَ مِنْ سَالِبِهِ؟».
(٦) كذلك في هذا العدد يتابع الصورة السابقة المشار إليها في (سفر الخروج ١٤). إن هذا الملاك يظهر في كل المواقف الحرجة حينما يعترض سبيل الفداء أي معترض كما جرى في مختلف أطوار الفداء الذي أعده الله لخلاص العالم فكيف بهذا الملاك وهوذا الملك الممسوح من الله في حالة الخطر الشديد والموت. هنا يظهر الإيمان والثقة وإذا به يرى نوراً من العلاء كما يتصور الظلام والزلق في طريق الأعداء.
(٧) والسبب هو أن هؤلاء الأعداء قد تظاهروا بغير عداوة فكأنهم أخفوا هوة ونصبوا شبكة وانتظروا ليصطادوا وإن عملهم هذا لا يكشف عن أية إساءة سببها هو بل عن نواياهم الباطنة الرديئة. وإن خطر العداوة هو بما كمن فيها أكثر مما ظهر.
(٨) إن التهلكة التي لا يستعد لها الإنسان يكون السقوط فيها أعظم جداً من التي يستعد لها ويأخذ حذره منها. والمرنم يطلب لهم جزاء ما جنته أيديهم فهم البادئون بالشر والباديء أظلم وليس عجيباً أن ينال الجزاء العادل لما جناه من قبل. بل يطلب من الله أن يسقطه هو فيها ولأنه قصد الهلاك لعدوه فليهلك هو أولاً لأن على الباغي تدور الدوائر.
(٩) ثم يعود لنفسه ويسكن آمناً مطمئناً. بل يجد مجالاً واسعاً للغبطة والفرح. وفرحه هذا غير مسبب عن ظروف خاصة يصادقها بل عن حماية الله وحفظه. إن الله قد أعدّ له خلاصاً فلا يهمه ما يرتبه له العدو لأن إلهه أقوى منه وهو الذي يستطيع أن يدبر كل شيء للخير. ولذلك فإن نفسه تفرح وتبتهج بدلاً من أن تهتم وتكتئب.
(١٠) وهذا الفرح يتخلل إلى كل عظم من عظامه كما وإلى كل مفصل من مفاصله. وكإنما تصبح جميع الأعداء جوقاً يترنم بشكر الله وحمده. فهو يقول من مثلك يا رب. هو المجري العدل والإنصاف للجميع فهو لا يسمح للقوي أن يستبد بالضعيف كما لا يسمح أن الفقير والبائس يسلبان ولا إله يستنجدان به فينجدهما في حينه. وقوله «من مثلك» (راجع خروج ١٥: ١١) ونلاحظ المبالغة في الكلام بقوله سالب الفقير والبائس فهذا منتهى السلب والخساسة لأنه لو سلب الغني صاحب النعمة لكان أهون جداً.
«١١ شُهُودُ زُورٍ يَقُومُونَ، وَعَمَّا لَمْ أَعْلَمْ يَسْأَلُونَنِي. ١٢ يُجَازُونَنِي عَنِ ٱلْخَيْرِ شَرّاً، ثَكَلاً لِنَفْسِي. ١٣ أَمَّا أَنَا فَفِي مَرَضِهِمْ كَانَ لِبَاسِي مِسْحاً. أَذْلَلْتُ بِٱلصَّوْمِ نَفْسِي. وَصَلاَتِي إِلَى حِضْنِي تَرْجِعُ. ١٤ كَأَنَّهُ قَرِيبٌ، كَأَنَّهُ أَخِي كُنْتُ أَتَمَشَّى. كَمَنْ يَنُوحُ عَلَى أُمِّهِ ٱنْحَنَيْتُ حَزِيناً. ١٥ وَلٰكِنَّهُمْ فِي ظَلْعِي فَرِحُوا وَٱجْتَمَعُوا. ٱجْتَمَعُوا عَلَيَّ شَاتِمِينَ وَلَمْ أَعْلَمْ. مَزَّقُوا وَلَمْ يَكُفُّوا. ١٦ بَيْنَ ٱلْفُجَّارِ ٱلْمُجَّانِ لأَجْلِ كَعْكَةٍ حَرَّقُوا عَلَيَّ أَسْنَانَهُمْ».
(١١) هنا يبدأ القسم الثاني من المزمور وهكذا يحاول وصف هؤلاء الأعداء الأشرار. فهم يشهدون عليه بالزور والبهتان عن أمور يجهلها ومع ذلك يسألونه عنها ليعترف بها ولا يخافون الله. يتهمونه تهماً شنعاء ويحسبونه ضاراً واشياً وسالباً لحقوق الآخرين.
(١٢) وأعظم حزنه هو لأن هؤلاء الأعداء يقابلون الحسنة منه بالإساءة ونجد شاول يعترف بذلك (راجع ١صموئيل ٢٤: ١٨). لذلك فإن عدم الاعتراف بالجميل كان يزعجه ويسبب له غماً كثيراً. وقوله «ثكلاً لنفسي» أي إنه يجد من الذين ادعوا صداقته والخلوص له وإذا بهم بعيدون لا يذكرونه ولا يتعرفون به. وهذه الحالة صحيحة مع أصدقاء المصلحة الذين تنتهي صداقتهم بانتهاء مصلحتهم منك ولا يعودون يذكرون شيئاً من الصداقة القديمة كأنهم ماتوا عنها.
(١٣) ولكنه يقابل نفسه بهم ويذكر إن صداقته كانت عميقة وغير شكل عن صداقتهم هذه إذ هو يلبس مسحاً لدى مرضهم ويبقى حزيناً وهو يصلي من أجلهم بل يصوم متضرعاً لله أن ينقذهم ويعينهم. وصلاته ترجع إلى حضنه أي من كثرة ذله وانكساره فهو لا يرفع رأسه ولا يجرؤ أن ينظر للعلاء (رجع ١ملوك ١٨: ٤٢).
(١٤) ثم يتمشى المرنم باحثاً كأنما عن صديق أو أخ ولكنه كان يبحث عبثاً. وقد انحنى من ثقل الهموم والتعاسة حتى لا يجد كلاماً يعبر به عن نفسه لذلك يطلق لنفسه العنان بالنوح. وقد يمكن أن تكون الترجمة «كنوح أمٍ انحنيت حزيناً» فهو يلبس لباساً خاصا ويرخي لحيته والدمع يترقرق في عينيه ولا يغسل وجهه.
(١٥) ولكنهم يفرحون بعرجه وهو يتمايل إلى هنا وهناك. وهذا منتهى القساوة إذ ليس في قلوبهم أي شعور بالمؤاساة والعطف. هم أصحاب السوء الذين يهزأون بنكبات الآخرين وضيقاتهم. بل فعلوا أكثر من ذلك إذ تطاولوا بالشتم مجتمعين هازئين بل قرنوا كلامهم المهين بالأذية وتمادوا في غيهم ولم يرعووا عن ضلالهم.
(١٦) إن هؤلاء قد أظهروا العداوة لغير سبب. وهنا يشبههم بالكلاب التي تتهارش من أجل لقمة أو كعكة وهنا منتهى التحقير ويحرقون أسنانهم ويظهرون الانتقام لضيق صدروهم وعدم اتساعها لأي عطف أو رحمة أو محبة.
بنو الدينا بجهل عظموها فعزّت عندهم وهي الحقيرة
يهارش بعضهم بعضاً عليها مهارشة الكلاب على العقيرة



«١٧ يَا رَبُّ، إِلَى مَتَى تَنْظُرُ؟ ٱسْتَرِدَّ نَفْسِي مِنْ تَهْلُكَاتِهِمْ، وَحِيدَتِي مِنَ ٱلأَشْبَالِ. ١٨ أَحْمَدُكَ فِي ٱلْجَمَاعَةِ ٱلْكَثِيرَةِ. فِي شَعْبٍ عَظِيمٍ أُسَبِّحُكَ. ١٩ لاَ يَشْمَتْ بِي ٱلَّذِينَ هُمْ أَعْدَائِي بَاطِلاً، وَلاَ يَتَغَامَزْ بِٱلْعَيْنِ ٱلَّذِينَ يُبْغِضُونَنِي بِلاَ سَبَبٍ. ٢٠ لأَنَّهُمْ لاَ يَتَكَلَّمُونَ بِٱلسَّلاَمِ، وَعَلَى ٱلْهَادِئِينَ فِي ٱلأَرْضِ يَتَفَكَّرُونَ بِكَلاَمِ مَكْرٍ. ٢١ فَغَرُوا عَلَيَّ أَفْوَاهَهُمْ. قَالُوا: هَهْ هَهْ! قَدْ رَأَتْ أَعْيُنُنَا. ٢٢ قَدْ رَأَيْتَ يَا رَبُّ. لاَ تَسْكُتْ يَا سَيِّدُ. لاَ تَبْتَعِدْ عَنِّي».
(١٧) لقد عيل صبره ولا يستطيع الانتظار لذلك يسأل إلى متى؟ ويطلب ان يسترد الرب نفسه من مكايدهم. والتهلكات بالأخص هي في الجمع لكي يعطيها توكيداً ومبالغة فإن هؤلاء الأعداء لم يكتفوا مرة واحدة بأن يسيئوا إليه ويؤذوه بل جربوها مرات عديدة. ووحيدته هي نفسه يطلب نجاته من هؤلاء الوحوش الفاتكة التي لا ترحم.
(١٨) هنا يفاخر بذكره لإلهه أمام الناس جميعاً فهو يحمده ويسبح له ويرى بذلك مدعاة لسلامه وطمأنينته. لقد كان بين أولئك الأعداء في هم مقيم وهو الآن يريد أن يشهد بخلاص الرب أمام كل الناس ولا يتهيب من أحد ولا يتراجع قط بل يزداد رسوخاً في الإيمان.
(١٩) الشماتة في الأعداء تسبب أعظم الغيظ والكدر. وإن شماتتهم لا حق لهم فيها بل هي لأمور وهمية باطلة. بل هم يتمادون في غيهم ويتغامزون في عيونهم ولا يتوروعون من شيء. وسبب حنقه منهم أنهم يضمرون له السوء بلا سبب معقول. لذلك فعداوتهم عن خساسة ودناءة.
(٢٠) إن بعض الأعداء يتكلمون مملقين على الأقل أما هؤلاء فحتى كلامهم لا يحوي شيئاً من السلام. فهم إذاً في القول والفعل للخصام فقط. وأذيتهم تلحق أولئك الوادعين الهادئين الذين لا يؤذون أحداً ومع ذلك يمكرون عليهم وهنا منتهى الشر والقحة.
(٢١) إن فاغري الأفواه هم المتشوقون بكلام التعظم والكبرياء وقد تمادوا في السخرية والتهكم ولم يقفوا عند أي حد. وهم يدعون أنهم رأوا أمراً فرياً عليه قد يمسكونه به ويتهمونه ببعض الأمور كذباً وبهتاناً. وقوله هه هه للتعبير عن ذلك الفرح الرديء حينما يكون العدو في ضيق أو مصيبة.
(٢٢) ولكنه يستنجد بالله ويسلمه أمره تماماً. لقد خاب ظنه بالناس جميعاً الذين تحولوا ضده للإساءة والهزء فكيف يستطيع أن يعتمد عليهم أو يركن إليهم. فهو يرجو الله أن لا يسكت عن دعواه لأنه يحامي عن المسكين والمظلوم ولا يهدأ حتى يرجع الحق إلى نصابه ويجازي الشرير عن كل شره الذي اقترفه.
«٢٣ ٱسْتَيْقِظْ وَٱنْتَبِهْ إِلَى حُكْمِي، يَا إِلٰهِي وَسَيِّدِي إِلَى دَعْوَايَ. ٢٤ ٱقْضِ لِي حَسَبَ عَدْلِكَ يَا رَبُّ إِلٰهِي فَلاَ يَشْمَتُوا بِي. ٢٥ لاَ يَقُولُوا فِي قُلُوبِهِمْ: هَهْ! شَهْوَتُنَا. لاَ يَقُولُوا: قَدِ ٱبْتَلَعْنَاهُ! ٢٦ لِيَخْزَ وَلْيَخْجَلْ مَعاً ٱلْفَرِحُونَ بِمُصِيبَتِي. لِيَلْبِسِ ٱلْخِزْيَ وَٱلْخَجَلَ ٱلْمُتَعَظِّمُونَ عَلَيَّ. ٢٧ لِيَهْتِفْ وَيَفْرَحِ ٱلْمُبْتَغُونَ حَقِّي، وَلْيَقُولُوا دَائِماً: لِيَتَعَظَّمِ ٱلرَّبُّ ٱلْمَسْرُورُ بِسَلاَمَةِ عَبْدِهِ. ٢٨ وَلِسَانِي يَلْهَجُ بِعَدْلِكَ. ٱلْيَوْمَ كُلَّهُ بِحَمْدِكَ».
(٢٣) يطلب من الله أن يسرع لنجدته ويستيقظ للأخذ بناصره ولكي يثأر من أعدائه المحيطين به. يريد من الله أن يجلس عل منصة الحكم. ويلتمس من السيد أن يقضي له في دعواه.
(٢٤) وهذا القضاء ليكن حسب عدله تعالى لأن البشر لا عدل عندهم فقد اختبرهم المرنم اختباراً مراً ولذلك فهو يستغيث ويستنجد بعدل المولى الإلهي فقط. ويهمه أن لا يشمتوا به ولا يهزأوا بإلهه كإنما يصح قولهم أن الرب لا يسمع ولا يهتم بالبائس والمسكين نظيره.
(٢٥) وهكذا لا يستطيعون أن يحققوا رغبتهم فيه ولا أن ينالوا شهواتهم منه. حتى أنهم لا يقولون ولا في سرهم أيضاً أننا قد غلبناه وانتصرنا فهو ليس لقمة سائغة في أفواههم ليبتلع بسهولة بل ليكن شوكة وحسكة لأن الرب عاضده ولن يسقط أبداً. قصدهم أن يخفوه من الوجود بتاتاً وهذا ما يقصده بالابتلاع.
(٢٦) بل ليرد الله كيدهم في نحرهم وليجازهم عما جنته أيديهم. وهكذا يصبحون في خجل لأنهم تعظموا لذلك يسقطون إلى الأعماق ويضمحلون كسحابة صيف عابرة.
(٢٨) وفي الوقت ذاته يلتفت للذين يطلبون حق الله ويدافعون عنه ويلتمس منهم أن يهتفوا ويفرحوا. ثم ليكن فرحهم بالرب فقط لأنه هو الذي يهتم بسلامة عبده المتوكل عليه لا شك أن هؤلاء الذين يفرحون معه قليلون بالعكس عن أولئك الذين يفرحون بأذيته فهم كثيرون. ولكن ماذا يهمه وعليه كما عليهم أن يشتركوا معاً بحمد الرب وتسبيحه لأجل خلاصه.
(٢٩) ثم يعود لنفسه ويختلي بها مع إلهه بعد طوافه الطويل مع الناس حواليه من كل جانب ويرى عدل الله متجلياً أمامه فهو لم يفقد الشجاعة. ولم يعدم الصبر وطول الأناة. بل يرى أن يكرر الحمد والتسبيح وليكن ذلك ختام يومه. فإن قلبه مفعم بهذا السرور الغالب وماذا يستطيع الناس أن يقاوموه أو يطالوه بأي شيء (راجع مزمور ٧١: ٢٤).


اَلْمَزْمُورُ ٱلسَّادِسُ وَٱلثَّلاَثُونَ


لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ. لِعَبْدِ ٱلرَّبِّ دَاوُدَ


«١ نَأْمَةُ مَعْصِيَةِ ٱلشِّرِّيرِ فِي دَاخِلِ قَلْبِي أَنْ لَيْسَ خَوْفُ ٱللّٰهِ أَمَامَ عَيْنَيْهِ. ٢ لأَنَّهُ مَلَّقَ نَفْسَهُ لِنَفْسِهِ مِنْ جِهَةِ وِجْدَانِ إِثْمِهِ وَبُغْضِهِ. ٣ كَلاَمُ فَمِهِ إِثْمٌ وَغِشٌّ. كَفَّ عَنِ ٱلتَّعَقُّلِ، عَنْ عَمَلِ ٱلْخَيْرِ. ٤ يَتَفَكَّرُ بِٱلإِثْمِ عَلَى مَضْجَعِهِ. يَقِفُ فِي طَرِيقٍ غَيْرِ صَالِحٍ. لاَ يَرْفُضُ ٱلشَّرَّ. ٥ يَا رَبُّ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ رَحْمَتُكَ. أَمَانَتُكَ إِلَى ٱلْغَمَامِ. ٦ عَدْلُكَ مِثْلُ جِبَالِ ٱللّٰهِ، وَأَحْكَامُكَ لُجَّةٌ عَظِيمَةٌ. ٱلنَّاسَ وَٱلْبَهَائِمَ تُخَلِّصُ يَا رَبُّ».
غير أكيد تماماً متى كتب داود هذا المزمور وما هو الداعي لكتابته. قد يكون في أيام اضطهاد شاول له أو في أيام أبشالوم. وهو يظهر لنا أن لا يفتخر الشرير بشره بل على الصديقين أن يبغضوا الخطيئة ويبتعدوا عنها لينالوا بركة الرب وعلينا نحن أن نرنم هذا المزمور بغبطة وشكران. يضع عنوان المزمور «عبد الرب» ولا يوجد مثل هذا العنوان إلا في المزمور الثامن عشر ولا ندري تماماً لماذا يذكره. قد يكون لأنه خدم الرب في أيامه بصورة أتم وأكمل من أي إنسان آخر. في هذا المزمور وصف بليغ للشر والأشرار. بل يقتلع الشر هنا من أصوله ويرينا إياه.
(١) إن الشرير لم يصرّح علناً ضد خوف الرب والنأمة هي كلام بانين ولكنه أوحاها سراً للذين عرفوا معنى الورع أو لم يعرفوه. والترجمة اليسوعية تقول «للمنافق كلام معصية في باطن قلبه فإن مخافة الله ليست أمام عينيه». وأعتقد أن هذه الترجمة أصحّ وإن تكن تلك حرفية أكثر.
(٢) وهذا الشرير يخادع نفسه ويموّه عنها الحقائق «حتى لا يجد إثمه ممقوتاً في عينيه». إن الشرير وهو يتوغل في شره يريد أن يقنع ذاته أن حالته لا بأس بها وكلما ابتعد عن طريق الصواب كلما حسب نفسه أنه على حق.
(٣) بعد أن ذكر في العددين السابقين نبع الشر وأصله في الشرير يتحول الآن ليصف النتائج وإذا كلامه كذب وخداع وإذا أعماله بعيدة عن الخير لا يهمه إن صدق أو كذب إن خان العهود أو حافظ عليها. ولأن الشرير يخادع نفسه وهي التي يجب أن تكون أثمن شيء عليه لا عجب إن خادع الآخرين.
(٤) لأنه ترك الصلاح فهو يتفكر في عمل الإثم. ويبدأ تفكيره حينما يكون بعيداً عن الناس. لأن الشر يبدأ في القلب والنية قبل أن يظهر للعيان. واقترافه عندئذ عن سابق قصد وتصميم هو أفظع جداً من الطفرة والتسرع وبدلاً من أن ينصرف للصلاة والتأملات الروحية ينصرف للشر والأذية.
(٥ و٦) هنا ينظر نظرة ثانية فكما كانت الأولى كريهة وبغيضة هوذا نظرته الثانية لطيفة ومحيية. لقد يئس من الإنسان فنظر إلى الله. لقد سئم أن ينظر للأسفل فرفع بصره للسموات. فرأى رحمة الله ورأى أمانته. ثم نظر للجبال الراسخة فوجد فيها برهاناً قاطعاً أن عدل الله لا يزال موجوداً فلكي يتقوى ويتشجع كما أن أحكامه تعالى لا تدرك لعمق معانيها. وإنما يدله الاختبار أن الله يخلص الجميع من ناس وبهائم.
«٧ مَا أَكْرَمَ رَحْمَتَكَ يَا اَللّٰهُ، فَبَنُو ٱلْبَشَرِ فِي ظِلِّ جَنَاحَيْكَ يَحْتَمُونَ. ٨ يَرْوُونَ مِنْ دَسَمِ بَيْتِكَ وَمِنْ نَهْرِ نِعَمِكَ تَسْقِيهِمْ. ٩ لأَنَّ عِنْدَكَ يَنْبُوعَ ٱلْحَيَاةِ. بِنُورِكَ نَرَى نُوراً. ١٠ أَدِمْ رَحْمَتَكَ لِلَّذِينَ يَعْرِفُونَكَ وَعَدْلَكَ لِلْمُسْتَقِيمِي ٱلْقَلْبِ. ١١ لاَ تَأْتِنِي رِجْلُ ٱلْكِبْرِيَاءِ، وَيَدُ ٱلأَشْرَارِ لاَ تُزَحْزِحْنِي. ١٢ هُنَاكَ سَقَطَ فَاعِلُو ٱلإِثْمِ. دُحِرُوا فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا ٱلْقِيَامَ».
(٧) يتأكد المرنم أن كل البر والخير هما من الله (راجع هوشع ٤: ١ وإشعياء ٥: ٧) ولكنه يلتفت هنا ليخبرنا عن عناية رحمته. إن رحمته كريمة لا تحاسب على نسبة ما نحن بل على نسبة الله وما عنده. وهنا يشبه حمايته كإنما في ظل الأجنحة الأبدية (راجع راعوث ٢: ١٢) فإن الذين يلتمسون حماية الله لا يخيبون أبداً. ولا شك أن الذين لا يفهمون عنايته تعالى لم يتعرفوا عليه بعد ولم يعيشوا به أبداً.
(٨) إنهم بالله يمتلأون إذ لهم الرواء من خيرات الله ولا تعطش نفوسهم لأن نعمه دائمة الانسكاب عليهم. نعم إن النفس التي تطلب بركات الله لا تطلب شيئاً أتم وأكمل منه تعالى. ولأن كفايتهم بالله فقط لذلك إذا لم يكن لهم جميع بركاته. لا يهتمون كثيراً (راجع ٤: ١٨). فنكبّر أوعيتنا لكي تستطيع أن تسع أكثر فأكثر (رؤيا ٢٢: ١) ونرى نهر الله.
(٩) لأن الله نبع حياتنا لذلك فسعادتنا تتوقف على نسبة ما نرتوي منه. علينا أن نتصل به لكي ننال البركات. فلا يكفي أن يكون حوض الماء إذا لم تمتد إليه الأنابيب والأقنية لكي تأخذ منه وهكذا تتوزع المياه. «بنورك نرى نوراً» أي نستطيع أن نفهم على نسبة ما تسمح لنا به لذلك فحدود فهمنا أن نقبل نورك المشرق علينا من العلاء ولا نقفل عليه قط. ذلك النور الذي يناسبنا ويكفي تطلعنا للأفضل (راجع ١كورنثوس ١٣: ١٢ و١يوحنا ٣: ٢).
(١٠) لذلك يلتمس دوام الرحمة عليه لأنه يعرف الله وأما الذين لا يعرفونه فمع أنهم ينالون الرحمة ولكنهم لا يقدرون قيمتها ولا يفهمون معناها. وفي الوقت ذاته يلتمس أن ينال الصديقون ما ناله هو أيضاً. وهكذا يطلب العدل للذين يفهمون العدل والاستقامة. وهذا الدوام هو كالنبع الفياض الذي لا ينضب معينه بل يجري باستمرار.
(١١) ثم يعود إلى نفسه فيلتمس أن لا تكون له رجل تزلق بالكبرياء بل يطلب أن لا تكون أي يد للأشرار ممتدة إليه لكي تثنيه عن عزمه أو تبعده عن صلاحه لئلا يكون له جزاء الأشرار مثلهم.
(١٢) ويختم مؤكداً أن الأشرار سيسقطون. إنهم لا يستطيعون أن يربحوا المعركة الأخيرة قد يربحون معارك جمة وينجحون ولكن إلى حين. نعم نحن لا نفرح بسقوط الأشرار ولا نشمت بهم ولكن هذا لا ينفي تلك الحقيقة التي لا يجوز أن تغرب عن بالنا أن الشر والأشرار لا شك سيندحرون أخيراً ولا يبقى سوى الخير الذي من الله.


اَلْمَزْمُورُ ٱلسَّابِعُ وَٱلثَّلاَثُونَ


لِدَاوُدَ


«١ لاَ تَغَرْ مِنَ ٱلأَشْرَارِ وَلاَ تَحْسِدْ عُمَّالَ ٱلإِثْمِ، ٢ فَإِنَّهُمْ مِثْلَ ٱلْحَشِيشِ سَرِيعاً يُقْطَعُونَ، وَمِثْلَ ٱلْعُشْبِ ٱلأَخْضَرِ يَذْبُلُونَ. ٣ ٱتَّكِلْ عَلَى ٱلرَّبِّ وَٱفْعَلِ ٱلْخَيْرَ. ٱسْكُنِ ٱلأَرْضَ وَٱرْعَ ٱلأَمَانَةَ. ٤ وَتَلَذَّذْ بِٱلرَّبِّ فَيُعْطِيَكَ سُؤْلَ قَلْبِكَ. ٥ سَلِّمْ لِلرَّبِّ طَرِيقَكَ وَٱتَّكِلْ عَلَيْهِ وَهُوَ يُجْرِي، ٦ وَيُخْرِجُ مِثْلَ ٱلنُّورِ بِرَّكَ وَحَقَّكَ مِثْلَ ٱلظَّهِيرَةِ».
هذا المزمور يمتاز على غيره من المزامير بأنه ليس فقط للعبادة بل هو للإرشاد والموعظة فيبحث عدداً من النقاط الهامة في حياة الإنسان ويتساءل كيف ينجح الأشرار ويزدهرون؟ ولكن هل هذا على الدوام أم ذلك إلى حين. وكان حسب الشريعة الموسوية أن البار وحده هو الذي يباركه الله ولكن وجد أمثلة عديدة خالفت هذه النظرية ولم تتمشّ عليها فلماذا؟
(١) ما أكثر الذين يغارون من الأشرار ويقتدون بهم ويتمنون أن يكونوا مثلهم بل نجدهم يحسبونهم في سعادة وصفاء بينما هم في تعاسة وشقاء. كذلك علينا أن لا نحسدهم مهما بلغوا من حالة البحبوحة والرخاء ذلك أنهم هم كذلك حسب الظاهر لا في الحقيقة والعاقل من نظر للحقائق وابتعد عن الظواهر.
(٢) والسبب الذي يقدمه المرنم لماذا لا نغار منهم ولا نحسدهم هو لأن الأشرار سيهلكون لا محالة. وحالة الأبرار هي بالعكس فإن ظاهرهم قد تكون التعاسة ولكن باطنهم سعادة وخير وسلام. وذلك لأن حالتهم هذه لا تعتمد على الظروف الخارجية بل على الإيمان الذي يمنح مثل هذه البركات في قلب الإنسان. فقيمة الأشرار كالحشيش الذي لا يعمّر طويلاً بل للفناء ومظهر نشاطهم يتبدل كالعشب الذي لا يطول أمره حتى يذبل.
(٣) بهذا العدد يبدأ سلسلة نصائحه الثمينة فأولاً عليه أن يتكل على الرب لأن منه كل خير وإحسان وبعد ذلك لا يستطيع إلا فعل الخير إذ تتغير طبيعته ويبدأ بحياة الصلاح وتكون النصيحة عندئذ أنه إذا سكن الأرض فمن واجبه أن يكون أميناً في كل شيء «كن أميناً إلى الموت فسأعطيك إكليل الحياة».
(٤) حينئذ يكون الرب أعظم لذته. إن خطأنا عظيم حينما نحسب أن الدنيا وما فيها يمكنها من لذاتها أن تملأ نفسنا وتشبعها والحقيقة عكس ذلك وعلينا فقط أن نشرب من الماء الحي (راجع يوحنا ٤: ١٤) وحينئذ فقط يمنحنا الله كفايتنا ويكمل جميع نقائصنا ونقول «الرب راعي فلا يعوزني شيء».
(٥) إيانا أن نحسب إننا نعرف الطريق للحياة الخالدة علينا أن نسترشد ونستهدي أولاً وذلك بأن نسلّم للرب طريقنا وهو قال «أنا هو الطريق...» الذين يذهبون مع أناس يعرفون الطريق يسلّمون لهم مطمئنين واثقين. علينا أن نفسح مجالاً لله فقط وهو عندئذ يدبر كافة أمورنا وفي حينها.
(٦) حينئذ يكون سيرنا أميناً منيراً كإنما كل وقت عندنا هو الظهيرة. إذاً علينا أن نسيّر حياتنا واثقين وحينئذ لا شيء يختفي. إن البر الذي نقدمه هو معنا للأبد ولا يستطيع أي الناس أن ينتزعه منا.
«٧ ٱنْتَظِرِ ٱلرَّبَّ وَٱصْبِرْ لَهُ، وَلاَ تَغَرْ مِنَ ٱلَّذِي يَنْجَحُ فِي طَرِيقِهِ، مِنَ ٱلرَّجُلِ ٱلْمُجْرِي مَكَايِدَ. ٨ كُفَّ عَنِ ٱلْغَضَبِ وَٱتْرُكِ ٱلسَّخَطَ وَلاَ تَغَرْ لِفِعْلِ ٱلشَّرِّ، ٩ لأَنَّ عَامِلِي ٱلشَّرِّ يُقْطَعُونَ، وَٱلَّذِينَ يَنْتَظِرُونَ ٱلرَّبَّ هُمْ يَرِثُونَ ٱلأَرْضَ. ١٠ بَعْدَ قَلِيلٍ لاَ يَكُونُ ٱلشِّرِّيرُ. تَطَّلِعُ فِي مَكَانِهِ فَلاَ يَكُونُ. ١١ أَمَّا ٱلْوُدَعَاءُ فَيَرِثُونَ ٱلأَرْضَ، وَيَتَلَذَّذُونَ فِي كَثْرَةِ ٱلسَّلاَمَةِ».
(٧) بعد أن أنهى مجمل النصائح في الأعداد الستة السابقة يعود الآن للتفصيل فأول ما يلفت إليه الأنظار هو أن لا نتسرع في أحكامنا ولا سيما في الأمور الأدبية فعلينا أن نصبر وننتظر. وقوله «لا تغر...» أي لا تحسد أحداً ولا سيما أولئك الذين ينجحون بسبب المكايد التي يصنعونها ولا يتهيبون أن يرتكبوا شروراً كثيرة في سبيل نيل مآربهم الشخصية.
(٨) نصيحته بعد ذلك أن لا نغضب ولا سيما من الأمور التي يرتبها الله لنا وهكذا لا نتذمر من أي شيء بل نكون واسعي النظر بعيدي المدارك لأن الأمور ليست بظواهرها. كذلك علينا أن نرى فعل الشر مما يجب أن نتجنبه لا أن نقتدي بأصحابه قط. كم من هموم ومتاعب تزول عنا بسرعة إذا سلّمنا أمورنا للرب وعرفنا أن الحق وحده يبقى.
(٩) هنا يعطي السبب لماذا علينا أن ننتظر الرب ولا نغضب ذلك لأن الشر وأصحابه إلى حين ثم يقطعون (راجع أيوب ٢٠: ٢٨) وبالعكس فإن المنتظرين الصابرين هم الذين يرثون كل بركة وخير (راجع يعقوب ٥: ٨ و٩) علينا أن نلطف من حدتنا ونخفف من غلوائنا لأن الله قريب وهو يستجيب دعاء عبيده ولا يرذلهم (فيلبي ٤: ٥).
(١٠) ليس فقط أن الأشرار يقطعون ويرمون جانباً بل تأتيهم الحياة بويلاتها ولا يثبتون قط. وهكذا ليس فقط أن شجرة حياتهم تقطع بل تأتيهم أنهار المصائب وتجرفهم جرفاً ولا تبقى شيئاً منهم (انظر مزمور ٧٣: ١٧) وكذلك (إشعياء ٢٩: ١٧ - ١٩).
(١١) هذه الفكرة يضعها السيد المسيح في موعظته على الجبل (متّى ٥: ٥). وهذه الوداعة هي التي تكتفي بالخير الذي يمنحه الله وتسعد بالشكران. وأصحابها هم الذين لا يتذمرون ولا يشكون من شيء ولا ينظرون للوجه الأسود بل دائماً يفسرون مصائب الحياة بما يشجع ويقوي وينشط. هم الذين عمرت قلوبهم بالإيمان وانشغلت أيديهم بأعمال الرحمة والإحسان. لذتهم أن يروا الآخرين في بحبوحة وأعظم الخير لديهم هو أن يجدوا كل إنسان في سلامة وخير. هم الذين لا يعرفون معنى الأنانية في حياتهم اليومية بل يعيشون بالرضاء والقبول ثم ينصرفون للعمل النافع لا يثنيهم عنه شيء لأن جهودهم لا يعيقها أي عائق ولذلك فخيرات الأرض تصل لأيديهم أخيراً وينعمون قانعين.
«١٢ ٱلشِّرِّيرُ يَتَفَكَّرُ ضِدَّ ٱلصِّدِّيقِ وَيُحَرِّقُ عَلَيْهِ أَسْنَانَهُ. ١٣ ٱلرَّبُّ يَضْحَكُ بِهِ لأَنَّهُ رَأَى أَنَّ يَوْمَهُ آتٍ! ١٤ ٱلأَشْرَارُ قَدْ سَلُّوا ٱلسَّيْفَ وَمَدُّوا قَوْسَهُمْ لِرَمْيِ ٱلْمِسْكِينِ وَٱلْفَقِيرِ، لِقَتْلِ ٱلْمُسْتَقِيمِ طَرِيقُهُمْ. ١٥ سَيْفُهُمْ يَدْخُلُ فِي قَلْبِهِمْ وَقِسِيُّهُمْ تَنْكَسِرُ. ١٦ اَلْقَلِيلُ ٱلَّذِي لِلصِّدِّيقِ خَيْرٌ مِنْ ثَرْوَةِ أَشْرَارٍ كَثِيرِينَ. ١٧ لأَنَّ سَوَاعِدَ ٱلأَشْرَارِ تَنْكَسِرُ، وَعَاضِدُ ٱلصِّدِّيقِينَ ٱلرَّبُّ».
(١٢) هو شرير هنا بفكره ولا نستخف بالفكر قط لأننا كثيراً ما نرتكب الأخطاء بعقولنا فقط وهذا يكفي. وقوله أنه يفتكر ضد الصديق لأنه يرى حياته غير شكل فبدلاً من أن يقتدي يضع خططاً للكيد منه لكي ينتقص من فضيلته ثم هو يحرّق الأسنان ويصر عليها دليل الحقد والغضب هو لا يتمنى فعل الخير ولكنه يحسد أعماله وهكذا يزيد تعاسته بنفسه لنفسه.
(١٣)كيف لا يضحك به الرب؟ وهو عارف القلوب ومختبر النوايا وفاحص الخفايا. و «يومه» هنا تعني يوم قصاصه ودينونته.
(١٤) إن هؤلاء الأشرار قوم عتاة ظالمون يفرضون إرادتهم على الصالحين والمستقيمين ويريدون أن يتمموا كل شيء بالبطش وقوة الأسلحة. لذلك فشجاعتهم غير الشجاعة الأدبية وسلاحهم يستعملونه ضد المساكين والضعفاء ولا يجرؤون على استعماله ضد الأقوياء. فهم والحق يقال جبناء ويظهر جبنهم حينما يحاولون قتل المستقيمين مع أنهم لم يسيئوا إليهم ولكن تلك هي نفوسهم الخبيثة التي تظهر الشجاعة فقط في غير أوقاتها.
(١٥) ولكن الله يظهر عدله بكل جلاء فهو لا يرضى بحالة تستمر هكذا بل هو الذي يرد كيدهم في نحرهم وأسلحتهم تتحطم ولا تفيدهم كما لا تخذل سواهم. فالأمر الهام ليس الأسلحة بل استعمالها وضد من تستعمل.
(١٦) إن الله يبارك الصديقين ويجعل من قليلهم كثيراً ومن حقيرهم عظيماً. بالعكس عن الأشرار فإن غضب الله ونقمته عليهم. لهم ثروة ولكنها غير مباركة لذلك لا تسعدهم شيئاً ولأنهم يضعون قلوبهم على غناهم فهم في تعاسة وشقاء دائمين (انظر أمثال ١٥: ١٦ و١٧ و١٦: ٨ و٢٨: ٦). إن ثروة الصالحين هي بمواعيد الله وبعلاقتهم المتينة بالمسيح (انظر غلاطية ٣: ٨) لأنه وارث لكل شيء لذلك يعطي جميع خائفي اسمه.
(١٧) ذلك لأن الأشرار يستعملون سواعدهم للضرر بدلاً من النفع ولأنهم يريدون أن يكسروا غيرهم فيكسرون هم أولاً وهذا حق عليهم لا لهم. وإنما الرب فيعضد الصديقين ويعينهم ويساعدهم ويقويهم. هم وإن ظهروا متروكين منه فالحقيقة غير متروكين أبداً. إن طغيان الشر وذويه سيعقبه هبوط وتأخر واضمحلال ولكن الصديقين ينتقلون من قوة إلى قوة ومن نعمة إلى نعمة أتم وأكمل.
«١٨ ٱلرَّبُّ عَارِفٌ أَيَّامَ ٱلْكَمَلَةِ، وَمِيرَاثُهُمْ إِلَى ٱلأَبَدِ يَكُونُ. ١٩ لاَ يُخْزَوْنَ فِي زَمَنِ ٱلسُّوءِ، وَفِي أَيَّامِ ٱلْجُوعِ يَشْبَعُونَ. ٢٠ لأَنَّ ٱلأَشْرَارَ يَهْلِكُونَ، وَأَعْدَاءُ ٱلرَّبِّ كَبَهَاءِ ٱلْمَرَاعِي. فَنُوا. كَٱلدُّخَانِ فَنُوا. ٢١ ٱلشِّرِّيرُ يَسْتَقْرِضُ وَلاَ يَفِي، أَمَّا ٱلصِّدِّيقُ فَيَتَرَأَّفُ وَيُعْطِي. ٢٢ لأَنَّ ٱلْمُبَارَكِينَ مِنْهُ يَرِثُونَ ٱلأَرْضَ، وَٱلْمَلْعُونِينَ مِنْهُ يُقْطَعُونَ. ٢٣ مِنْ قِبَلِ ٱلرَّبِّ تَتَثَبَّتُ خَطَوَاتُ ٱلإِنْسَانِ وَفِي طَرِيقِهِ يُسَرُّ».
(١٨) هو عارف أيامهم بمعنى حافظ لهم فلا يتركهم ولا يتخلى عنهم. وهم إذاً تحت عنايته الحنونة الدائمة. ولأنهم كذلك فهم لا يقطعون من الأرض وذكرهم لا يباد بل يحفظهم الرب ويحفظ ميراثهم فيبقى من جيل إلى جيل. إن الله يسر بهم ولذلك فذكرهم سيبقى إلى الأبد ولذلك فلا يجوز أن يحسدوا الأشرار أو يتشبهوا بعمال الإثم لأنهم أسعد منهم وأحسن حالاً.
(١٩) إن ديانتهم ليست سبب خزي لهم بل هي التي تعضدهم وتقويهم وهي التي يجب أن تشددهم لا سيما وقت السوء والشدائد لأن لهم التعزية والعضد. وإذا اجتاحت المجاعة بلادهم فهم لا يجوعون لأنهم يتكلون على الرب. ولا يجوز لهم أن يتذمروا من أي شيء مهما كان (إشعياء ٨: ٢١). عليهم أن يروا وراء ظواهر الأشياء ويتمتعوا بخلاص الرب (حبقوق ٣: ١٧ و١٨).
(٢٠) ذلك لأن الأشرار يبادون ويضمحلون ولا شيء من الخير يثبت عندهم. إن لذة الأشرار هي محاربة الفضيلة والبر وإذا عجزوا عن أن يفعلوا شيئاً يتحولون ضد الفاضلين والأبرار لكي ينتقموا منهم ويكيدوا لهم. ولكن بمساعيهم الشريرة لا يهلكون سوى أنفسهم ولا يضرون ضرراً حقيقياً سوى ذواتهم. «ذلك لأن الباغي أظلم». وعلى الباغي تدور الدوائر.
(٢١) هنا يعطي مقابلة بين معاملة الشرير والصديق. فالشرير يستقرض ولكنه لا يعطي مقابل ما يأخذه فهو واسع الذمة ولا يحترم الحق ولا يتمشى حسب القانون. وبالعكس فإن الصديق يعطي أكثر من الحق فهو يتساهل ويحسن مترأفاً كريماً حنوناً. لا يهمه ربح المال بل ربح النفوس (راجع أيوب ٦: ٨ - ١٤ وأمثال ٢٢: ٧).
(٢٢) ولكنهم (أي الأشرار) كلما تمادوا في غيهم كلما أصابتهم لعنة بعد لعنة حتى يبادوا ويقطعوا. وبينما الأبرار لهم البركة والنعمة ولهم الميراث إذ «كل الأشياء تعمل معاً للخير للذين يحبون الله». في هذه الآية يفصل بين جماعتين ويجعل فريقاً غير شكلٍ عن الآخر وهم المباركون من جهة والملعونون من جهة أخرى.
(٢٣) ويقصد هنا «الإنسان» أي الإنسان الصالح الذي يسير في سبيل الله ويتمم مشيئته تعالى فهو غير متقلقل بل ثابت وهو يفرح فيما يتممه من أعمال وما يقوم به من واجبات لأن راحة الضمير ترافقه ورضا الله عليه ينير له الطريق فيمشي غير عاثر ولا يخاف أي الشرور. إن الله يعمل في قلب الإنسان الصالح بواسطة روحه الذي يرشد ويهدي لذلك تكون نتيجة حياته السعادة الكاملة والسرور.
«٢٤ إِذَا سَقَطَ لاَ يَنْطَرِحُ لأَنَّ ٱلرَّبَّ مُسْنِدٌ يَدَهُ. ٢٥ أَيْضاً كُنْتُ فَتىً وَقَدْ شِخْتُ وَلَمْ أَرَ صِدِّيقاً تُخُلِّيَ عَنْهُ وَلاَ ذُرِّيَّةً لَهُ تَلْتَمِسُ خُبْزاً. ٢٦ ٱلْيَوْمَ كُلَّهُ يَتَرَأَّفُ وَيُقْرِضُ وَنَسْلُهُ لِلْبَرَكَةِ. ٢٧ حِدْ عَنِ ٱلشَّرِّ وَٱفْعَلِ ٱلْخَيْرَ وَٱسْكُنْ إِلَى ٱلأَبَدِ. ٢٨ لأَنَّ ٱلرَّبَّ يُحِبُّ ٱلْحَقَّ وَلاَ يَتَخَلَّى عَنْ أَتْقِيَائِهِ. إِلَى ٱلأَبَدِ يُحْفَظُونَ. أَمَّا نَسْلُ ٱلأَشْرَارِ فَيَنْقَطِعُ. ٢٩ ٱلصِّدِّيقُونَ يَرِثُونَ ٱلأَرْضَ وَيَسْكُنُونَهَا إِلَى ٱلأَبَدِ».
(٢٤) إن الله يحفظنا من الانخذال الكامل. قد تأتينا التجارب ونزلق ولكن إيانا أن ننطرح كإنما قد قضي علينا ولا نستطيع النهوض بعد. لنعد إلى الله حالاً فهو الذي يعيننا على التوبة. وهو سندنا وعليه نتكل حتى لا نرتمي على الثرى. فقد تأتينا الأحزان والضيقات ونتجرب بشدة ونشعر أننا قد انحدرنا عميقاً ولكن علينا أن نعود لله حالاً بالتوبة وطلب الغفران وهو يسندنا فلا نفشل.
(٢٥) يسرد المرنم اختبار السنين فيذكرنا أنه كان فتى ومرّ بأدوار الحياة كلها وعلى السامع أن يضع هذا الاختبار في مقامه اللائق. نعم إن داود حينما كان هارباً من وجه شاول التجأ إلى أخيمالك الكاهن وأكل خبز التقدمة لأنه كان جائعاً خائفاً ولكنه حادث وقتي وبظرف معين ليس إلا. وما أثمن هذا الاختبار الذي يلقيه علينا (راجع فيلبي ١: ٢٩). إن الذين يفعلون الخير لا يندمون قط بل هم مباركون دائماً حتى إلى ذراريهم.
(٢٦) إن الأموال والخيرات التي وهبها الله لهم لا تنقص بالعطاء والإحسان بل تزيد وتتكاثر (أمثال ١١: ٢٤ - ٢٦) وأيضاً انظر (جامعة ١: ١ - ٦) إن عمله اليومي هو طلب الخير لا فرق عنده أجاءه الفقير في أول النهار أو آخره فهو مستعد دائماً أن يرحم الآخرين ويخفف آلام المتألمين. ولأنه ذلك فنسله مبارك أيضاً لأن أولاده يقتدون به وينسجون على منواله.
(٢٧) هذه نصيحة عامة حكيمة للغاية (راجع مزمور ٣٤: ١١ - ١٤). إن الحيدان عن الشر هو تجنب أسبابه وعدم التحرش بفاعليه حتى إذا قصد بعضهم أن يعتدوا علينا فمن الواجب أن لا نقابلهم بالمثل. إن واجبنا أن نفعل الخير لأن ذلك أبقى وأجدى وبهذه الواسطة نثبت للأبد ولا نتزعزع (راجع ١بطرس ١: ٣ - ٥).
(٢٨) إن الرب يحب الحق ويحب الذين يفعلونه ويجازيهم خيراً بدل كل أفعالهم. فهو يسهر على الأتقياء ويحفظهم وينجيهم من المخاطر وينذرهم. هم محفوظون لأنهم بعنايته وتحت ظل جناحيه يحتمون. وبالعكس فإن الأشرار نصيبهم الهلاك والدمار. وحفظه للأبرار ليس لوقت محدود بل للأبد (راجع ٢تيموثاوس ٤: ٤٨ ومزمور ١٢: ٧).
(٢٩) إذاً فالأبرار يربحون هذه الدنيا في نظره وبعد أن تنتهي حياتها يربحون الآخرة أيضاً. يكرر هذه الفكرة عن الودعاء والصديقين أنهم يرثون الأرض لذلك فلا خيبة حقيقية لهم على الإطلاق. وإنما عليهم أن ينتظروا ولا يعدموا صبراً مهما تقلبت الظروف والأحوال. وعلى كل فإن النتائج لا تظهر بسرعة كما أننا لا نأكل ثمرة الشجرة في اليوم الذي نغرسها فيه وهكذا علينا أن ننتظر ولا نفشل ولا نتراجع بل نعمل لله وفي سبيله تعالى.
«٣٠ فَمُ ٱلصِّدِّيقِ يَلْهَجُ بِٱلْحِكْمَةِ وَلِسَانُهُ يَنْطِقُ بِٱلْحَقِّ. ٣١ شَرِيعَةُ إِلٰهِهِ فِي قَلْبِهِ. لاَ تَتَقَلْقَلُ خَطَوَاتُهُ. ٣٢ ٱلشِّرِّيرُ يُرَاقِبُ ٱلصِّدِّيقَ مُحَاوِلاً أَنْ يُمِيتَهُ. ٣٣ ٱلرَّبُّ لاَ يَتْرُكُهُ فِي يَدِهِ، وَلاَ يَحْكُمُ عَلَيْهِ عِنْدَ مُحَاكَمَتِهِ. ٣٤ ٱنْتَظِرِ ٱلرَّبَّ وَٱحْفَظْ طَرِيقَهُ فَيَرْفَعَكَ لِتَرِثَ ٱلأَرْضَ. إِلَى ٱنْقِرَاضِ ٱلأَشْرَارِ تَنْظُرُ».
(٣٠) يلهج أو يهذّ أي يتكلم باهتمام. وفي الأصل العبراني يفيد معنى التفكير أو التفكير بشكل كلام. هو شغوف بالحكمة فلا يثرثر بلا فائدة بل يتكلم قليلاً لأنه يفكر كثيراً. وهو شغوف بالحق وينطق به ويرى أن كل كلام بغير الحق لا يرضي الله تعالى ولا من شأنه أن يقوله.
(٣١) إن حياته الأدبية ثابتة ذلك لأن معرفته تمييزه بين الحق والباطل هو شيء يتناول القلب والإنسان الداخلي وليس فقط الأمور الظاهرة. إن الصديق بعرفه هو ذاك الذي يعتمد على شريعة الله فمشيئته يجب أن تخضع لمشيئة الله. وهذا العدد يتمم سابقه. فالصديق يتكلم ويفكر بالحكمة والحق مرتكزاً بذلك على قلب صالح مستقيم يستمد صلاحه من الله وشريعته (راجع إرميا ٣١: ٣٣ و٣٤ ورومية ٧: ٢٢ - ٢٥).
(٣٢ و٣٣) الشرير يراقب الصديق ويا للأسف ليس ليستفيد منه ويتكلم بل ليصطاده بالكلام ويوقعه وإن تمكن منه فلكي يميته. ذلك لأنه لا يهمه الحق بل يسعى وراء الباطل ولا يسعى في سبيل الصالح العام بل لأجل ذاته الشريرة وتكون النتيجة أنه بدلاً من أن يصل إلى غايته في إماتة البار لا يميت سوى نفسه أخيراً وهنا يظهر عدل الله فيه. وهذا معنى قوله «الرب لا يتركه في يده...» ولا يسمح له أن ينال منه المرام. ذلك لأن هذا الشرير ليس من صلاحيته أن يدين أحداً لا سيما أن البار نفسه لا يستطيع أن يدين البار فكم بالأحرى أن الشرير يدين البار؟ والله الذي وحده له الحق أن يدين العالمين فإنه حينما يأتي لدينونة البار فهو يبرره ويطلق سراحه ولا يحكم عليه بل يحكم له بنوال الجزاء العادل. إن الله ذاته يبررنا إذا كنا غير مذنبين. إن التهم الباطلة التي يتهم بها الأبرار سترمى جانباً ولن يكون لها أقل قيمة (راجع زكريا ٣: ١ و٢).
(٣٤) هنا يبدأ المرنم في تلخيص ما بدأ به فعلينا أن ننتظر ولا نتسرع في أي الأمور وهكذا نحفظ طريق الرب ونتميز خطوطها ومنعطفاتها جيداً وهكذا لا نبتعد عن الحظيرة ولا نضل السبيل إليها. لا يجوز لنا أن نحيد قيد شعرة عن الخطة المثلى المرسومة أمامنا. وحينئذ ولو سقطنا فإنه يرفعنا وينجح مساعينا وهكذا تكون النتيجة أن الأشرار وحدهم ينقرضون ويضمحلون بينما الصديقون ينالون رضا الله والنجاح الأكيد.
«٣٥ قَدْ رَأَيْتُ ٱلشِّرِّيرَ عَاتِياً، وَارِفاً مِثْلَ شَجَرَةٍ شَارِقَةٍ نَاضِرَةٍ. ٣٦ عَبَرَ فَإِذَا هُوَ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ، وَٱلْتَمَسْتُهُ فَلَمْ يُوجَدْ. ٣٧ لاَحِظِ ٱلْكَامِلَ وَٱنْظُرِ ٱلْمُسْتَقِيمَ، فَإِنَّ ٱلْعَقِبَ لإِنْسَانِ ٱلسَّلاَمَةِ. ٣٨ أَمَّا ٱلأَشْرَارُ فَيُبَادُونَ جَمِيعاً. عَقِبُ ٱلأَشْرَارِ يَنْقَطِعُ. ٣٩ أَمَّا خَلاَصُ ٱلصِّدِّيقِينَ فَمِنْ قِبَلِ ٱلرَّبِّ، حِصْنِهُمْ فِي زَمَانِ ٱلضِّيقِ. ٤٠ وَيُعِينُهُمُ ٱلرَّبُّ وَيُنَجِّيهِمْ. يُنْقِذُهُمْ مِنَ ٱلأَشْرَارِ وَيُخَلِّصُهُمْ، لأَنَّهُمُ ٱحْتَمُوا بِهِ».
(٣٥) قوله شجرة شارقة ناضرة وبالعبرانية (استراخ) وقد ذهب كثيرون من المفسرين أن معناها شجرة نابتة ونامية في أرضها. أما الترجمة السبعينية وترجمة الفولكت فتسميه الأرز ولكن في ترجمات أخرى فهي «Laurel» التي تزهو بالزهور في موسمها. والمعنى هو أن الشرير يظهر عظيماً وخطيراً ويحسب نفسه في نجاح وتقدم ولكن انتظر عليه قليلاً فترى ما يصيبه من اضمحلال وانخذال.
(٣٦) ذلك لأنه يعبر ويزول ولا يمكنه أن يثبت. وإذا تابعنا صورة الشجرة فهو لا يمكن أن ينقل من مكانه كبعض أنواع الأشجار التي تيبس حالاً إذا غرست في مكان آخر غير مكانها. إذاً فهذا الشرير يظهر بمظهر السؤدد والعظمة في البيئة الحقيرة التي يعيش فيها ولكنه متى قوبل مع الناس ذوي القيمة الحقة فهو لا شيء. يعبر ولا أحد يشعر بوجوده. حينئذ ينكشف أمره وتظهر حقيقته بل وينال جزاءه العادل لأن الباطل لا بد أن ينكشف.
(٣٧) ولكن هنا المقابلة التي يجب أن تقنعنا بالصواب. علينا أن نرى الفرق بالملاحظة فإن الإنسان الكامل المستقيم هو الذي تسلم جميع عواقبه أخيراً وتكون نتيجة مساعيه في سبيل رضا الله. ولكن هذا قد لا يظهر لأول وهلة فعلينا أن نلاحظ الأمور لأنفسنا لئلا يفوتها المعنى.
(٣٨) للأشرار نصيب محتوم قد كرره سابقاً ويكرره الآن وهو الهلاك ليس لهم وحدهم فقط بل للذرية التي تأتي بعدهم. وقد حكم عليهم هكذا لأنهم يقتدون بآبائهم الذين سبقوهم فكما حدث لأولئك يحدث لهؤلاء. وخلاصة القول أن الذي يسعى للسلام يناله أخيراً وأما الذي يسعى للخصام والشر فلا شك سيكون له عكس ذلك ولا يلم الشرير أحداً سوى نفسه.
(٣٩) وهنا ينسب فضل الخلاص ليس للبشر بل للرب. لذلك فهو خلاص أكيد كامل وبلطفه تعالى وفي الظرف الذي يعينه ويريده. وقوله «حصنهم» كان الأفضل أن يترجمها «ملاذهم» أي المكان الذي يلجأون إليه وبه يحتمون. هو الذي يعطيهم الخلاص ولا يؤخره قط.
(٤٠) فهو لا يكتفي أن يساعد ويعين بل يساعد إلى التمام حتى يكمل النجاة ولا يبقى شيء من آثار الخوف. وهو يفعل ذلك لأن هؤلاء المحتمين الصالحين يلجأون إليه. وأعظم فضيلة في الشرق عند العرب حتى اليوم أن يجير الإنسان مستجيراً فمن الواجب هي الإجارة والله فعل ذلك لكي يظهر حقه ضد أي باطل. فهو إله بار ولا يرضى إلا أن يسود البر وحده أخيراً.


اَلْمَزْمُورُ ٱلثَّامِنُ وَٱلثَّلاَثُونَ


مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ لِلتَّذْكِيرِ


«١ يَا رَبُّ لاَ تُوَبِّخْنِي بِسَخَطِكَ، وَلاَ تُؤَدِّبْنِي بِغَيْظِكَ، ٢ لأَنَّ سِهَامَكَ قَدِ ٱنْتَشَبَتْ فِيَّ، وَنَزَلَتْ عَلَيَّ يَدُكَ. ٣ لَيْسَتْ فِي جَسَدِي صِحَّةٌ مِنْ جِهَةِ غَضَبِكَ. لَيْسَتْ فِي عِظَامِي سَلاَمَةٌ مِنْ جِهَةِ خَطِيَّتِي. ٤ لأَنَّ آثَامِي قَدْ طَمَتْ فَوْقَ رَأْسِي. كَحِمْلٍ ثَقِيلٍ أَثْقَلَ مِمَّا أَحْتَمِلُ. ٥ قَدْ أَنْتَنَتْ، قَاحَتْ حُبُرُ ضَرْبِي مِنْ جِهَةِ حَمَاقَتِي».
هذا المزمور وعنوانه للتذكير هو حلقة من سلسلة المزامير للتوبة فإن داود بعد ارتكابه خطيئته العظيمة (راجع بالأخص ٢صموئيل ١٢: ١٤) فيمكننا أن نحسب هذه السلسلة هي (المزامير ٦ و٣٨ و٥١ و٣٢) وهذه ربما كتبت هكذا بحسب الترتيب التاريخي الواحد بعد الآخر. وهنا يبدأ في الطريقة ذاتها التي يبدأ بها المزمور السادس. وحينما كانت تقدم تقدمة «المنحة» كانوا يرمون بنار المذبح المتقدة قطعة منها مخلوطة بالبخور حتى يصعد أمام الله ويذكر الإنسان بإلهه. والأرجح أن المزمور السادس والثامن والثلاثين كانا يستعملان للصلاة أثناء هذه التقدمة المذكورة. وفي هذا المزمور يشكو المرنم ليس من آلام الجسد والروح فقط بل أيضاً من الأعداء الذين يغتنمون فرصة سقوطه لكي يسببوا هلاكه بالكلية.
(١) يلتمس من الله أن يرأف به ولا يوبخه وهو غضبان عليه. بالطبع لم يكن قد سما فكر المذنب في العهد القديم إلى ما وجد في العهد الجديد وهنا المرنم يلتمس أن لا ينفضح أمره ولا يذلّ أمام الآخرين لا سيما أعداؤه الذين يغتنمونها فرصة للحط من كرامته وإنزال أعظم الأذى والضرر به.
(٢) ويشبه إمارات الغضب في الله كأنها سهام مسنونة تنزل عليه وهكذا حسب هوميروس غضب الآلهة قديماً ولا سيما زفس الذي كان يرمي العالم بنباله. وهذه السهام قد أصابته ونشبت به ويتصور أن يد العدل الإلهي تطاله إلى التمام وليس باستطاعته أن ينجو. إن يد الله تقاص وتؤدب وهكذا يتأكد المرنم إن ما أصابه من ويلات هو في سبيل عقوبته (انظر مزمور ٣٢: ٤).
(٣) طالما غضب الله عليه فلا يشعر بصحة في جسمه ولا سلامة في داخله. هو شعور الخيبة المرة في نفسه بل شعور تحقيره لذاته ولا شك أن للعقل تأثيراً عظيماً في الجسم الإنساني إذ حينما نكون في اضطراب عقلي أو حزن أو كآبة مرة لا شك يظهر هذا في أنواع الهموم التي نحتملها وتقض مضاجعنا.
(٤) ويشبّه أن غمر الآثام كان كما تغمر المياه المتزايدة الأرض بالطوفان فهو يشعر كأنه في غرق لا يستطيع أن ينتشل نفسه مما هو فيه. ولذلك يشعر أنه رازح تحت ثقل عظيم لا يمكنه الاحتمال.
(٥) وأما ظهور عدم احتماله فهو حينما ظهرت فيه تلك الحبر والقروح التي انتشرت في جسده وجعلته يتألم ويتعذب كثيراً وينسب ذلك هنا ليس للشر الذي اقترفه بل للحماقة التي ظهر بها. وسبب ذلك أنه ضرب ولا ندري أهو بصورة المجاز أم كان ضرباً حقيقياً (راجع إشعياء ١: ٦) فيكون أن هذا الضرب قد جرحه وهذه الجروح تحولت إلى قروح أيضاً.
«٦ لَوِيتُ. ٱنْحَنَيْتُ إِلَى ٱلْغَايَةِ. ٱلْيَوْمَ كُلَّهُ ذَهَبْتُ حَزِيناً. ٧ لأَنَّ خَاصِرَتَيَّ قَدِ ٱمْتَلأَتَا ٱحْتِرَاقاً، وَلَيْسَتْ فِي جَسَدِي صِحَّةٌ. ٨ خَدِرْتُ وَٱنْسَحَقْتُ إِلَى ٱلْغَايَةِ. كُنْتُ أَئِنُّ مِنْ زَفِيرِ قَلْبِي. ٩ يَا رَبُّ، أَمَامَكَ كُلُّ تَأَوُّهِي، وَتَنَهُّدِي لَيْسَ بِمَسْتُورٍ عَنْكَ. ١٠ قَلْبِي خَافِقٌ. قُوَّتِي فَارَقَتْنِي، وَنُورُ عَيْنِي أَيْضاً لَيْسَ مَعِي».
(٦) كان منحنياً ملتوياً على نفسه من جراء همومه وأحزانه. كثير التفكير تسوده المخاوف وتساوره مشاغل البال فلا يستطيع أن يرفع رأسه إلى فوق بل دائماً ينظر للأسفل لا يجرؤ أن يفعل أكثر من ذلك (راجع إشعياء ١٢: ٣٠ ومزمور ٣٥: ١٤) هو مريض بالجسم والروح لذلك ينحني على هذا الشكل.
(٧) لا ندري تماماً هل هنا يصف مرضاً ألمّ به أم هو وصف لحالة مؤسفة وصل إليها. وطالما يذكر الاحتراق في خاصرتيه فقد يكون أنه أصابه نوبة كلوية جعلته يلتوي من الآلام حتى أنه اعتقد في نفسه أن لا صحة في جسده البتة. أما شعوره هذا فناتج عن شروره التي ارتكبها ولا سيما في حادثة أوريا الحثي.
(٨) ولشدة ما أصابه من أوجاع وأمراض فقد كاد لا يعي على شيء. وحتى أنه شعر أنه بدون قوة ولا نشاط البتة. وذلك لأن قلبه كان في زفير وتنهد متواصل. والتنهد يقصد به التخفيف عما يكنه الفؤاد في الداخل فإن الآلام إذا زادت كثيراً فلا يسع الصدر إلا أن يخرجها خارجاً وهكذا فهي علامة عما في الداخل من عواطف مكبوتة.
(٩) بعد أن يسكب المرنم شكواه بشكل واضح مسموع إذا به في هذا العدد يرتمي عند قدمي إلهه من التعب والعياء. لذلك فسكوته الآن هو لأجل الخضوع والتسليم الكامل ولأنه يرى نجاته قريبة بواسطة اليد التي تمتد لخلاصه. وهو لا يحاول الكتمان بل يقول أن ليس شيء مستوراً من تنهداته. إن الله عالم بحالته وبتأوهه هذا هو فقط يفرج ضيق قلبه ولا يعطي علماً لله بحاله. لأن الله يعلم بكل شيء كذلك لا يتأوه لكي يعزي نفسه ويخفف من أثقاله. ولكنه يصف حالته وصفا دقيقاً أميناً طالباً من الله فرجاً وسلاماً.
(١٠) إذا به يجد قلبه خائفاً من الآلام التي يكنها بل يجد أن النور قد انطفأ من عينيه ولا يجد سوى ظلام في ظلام. والأرجح أن حالته كانت هكذا من فرط بكائه ونحيبه حتى يكاد يفقد كل لذة في الحياة. إن ضربة الله عليه شديدة وقاسية (راجع ٢صموئيل ١٨: ١٣) ذلك لأنها كانت ضربة الغضب والسخط لا ضربة المحبة والرضوان.
«١١ أَحِبَّائِي وَأَصْحَابِي يَقِفُونَ تُجَاهَ ضَرْبَتِي، وَأَقَارِبِي وَقَفُوا بَعِيداً. ١٢ وَطَالِبُو نَفْسِي نَصَبُوا شَرَكاً، وَٱلْمُلْتَمِسُونَ لِيَ ٱلشَّرَّ تَكَلَّمُوا بِٱلْمَفَاسِدِ، وَٱلْيَوْمَ كُلَّهُ يَلْهَجُونَ بِٱلْغِشِّ. ١٣ وَأَمَّا أَنَا فَكَأَصَمَّ لاَ أَسْمَعُ. وَكَأَبْكَمَ لاَ يَفْتَحُ فَاهُ. ١٤ وَأَكُونُ مِثْلَ إِنْسَانٍ لاَ يَسْمَعُ، وَلَيْسَ فِي فَمِهِ حُجَّةٌ. ١٥ لأَنِّي لَكَ يَا رَبُّ صَبِرْتُ، أَنْتَ تَسْتَجِيبُ يَا رَبُّ إِلٰهِي. ١٦ لأَنِّي قُلْتُ: لِئَلاَّ يَشْمَتُوا بِي. عِنْدَمَا زَلَّتْ قَدَمِي تَعَظَّمُوا عَلَيَّ».
(١١) هم يقفون بعيداً إما لأنهم لا يستطيعون ولا يتجاسرون على الاقتراب لئلا يقوم عليهم الأعداء ويفتكوا بهم أو لأنهم يشمتون به ولا يهتمون بأمره ولا بأي شيء يصيبه لا فرق عندهم أكان في خير أم في شر. والمرنم يصبح حزنه مزدوجاً لأنه في حالة شدته هذه لا يجد من يسعفه أو من يلتفت إليه ويقول له كيف حالك وماذا تفعل. لا سيما وبين هؤلاء هم الأقارب الذين كان الواجب يقتضيهم أن يهتموا ويسرعوا للنجدة أكثر.
(١٢) بل إن هؤلاء الأعداء المتلبسين ثياب الصداقة سوف ينكشف أمرهم وتبان مقاصدهم كما هي فإذا هم ينصبون الشراك ويطلبون الشر لا الخير. ويتكلمون بالمفاسد والموبقات بدلاً من الصلح والسلام. بل هم يتمادون في غيهم ويستمرون على غشهم حاسبين أن حيلهم بالصداقة تسلك عليه بعد.
(١٣) تجاه حالة محزنة كهذه يجد المرنم الأفضل له أن يسكت ولا ينبس ببنت شفة ويتظاهر أنه لا يسمع ما يقولون به عليه ذلك لأنه وجد بالاختبار أن السكوت في مواقف كثيرة هو أفضل من رد الجواب. وقد يكون أنه شعر بعدم قدرته لمجابهتهم العداوة بمثلها فرأى الأفضل أن يسكت ولا يستمع لهم قط.
(١٤) في هذا العدد توكيد لسابقه فهو يحاول أن ينسى كل شيء حتى أنه لا يجد حجة في لسانه يحتج بها عليهم ويتنازل عن كل مطالبه وحقوقه أمامهم. هؤلاء الأعداء هم قوم قساة فاجرون ويرى أن أفضل أسلوب يتبع معهم هو السكوت. لقد ملك طبعه ولجم لسانه ولم يسترسل في عاطفته وهكذا ربح المعركة ولا يمكن أن يخسر.
(١٥) وسبب ربحه أنه اتكل على إلهه. فالقوة ليست من الناس ولا من داخل الإنسان بل من فوق. فهو قد صبر ولذلك فالرب قد استجاب له. إن الله لا يتخلى عن الصابرين الراجين الرحمة والملتجئين إليه في ضيقاتهم. وفي كتاب الصلاة العامة تترجم كلمة تستجيب بقول «وأنت تجيب عني» فإن هذا الشخص المعذب لا يستطيع أن يرد عنه الألسنة ولكن الله يستطيع.
(١٦) يخاف شماتة الأعداء ويشغل باله من أجل ذلك. هو يقول ويعترف أنه قد زلت به القدم ولكنه لا يريد من هؤلاء الواقفين جنبه أن يهزأوا به ويتكبروا عليه ويحتقروه هذا الاحتقار المشين.
«١٧ لأَنِّي مُوشِكٌ أَنْ أَظْلَعَ، وَوَجَعِي مُقَابِلِي دَائِماً. ١٨ لأَنَّنِي أُخْبِرُ بِإِثْمِي وَأَغْتَمُّ مِنْ خَطِيَّتِي. ١٩ وَأَمَّا أَعْدَائِي فَأَحْيَاءٌ. عَظُمُوا. وَٱلَّذِينَ يُبْغِضُونَنِي ظُلْماً كَثُرُوا. ٢٠ وَٱلْمُجَازُونَ عَنِ ٱلْخَيْرِ بِشَرٍّ يُقَاوِمُونَنِي لأَجْلِ ٱتِّبَاعِي ٱلصَّلاَحَ. ٢١ لاَ تَتْرُكْنِي يَا رَبُّ. يَا إِلٰهِي لاَ تَبْعُدْ عَنِّي. ٢٢ أَسْرِعْ إِلَى مَعُونَتِي يَا رَبُّ يَا خَلاَصِي».
(١٧) يقر هنا أنه يكاد يسقط مرتمياً بسبب أتعابه وهمومه وخطاياه. وهو يرى أن أوجاعه لا تزال مقابله في كل حين. لقد فقد كل ثقة بنفسه ولا يستطيع أن ينهض وحده لا سيما والأوجاع تقض مضجعه وتحرمه لذة الحياة. وهكذا يلتمس من الله عوناً وإسعافاً بصورة ضمنية غير مباشرة.
(١٨) لا يستطيع أن ينسى إثمه فهو يعترف به جهراً ويخبر عنه وهذا ليس لأنه يفتخر بذلك بل لأنه يرى في هذا الاعتراف تخفيفاً من حمله الذي يكاد يرزح تحته ولا يستطيع أن يفعل به شيئاً. وفي الوقت ذاته هو حزين مغموم والحزن على الخطية كما نعلم هو أول باب للاعتراف بها ثم تركها والتوبة عنها بتاتاً.
(١٩) ثم يقابل حالته السيئة هذه بأعدائه فيجدهم أقوياء متعظمين بل يجدهم يتكاثرون عليه لأن أولئك الأصدقاء بالأمس قد انقلبوا عليه الآن وكانت صداقتهم صداقة المصلحة الوقتية ولذلك حينما ذهبت المصلحة ذهبت صداقتهم أيضاً. بل أن حالة داود وخطيئته قد جعلت كل إنسان يبتعد عنه حتى ألزم الأصدقاء وأقربهم إليه.
(٢٠) والذي يكيده كثيراً ويمرّر حياته هم أولئك الأصدقاء الذين حسبهم مخلصين وعمل معهم خيراً إذا بهم يجازونه عن الخير شراً ونجدهم يقاومونه الآن لأنه يتبع الصلاح ويترك الباطل إلى الأبد. إذاً هنا لا يستاء من الأعداء الذين يجهرون بالعداوة بل كل كدره من الأصدقاء الذين يكنون في قلوبهم العداوة اللدودة.
(٢١) هنا في هذا العدد والعدد الذي يليه ختام لطيف لهذا المزمور فإن تركه الناس فالله لا يتركه وإن خانه الأصدقاء وتحولوا لأعداء فإن الله لن يخونه بل يبقى معه دائماً. ولا شيء يسر قلب المؤمن سروراً أكيداً حقيقياً سوى مثل هذا الإيمان. هو متروك وبعيد ولذلك فهو يطلب من الله أن لا يتركه ولا يبتعد عنه.
(٢٢) إن نجدته ضرورية وهي بالأولى نجدة أكيدة وسريعة. لأنه لا خلاص له فيطلب من الله أن يكون خلاصه وعونه الأكيد. لنتعلم أنه حينما تحتاطنا المصائب والضيقات أن نسرع لله (راجع ١بطرس ٢: ٢٣) فإنه حينما يكون الناس باطلين وخائنين ولا يمكننا اللجوء والركون إليهم علينا أن نذهب إلى ذاك الذي يستطيع أن يحمينا ويقوينا.


اَلْمَزْمُورُ ٱلتَّاسِعُ وَٱلثَّلاَثُونَ


لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ. لِيَدُوثُونَ. مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ


«١ قُلْتُ أَتَحَفَّظُ لِسَبِيلِي مِنَ ٱلْخَطَإِ بِلِسَانِي. أَحْفَظُ لِفَمِي كِمَامَةً فِيمَا ٱلشِّرِّيرُ مُقَابِلِي. ٢ صَمَتُّ صَمْتاً، سَكَتُّ عَنِ ٱلْخَيْرِ، فَتَحَرَّكَ وَجَعِي. ٣ حَمِيَ قَلْبِي فِي جَوْفِي. عِنْدَ لَهَجِي ٱشْتَعَلَتِ ٱلنَّارُ. تَكَلَّمْتُ بِلِسَانِي. ٤ عَرِّفْنِي يَا رَبُّ نِهَايَتِي وَمِقْدَارَ أَيَّامِي كَمْ هِيَ، فَأَعْلَمَ كَيْفَ أَنَا زَائِلٌ».
هذا المزمور يتفق مع سابقه بأن المرنم يخضع لله ويسلم أمره إليه وهذا هو السبب أن وضع الاثنين متتابعين على هذه الصورة. ومن جهة أخرى فهذا المزمور يشبه المزمور الثاني والستين إذ الاثنان «ليدوثون». والمؤلف باختباره الشخصي يرى أن لا يعتمد على شيء في هذه الدنيا الزائلة الفانية بل ليكن كل الاتكال على الله. «يدوثون» مكتوبة أيضاً في (مزمور ٧٧: ١ و١أخبار ١٦: ٣٨ ونحميا ١١: ١٧). والأرجح هذا الاسم لأحد رؤساء الأجواق الثلاثة في أيام داود وفي مرتبة آساف وهمان. وقوله لإمام المغنين ثم ليدوثون يكون ذلك من قيل البدل أو عطف البيان ليس إلا.
(١) يبدأ المرنم تأكيده لنفسه أنه سيتحمل ما تأتي به المصائب والنكبات بصبر وطول أناة. لا سيما وهو يرى نجاح الأشرار وتقدمهم. وقد حافظ على صمته هذا حتى لم يستطع إلى كتمانه سبيلاً عندئذ تكلم بلسانه كما في العدد الثالث. وعدم تنويهه بالكلام كان لتخوفه من أن يخطئ. ولذلك حاول وضع كمامة وضبط لسانه جيداً.
(٢) ولكن صمته ألمه جداً فقد رأى الضربات تترى عليه ورأى الخيرات تتدفق على عدوه فكانت النتيجة لأنه لم يفرج كربه ولم يبح بما يعانيه إن تحوّل كل ذلك إلى آلام نفسانية مبرحة وضعها بهذا العدد المؤثر. لقد أجبر نفسه على هذا الصمت ولم يفرضه عليه أحد ولذلك فقد احتمله مدة حتى لم يستطع بعد ذلك أي احتمال. لأنه كما في العدد (٣) حمي قلبه وشعر كأن جوفه يشتعل بالنار وهكذا كانت شكوى مكبوتة (راجع إرميا ٢٠: ٩) ولكنها إلى حين. لقد نوى أن يصمت كل الوقت وهنا كانت العاطفة وكذلك كان العقل. فالعقل ينصحه أن يصمت ويسلّم لمشيئة الرب ولكن العاطفة كانت جائشة في صدره تشتعل اشتعالاً وأخيراً لم يقدر أن يضبط نفسه بعد فتكلم. وهكذا اضطر أن يتحول عن قصده وعن نيته وانصرف بكليته للصلاة والتسليم أمام مشيئة الله تعالى.
(٤) التمس أول كل شيء أن يفتح عينيه إلى تلك الحقيقة وهي زوال هذه الدنيا الفانية (قابل هذا مع مزمور ٤٠: ١٢). وهنا يتعزى بأن آلامه هذه كما وأفراح عدوه فهي إلى وقت قصير لا يدوم أبداً. ويلتمس مسبقاً أن يعرف متى يا ترى تنتهي أيامه (قابل أيوب ٦: ١١). و بزوال أيامه تزول آلامه أيضاً وعليه أن لا يعبأ بذلك طالما حقيقة الحال هكذا.
«٥ هُوَذَا جَعَلْتَ أَيَّامِي أَشْبَاراً وَعُمْرِي كَلاَ شَيْءَ قُدَّامَكَ. إِنَّمَا نَفْخَةً كُلُّ إِنْسَانٍ قَدْ جُعِلَ. سِلاَهْ. ٦ إِنَّمَا كَخَيَالٍ يَتَمَشَّى ٱلإِنْسَانُ. إِنَّمَا بَاطِلاً يَضِجُّونَ. يَذْخَرُ ذَخَائِرَ وَلاَ يَدْرِي مَنْ يَضُمُّهَا. ٧ وَٱلآنَ مَاذَا ٱنْتَظَرْتُ يَا رَبُّ؟ رَجَائِي فِيكَ هُوَ. ٨ مِنْ كُلِّ مَعَاصِيَّ نَجِّنِي. لاَ تَجْعَلْنِي عَاراً عِنْدَ ٱلْجَاهِلِ. ٩ صَمَتُّ. لاَ أَفْتَحُ فَمِي لأَنَّكَ أَنْتَ فَعَلْتَ».
(٥) أيامه تقاس بالأشبار مجازاً لكي يدل على قصرها (راجع إشعياء ٥٥: ٢٠) وقد حسب بعض المفسرين أن الشبر هو مقدار حجم اليد أي الأصابع الخمسة فيكون مقدار الذراع نحو سبعة منها. أما إذا حسبنا الشبر هو المسافة بين الخنصر والإبهام واليد مبسوطة فلا يكون الذراع أكثر من ثلاثة أشبار فقط. وعلى كل فالمرنم يصوّر لنا قصر العمر بل وزواله بدون جدوى. وكما تذهب النفخة في الهواء هكذا تذهب نفس الإنسان. وفي هذه الآية لا نرى شيئاً من الإيمان بالخلود أو القيامة بعد الموت.
(٦) هو خيال لا حقيقة فيه (قابل مزمور ٤٥: ١٤ ويعقوب ١: ٢) فطالما نهايته باطلة على هذه الصورة ففي عرف المرنم هو باطل في حقيقته أيضاً. إذاً فالضجيج الذي يسببه في حياته هو بلا جدوى أيضاً فيذهب صوته وكل ما يقوله أخيراً مع أصوات الرياح المالئة جوانب الأرض. ومع ذلك فهذا الإنسان لا يستطيع أن يقنع في شيء أو يكتفي بل يظل على غيّه يكتنز لنفسه كنوزاً ويحسب أنه سينعم بها وفاته أنه هو وما كنزه للزوال (انظر أيوب ٢٧: ١٦ وإشعياء ٣٣: ٤).
(٧) قوله والآن هو للالتفات فقد سئم هذه الحقائق المرة التي ذكرها فآلامه المبرحة وتأكده من قصر الحياة وعدم العدل والإنصاف بينه وبين أعدائه ولكنه الآن يشرق عليه نور أمل جديد. يرى الرب ويتحقق ما ترجاه فيه لأنه لا يخيّب قلوب الملتمسين رحمته ورضاه. وهنا نعجب كيف يمتلئ بالرجاء طالما وجد الحياة قصيرة على هذه الصورة ولا وعد له بالقيامة؟ ولكنه رغماً عن ذلك يرتمي في أحضان الله فهو العليم بكل شيء.
(٨) يطلب بتواضع أن يتطهر من المعاصي وأن لا يكون خزياً وعاراً أمام الآخرين لا سيما الجهال الأردياء الذين وصفهم سابقاً. يطلب من الرب أن لا يعرضه لمثل هذه الإهانة ونستطيع أن نخترق ببصرنا أنه يريد أن يبرر الرب في معاملته له على هذه الصورة فطالما هو بار فالرب يسنده. فإذا لم يسنده الرب يصبح عاراً عند الجميع ولا يمكنهم أن يصدقوا أنه بار.
(٩) يعود للفكرة العظيمة التي رددها من قبل أنه عليه أن يصمت ولا يتكلم قط. لأن الرب فعل فمن يستطيع أن يعترض؟ وإذا اعترض فهل من جدوى؟ لا يزال ماثلاً أمامه تلك الحقيقة المرة وهي أنه في شر وضيق والأثمة في خير وتوفيق. ولكن عليه أن يسلم أمره للرب ويرى أصابعه عاملة وراء ظواهر الوجود كله ولا يستطيع أحد أن يعترض على ترتيباته تعالى.
«١٠ ٱرْفَعْ عَنِّي ضَرْبَكَ. مِنْ مُهَاجَمَةِ يَدِكَ أَنَا قَدْ فَنِيتُ. ١١ بِتَأْدِيبَاتٍ إِنْ أَدَّبْتَ ٱلإِنْسَانَ مِنْ أَجْلِ إِثْمِهِ، أَفْنَيْتَ مِثْلَ ٱلْعُثِّ مُشْتَهَاهُ. إِنَّمَا كُلُّ إِنْسَانٍ نَفْخَةٌ. سِلاَهْ. ١٢ اِسْتَمِعْ صَلاَتِي يَا رَبُّ وَٱصْغَ إِلَى صُرَاخِي. لاَ تَسْكُتْ عَنْ دُمُوعِي. لأَنِّي أَنَا غَرِيبٌ عِنْدَكَ. نَزِيلٌ مِثْلُ جَمِيعِ آبَائِي. ١٣ ٱقْتَصِرْ عَنِّي فَأَتَبَلَّجَ قَبْلَ أَنْ أَذْهَبَ فَلاَ أُوجَدَ».
(١٠) لقد طلب المرنم من قبل أن يجري الحق مجراه ويقضي له بالعدل. يشبه حالته بحالة إنسان واقع تحت الضرب واليد فوقه تنزل عليه بالسياط وقد يكفي بالضرب هنا من غضب الرب كما في (مزمور ٣٨: ١٢). وإذا استمرت هذه الضربات عليه فهو لا شك هالك ولا قوة تنجيه. هنا يسترحم بصورة مؤثرة فإنه ضعيف جداً لا يستطيع أن يقف ضد هذه القوة المنصبة ضده والتي تهاجمه بويلاتها حتى نفد كل ما لديه من نشاط.
(١١) هنا يرى الصواب ويتحقق أن هذا الضرب هو لأجل تأديبه فهو بحاجة إليه كما أن الولد المذنب هو بحاجة أيضاً للتأديب. «مشتهاه» هنا قد تترجم «جماله» أو هيبته. فكما أن الولد يذلّ بعد القصاص كذلك فتأديبات الرب يجب أن تذلل الإنسان وتقلل عنفوانه وترجعه للحق والصواب. ثم يعود للمعنى القديم عن بطلان حياة الإنسان وكم هي ظل زائل لا حقيقة فيها ولا ثبات. وهنا ترديد للمعنى في العدد (٦).
(١٢) يعود المرنم إلى الصلاة والخشوع فهو يسترحم ويبني استرحامه هذا على قصر هذه الحياة الدنيا فهو غريب فيها ونزيل ولا يمكنه أن يقيم طويلاً بل سيرحل كما رحل من قبله الآباء الأولون. وكانت صلاته هذه المرة ممزوجة بالدموع ذلك لأنها أبلغ تعبيراً في كثير من المواقف ولأن الدموع تفرج القلب وتسرّي عن النفس ولا سيما نفس من كان مثله يشعر بالوحشة المريرة حتى مع ابنه العقوق أبشالوم الذي قام عليه وأشعل تلك الثورة الفظيعة. إن الأرض هي ملك الرب (انظر لاويين ٢٥: ٢٣) لذلك فكل إنسان يقطنها هو وكيل عليها إلى حين ولا حق له فيها. وإذا راجعنا تكوين ٤٧: ٩ وقابلناه مع تكوين ٢٣: ٤ نرى أن بني إسرائيل قد أعطوا الأرض هبة فهي ليست ملكهم بل ملك الرب ولذلك كانت سنة اليوبيل لإرجاع حق الميراث بالوكالة إلى الوكلاء الأولين.
(١٣) فإذا كانت الحياة قصيرة وهو يمر على الأرض كزائر نزيل ثم يعبر ولا يعود لذلك يطلب من الرب أن يكف يده عنه (قابل ذلك مع أيوب ١٧: ١٩ و١٤: ٦) وختام هذا المزمور يشبه كثيراً ما ورد في سفر أيوب لأنه يحاول حل المعضلة التي أشغلت بال المؤمنين حينئذ وهي إذا كان الله يحب الذين يطيعونه فكيف يسمح لهم بالآلام والعذاب؟ والمرنم لا يستطيع أن يعزل من فكرة العلاقة بين الخطيئة والعذاب وإن على الخاطئ وحده أن يتعذب فقط. يطلب أن يكف عنه الضربة وهو لا يزال حياً قبل أن يموت ولا يعود يشعر بشيء.


اَلْمَزْمُورُ ٱلأَرْبَعُونَ


لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ. مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ


«١ اِنْتِظَاراً ٱنْتَظَرْتُ ٱلرَّبَّ فَمَالَ إِلَيَّ وَسَمِعَ صُرَاخِي، ٢ وَأَصْعَدَنِي مِنْ جُبِّ ٱلْهَلاَكِ، مِنْ طِينِ ٱلْحَمْأَةِ، وَأَقَامَ عَلَى صَخْرَةٍ رِجْلَيَّ. ثَبَّتَ خُطُوَاتِي، ٣ وَجَعَلَ فِي فَمِي تَرْنِيمَةً جَدِيدَةً تَسْبِيحَةً لإِلٰهِنَا. كَثِيرُونَ يَرَوْنَ وَيَخَافُونَ وَيَتَوَكَّلُونَ عَلَى ٱلرَّبِّ. ٤ طُوبَى لِلرَّجُلِ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلرَّبَّ مُتَّكَلَهُ وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى ٱلْغَطَارِيسِ وَٱلْمُنْحَرِفِينَ إِلَى ٱلْكَذِبِ».
(١) يبدأ المرنم هذا المزمور بالحمد لأجل خلاصه فقد انتظر طويلاً وصلى كثيراً ولكن لم يذهب انتظاره عبثاً فقد مال الله إلى الصراخ وسمع الدعاء. وفي حالة كهذه يجدر الحمد قبل كل شيء لأن بالحمد إظهار الشكر وبالشكر سبيل الخلاص. لقد نجى الله المرنم من خطر جديد ولذلك عليه أن يشكر من جديد أيضاً. وفي العدد ١ قوله انتظاراً انتظرت لأجل التوكيد أي قد انتظرت كثيراً وطويلاً ولكنه أخيراً لم يمل عني بل نحوي ولم يظهر عدم الاكتراث بل انتبه لي وسمع صراخي.
(٢) لا يذكر المرنم في هذا العدد أي المصائب قد أصابته هذه المرة فلا يذكر المرض ولا العداوة وقد يكون أن حالة اضطراب داخلي كانت تسود قلبه فشعر بالمخاوف وحسب نفسه في جبّ عميق بسببها. ويذكر لنا أن هذا الجب امتلأ بالطين في قعره ولكن الله قد نشله من ذلك وأقامه من مكانه الوسخ المائع إلى صخرة ثابتة نظيفة يستطيع أن يقف عليها غير خائف. وأخذ يمشي في طريقه ثابت الخطى.
(٣) إن الله لم يكتف فقط أن ينجيه وينشله مما هو فيه بل حوّل تعبه هذا إلى وسيلة السرور والفرح فطفق يترنم ويسبّح للرب. هكذا فعل بولس وسيلا في سجن فيلبي وهكذا يفعل المؤمنون الحقيقيون فإنهم يترنمون ذاكرين مراحم الله حتى في أشد الساعات وأضيقها. وبقية الناس يرون هذا الأمر فيندهشون من إيمان وطيد كهذا. يتعلمون من المؤمنين أن يخافوا الله. لذلك علينا أن نكون سبب قدوة للغير فلا نستسلم للأحزان كما يفعل أولئك إنما نحوّل حزننا إلى وسيلة للغلبة على الشر وللاتكال على الرب.
(٤)إن هذا الإنسان المتكل على الرب هو على حق من أمره (راجع أيوب ٣١: ٢٤ وإرميا ١٧: ٧). و «الرجل» هنا ليس الإنسان العادي بل الكلمة العبرانية تفيد «الجبار» أي ذاك الرجل القوي في إيمانه واتكاله على إلهه. هو جبار ليس باعتداده بنفسه واتكاله عليها ولا بأن يسلك في سبل الكاذبين المنافقين بل بأن يتبع كلام الله ويمشي بالحق ويتكلم الصدق. هذا له الطوبى لا الذي اعتاد أن يمجده الناس ويطوّبوه.
«٥ كَثِيراً مَا جَعَلْتَ أَنْتَ أَيُّهَا ٱلرَّبُّ إِلٰهِي عَجَائِبَكَ وَأَفْكَارَكَ مِنْ جِهَتِنَا. لاَ تُقَوَّمُ لَدَيْكَ. لأُخْبِرَنَّ وَأَتَكَلَّمَنَّ بِهَا. زَادَتْ عَنْ أَنْ تُعَدَّ. ٦ بِذَبِيحَةٍ وَتَقْدِمَةٍ لَمْ تُسَرَّ. أُذُنَيَّ فَتَحْتَ. مُحْرَقَةً وَذَبِيحَةَ خَطِيَّةٍ لَمْ تَطْلُبْ. ٧ حِينَئِذٍ قُلْتُ: هَئَنَذَا جِئْتُ. بِدَرْجِ ٱلْكِتَابِ مَكْتُوبٌ عَنِّي ٨ أَنْ أَفْعَلَ مَشِيئَتَكَ يَا إِلٰهِي سُرِرْتُ. وَشَرِيعَتُكَ فِي وَسَطِ أَحْشَائِي».
(٥) هنا يرجع المرنم إلى أمور قديمة فيقرن حوادث يومه بالتاريخ المقدس ويرى أن أعمال الرب وعجائبه لا مثيل لها ولا يوجد ما يقابلها. فهي ممتازة من جهتين: أولاً إنها عديدة لا تحصى وثانياً إنها لا تقوّم أي لا يمكن أن يعطى لها قيمة مهما تكارمنا في العطاء والحمد والشكران (راجع أيوب ١٩: ١٨ و١٦: ٦ و٣٠: ٢٦ ومزمور ١٣٩: ٨).
(٦) يتعمق المرنم في فهم المعاني الروحية ويرى أن الأهمية ليست للذبيحة ولا للتقدمة بل أن نفتح آذاننا لقبول كلامه ونصغي إليه بانتباه. وهكذا يفسر معنى تخشعه أمام الله تعالى فهو لا يطلب منها ميل هذه العبادة الخارجية فيقسم العبادة إلى قسمين أولاً الأمور المادية فيها أي الذبيحة والتقدمة. ولكنه ثانياً يلتفت في العدد الثامن إلى القصد والنية ويرى مسرة الرب في عمل مشيئته وإن إتمام الشريعة هو في وضعها في أعماق القلب والسير بموجبها يوماً بعد يوم (انظر عاموس ٥: ٢١).
(٧) يقول «هأنذا جئت» يضع العبد نفسه تحت تصرف سيده (راجع سفر العدد ٢٢: ٣٨ و٢صموئيل ١٩: ٢١) أما درج الكتاب فيقصد كتاب الشريعة الذي يطوي وينشر حسب حاجة القراءة. وإنه مكتوب عنه أي ما يخص كل مؤمن لكي يتعلم منه ويستفيد لذلك فليس أننا متروكون لأنفسنا بل هنالك شريعة الله التي وضعت لهدايتنا وإرشادنا (راجع تثنية ٦: ٦ وقابل ذلك مع أمثال ٣: ٣ و٧: ٣) وهذه الفكرة يأخذها إرميا ويقول (إرميا ٣١: ٣٣) إنها العهد الجديد والشريعة الجديدة في القلب والحياة الداخلية.
(٨) ليكن مطلبنا مسرة الرب وعلينا أن نعرف مشيئته ونعملها. وحينما تكون شريعته في وسط أحشائنا تكون قريبة إلينا جداً فلا نبعد عنها أبداً ولا نهملها مهما تقلبت الظروف. وهنا يختم المرنم جوابه عن السؤال في العدد الخامس كيف أنه يعرف عجائب الرب ولا يستطيع عدها أو إحصاءها بل هي محفوظة في الإنسان الداخلي والتعبير عن عبادتنا هو ليس فقط بتقديم الذبائح وإقامة الطقوس.
«٩ بَشَّرْتُ بِبِرٍّ فِي جَمَاعَةٍ عَظِيمَةٍ. هُوَذَا شَفَتَايَ لَمْ أَمْنَعْهُمَا. أَنْتَ يَا رَبُّ عَلِمْتَ. ١٠ لَمْ أَكْتُمْ عَدْلَكَ فِي وَسَطِ قَلْبِي. تَكَلَّمْتُ بِأَمَانَتِكَ وَخَلاَصِكَ. لَمْ أُخْفِ رَحْمَتَكَ وَحَقَّكَ عَنِ ٱلْجَمَاعَةِ ٱلْعَظِيمَةِ. ١١ أَمَّا أَنْتَ يَا رَبُّ فَلاَ تَمْنَعْ رَأْفَتَكَ عَنِّي. تَنْصُرُنِي رَحْمَتُكَ وَحَقُّكَ دَائِماً. ١٢ لأَنَّ شُرُوراً لاَ تُحْصَى قَدِ ٱكْتَنَفَتْنِي. حَاقَتْ بِي آثَامِي وَلاَ أَسْتَطِيعُ أَنْ أُبْصِرَ. كَثُرَتْ أَكْثَرَ مِنْ شَعْرِ رَأْسِي وَقَلْبِي قَدْ تَرَكَنِي».
(٩) ولا يكتفي أن تكون الشريعة في الداخل محصورة فيه فقط بل هو يريد أن ينشرها على الناس ويبشر بها لأنها أخبار مفرحة والجميع يودون سماعها. لذلك بما لديه من موهبة الكلام وحسن الادعاء قد نشر الخبر وعممه إلى كل مكان ويستنجد أخيراً بأن الله عليم بكل شيء ولا يلزمه أن يردد ما فعله لأن الله يعلم حتى خفيات القلوب (انظر إرميا ١٥: ١٥) فهو لم يخف من الناس ولم يخجل منهم ولا سيما كما في العدد (١٠) إنه كان باستطاعته أن يكتم التعليم في قلبه وهكذا يهتم بخلاص نفسه فقط. ولكنه رأى الواجب يدعوه لكي يذيع أمانة الرب وخلاصه وإن عليه أيضاً أن يعرّف الجميع رحمته وحقه. إن الرحمة تبدأ بالخلاص حتى تنتهي بالحق حينئذ يصبح كاملاً لأن عدل الله وحقه يجب أن يتمما أيضاً.
(١١) إن الإنسان معرض في حياته على الأرض لكل المخاطر وهكذا لا يعيش بأمنٍ وسلام بدون رحمة الله ورأفته. يطلب النصرة الدائمة بواسطة رحمة الله وحقه كما أنه يفاخر في العدد السابق بأن يذيع هاتين السجيتين في الجماعة العظيمة. إذاً فمجاهرته أمام الناس بهما من قبل لا يمكن أن يتم نفعه ويحسن تأثيره بدون رأفة الله (انظر رومية ٨: ٣٢).
(١٢) يذكر إن مصائب عديدة قد انتابته وأحاطت به وإن آثامه قد أعمت بصره فلا يستطيع أن يرى وقد زادت بلاياه زيادة كبرى حتى أنها فاقت العدد. لا ندري ما هي الأخطاء التي يشير إليها ولا يذكرها صراحة (انظر تثنية ٢٨: ١٥ و٤٥) هو لا يستطيع أن يرى لأنه محصور من كل جانب ولذلك فلا تمتد عينه لسوى مسافة قصيرة وإذا بالطرف كليل معي (انظر ١صموئيل ٣: ٢ و٤: ١٥ و١ملوك ١٤: ٤) وقلبه قد تركه بمعنى أنه قد فقد شجاعته ولم يعد باستطاعته أن يحتمل بعد. لذلك فهو في يأس لا يرى مخرجاً من الورطة التي وقع فيها بغير عونٍ من السماء.
«١٣ اِرْتَضِ يَا رَبُّ بِأَنْ تُنَجِّيَنِي. يَا رَبُّ إِلَى مَعُونَتِي أَسْرِعْ. ١٤ لِيَخْزَ وَلْيَخْجَلْ مَعاً ٱلَّذِينَ يَطْلُبُونَ نَفْسِي لإِهْلاَكِهَا. لِيَرْتَدَّ إِلَى ٱلْوَرَاءِ وَلْيَخْزَ ٱلْمَسْرُورُونَ بِأَذِيَّتِي. ١٥ لِيَسْتَوْحِشْ مِنْ أَجْلِ خِزْيِهِمِ ٱلْقَائِلُونَ لِي: هَهْ هَهْ! ١٦ لِيَبْتَهِجْ وَيَفْرَحْ بِكَ جَمِيعُ طَالِبِيكَ. لِيَقُلْ أَبَداً مُحِبُّو خَلاَصِكَ: يَتَعَظَّمُ ٱلرَّبُّ. ١٧ أَمَّا أَنَا فَمِسْكِينٌ وَبَائِسٌ. ٱلرَّبُّ يَهْتَمُّ بِي. عَوْنِي وَمُنْقِذِي أَنْتَ. يَا إِلٰهِي لاَ تُبْطِئْ».
(١٣) في وسط هذه الآلام النفسية المبرحة التي ما دامت تهاجمه فهو بلا شك يعرف نفسه أنه خاطئ ويطلب الرحمة والرضا. يطلب نجاة من الورطة التي وقع فيها ويطلب عوناً سريعاً قبل فوات الأوان. هنا عمل الإيمان في النفس البشرية فإنه حينما تنتهي مساعينا ولا نرى مجالاً لخلاصنا نهرع لله وهو مستعد أن يساعدنا ولا يتخلى عنا أبداً.
(١٤) كما أنه يطلب لنفسه خلاصاً كذلك فهو يطلب الخزي والخجل للذين يحاولون هلاكه. هم يهاجمونه ولكن الله يردهم. يريدون السير للأمام ولكن الرب يرجعهم للوراء. إنهم قوم حسودون وبأفكار عالمية شريرة إذ هم يفرحون بما أصابه من ويل وأذى. يطلب إليهم أن يصيبهم الرعب الذي يشل حركتهم ويمنعهم عن اللحاق به ومطاردته. وهكذا يظل سائراً في طريقه لا يعبأ بهم ولا يبالي.
(١٥) هم يهزأون به ويقولون له كلام التحقير والإهانة ولكنهم هم الذين يستوحشون ويزداد خزيهم ويهرب عنهم الصديق والرفيق. ذلك لأنهم سينالون الجزاء العادل.
(١٦) قابل هذا العدد بما ورد في (مزمور ٣٥: ٢٧). يتمنى لجميع المؤمنين أن يفرحوا ويهتفوا بتعظيم اسم الرب وتمجيده لأنه مستحق لذلك. أولئك الهازئون قد نالوا الخزي والعار وأما المؤمنون فلهم المجد بإلههم الممجد ذلك لأن خلاصه موجود وسيتممه في حينه (٢تيموثاوس ٤: ٨). هو يعطي المجد كله لله أما للمؤمن فكما في (العدد ١٧) فهو مسكين وبائس هو ضعيف ولكنه يتكل على الكلي القدرة. هو ليس متروكاً طالما الله ذاته يهتم به ويرعاه. إذا كان أولئك الهازئون يستطيعون النيل من كرامته والاستهانة به فإنما ذلك لوقت قصير ينقضي ولا يبقى منه سوى التذكار. بالله العون وهو المنقذ وعمله سريع أسرع جداً مما نظن. وهكذا نرى أن هذا المزمور يبدأ بالحمد والشكران وينتهي بالدعاء والصلاة وهو انتقال لطيف لأن الصلاة الحقيقية هي تلك التي تصور حاجات الإنسان وكيف يسدها الله له في حينها.


اَلْمَزْمُورُ ٱلْحَادِي وَٱلأَرْبَعُونَ


لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ. مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ


«١ طُوبَى لِلَّذِي يَنْظُرُ إِلَى ٱلْمِسْكِينِ. فِي يَوْمِ ٱلشَّرِّ يُنَجِّيهِ ٱلرَّبُّ. ٢ ٱلرَّبُّ يَحْفَظُهُ وَيُحْيِيهِ. يَغْتَبِطُ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ يُسَلِّمُهُ إِلَى مَرَامِ أَعْدَائِهِ. ٣ ٱلرَّبُّ يَعْضُدُهُ وَهُوَ عَلَى فِرَاشِ ٱلضَّعْفِ. مَهَّدْتَ مَضْجَعَهُ كُلَّهُ فِي مَرَضِهِ. ٤ أَنَا قُلْتُ: يَا رَبُّ ٱرْحَمْنِي. ٱشْفِ نَفْسِي لأَنِّي قَدْ أَخْطَأْتُ إِلَيْكَ».
(١) هذا هو المزمور الأخير من سلسلة المزامير التي تحمل اسم ناظمها داود وهو يحمل الطوبى كما في المزمور الأول. يطوب الإنسان ذا الشعور الحنون والقلب العطوف نحو المسكين. والمسكين هو أي ضعيف إن كان في الجسم أو مصاباً بأي ويلٍ أو أحزان. فهذا الإنسان العطوف سيعطف عليه الرب وينجيه مما قد يقع فيه لأن إحسانه لا يذهب سدى.
(٢) قوله يحفظه أي يقيه من الخراب والدمار ويسنده في الضعف وأيام العوز. وحينما يكون في ضيق يعطيه حياة. ثم إن هذه الحياة مملوءة بالغبطة والتوفيق وينصره على أعدائه فلا ينال هؤلاء مآربهم منه. نلاحظ أن البركة التي تصيبه هي على الأرض ولا ذكر للحياة الثانية بعد الموت. إن الله بواسطة إحسانه يتغلب على شرور الناس وعداوتهم لذلك فهو لا يسمح لأن يصيبهم أي سوء إلا ويجد لهم مخرجاً حميداً.
(٣) ويظهر عطف الله بالدرجة الأولى على المريض وهو على فراش الضعف والسقام ذلك لأنه يكون بأمس الحاجة للمساعدة. ولذلك فإن الله يجعل فراشه وثيراً مريحاً فلا يكون مرضهم للموت ولا يبقون في حالتهم بلا أمل أو رجاء. عليهم أن يحتملوا حالتهم بصبر وحسن تسليم ومتى كانت النفس مطمئنة فحينئذ ضعف الجسم يتحول إلى قوة.
(٤) في ضعفه الشديد هذا لم ينس إلهه بل يطلب رحمته ورضاه. يطلب أن يشفى مما هو فيه ويظهر أن ضعفه كان على وجهين:
الأول: الضعف الجسدي فالأرجح أنه كان مريضاً ضعيفاً.
الثاني: إنه كان يشعر بالخطيئة والإثم.
إن الله رحيم لا يتخلى عنا بل رأفته دائماً هي التي تشفينا وتحفظنا على الدوام. هو يطلب الرحمة كذلك العشار (انظر لوقا ١٨: ١٣) ولا يظن في قوله «أنا أخطأت إليك» ان المرنم يشير إلى أية خطيئة خاصة أو إثم اقترفه ولكن المعنى على الأرجح أنه يعبر عن شعوره بالخطأ وعدم الاستحقاق ولكنه يرجو رحمة الله وإحسانه فقط.
«٥ أَعْدَائِي يَتَقَاوَلُونَ عَلَيَّ بِشَرٍّ: مَتَى يَمُوتُ وَيَبِيدُ ٱسْمُهُ؟ ٦ وَإِنْ دَخَلَ لِيَرَانِي يَتَكَلَّمُ بِٱلْكَذِبِ. قَلْبُهُ يَجْمَعُ لِنَفْسِهِ إِثْماً. يَخْرُجُ فِي ٱلْخَارِجِ يَتَكَلَّمُ. ٧ كُلُّ مُبْغِضِيَّ يَتَنَاجَوْنَ مَعاً عَلَيَّ. عَلَيَّ تَفَكَّرُوا بِأَذِيَّتِي. ٨ يَقُولُونَ: أَمْرٌ رَدِيءٌ قَدِ ٱنْسَكَبَ عَلَيْهِ. حَيْثُ ٱضْطَجَعَ لاَ يَعُودُ يَقُومُ».
(٥) إن هؤلاء الأعداء شامتون بحالته يفرحون بمرضه وضيقته وعندئذ ينصبون له الأحابيل ويكيدون. وجل ما يتمنونه ليس فقط أن يدوم ضيقه ومرضه بل أن يهلك تماماً ويبيد إثمه. لا ندري إن كانوا من طراز أولئك الأعداء الذين قد يسممون له ويوقعون فيه الأذية والضرر عملياً ولكنهم إن استطاعوا لذلك سبيلاً لا يتأخرون إذ ينوون الشر ومتى نوى الإنسان الشر فلن يعدم وسيلة حتى يتممه. ويتقاولون عليه أي إنهم حاولوا النيل من صيته والحط من كرامته حتى إذا مات يكون موته في ذلٍّ وهوان.
(٦) وهنا يصف هذا العدو عائداً مريضه يظهر له تأسفه لحالته ولكنه كاذب في ما يذهب إليه وزيارة المريض كانت معروفة من قديم الزمان (انظر ٢صموئيل ١٣: ٥ وما بعده وأيضاً ٢ملوك ٨: ٢٩). هو يكلمه بلسانه بالطبع شيئاً لا يعنيه بقلبه لذلك يجمع بقلبه إثماً فوق إثم ومتى انتهت الزيارة ويخرج إذا به يتكلم بالقفا كلاماً جارحاً مملوءا بالعداوة والبغضاء.
(٧) يتابع في هذا العدد أيضاً وصف هؤلاء الأعداء إذا بهم يهمسون واحدهم للآخر بأمور لا يتكلمون عنها بصوت عال (انظر ٢صموئيل ١٢: ١٩) هم يحملون خبر السوء عنه ويتمنون له الأذية والموت أيضاً لا الشفاء ويا لهم من عُوّاد أردياء. أما تناجيهم وهمسهم هكذا فإنه لتهيبهم وتخوفهم أن يصيبهم أي سوء بسبب البوح أمام الناس عما يكنونه من ضرر.
(٨) وفي هذا العدد يكرر سوء نواياهم وما يتمنونه له من عدم شفاء ويريدونه أن يقولوا لأنفسهم إنه قد اضطجع في حالته ولن يقوم منها. وقد ينسبون له في مرضه أن الله قد أرسل له القصاص العادل وهكذا يقرنون حالته الجسدية السيئة بخطاياه التي يتهامسون عليه بها. وهذا السوء الذي أصابه لن يتغلب عليه أيضاً (انظر أيوب ٤١: ١٥ وما يليه).
«٩ أَيْضاً رَجُلُ سَلاَمَتِي، ٱلَّذِي وَثَقْتُ بِهِ، آكِلُ خُبْزِي، رَفَعَ عَلَيَّ عَقِبَهُ! ١٠ أَمَّا أَنْتَ يَا رَبُّ فَٱرْحَمْنِي وَأَقِمْنِي فَأُجَازِيَهُمْ. ١١ بِهٰذَا عَلِمْتُ أَنَّكَ سُرِرْتَ بِي أَنَّهُ لَمْ يَهْتِفْ عَلَيَّ عَدُوِّي. ١٢ أَمَّا أَنَا فَبِكَمَالِي دَعَمْتَنِي وَأَقَمْتَنِي قُدَّامَكَ إِلَى ٱلأَبَدِ. ١٣ مُبَارَكٌ ٱلرَّبُّ إِلٰهُ إِسْرَائِيلَ مِنَ ٱلأَزَلِ وَإِلَى ٱلأَبَدِ. آمِينَ فَآمِينَ».
(٩) والشيء الذي يحزنه أكثر الكل هو أن هؤلاء الأعداء كانوا بالأمس أصدقاءه يدعون طلب سلامته ويعملون عكس ذلك. هم من الذين أكلوا خبزه فأصبح بينه وبين بنيه عهد الخبز والملح. هذا نفسه الذي تجاسر أن يرفع رجله في وجهه. لقد أدار له عقبه إشارة الاحتقار والنكث بالعهد كأنه لم يعرفه من قبل ولم يكن له أية علاقة به. كأنه قد ركله ورفس نعمته ولم يذكر شيئاً من الإحسان (انظر إرميا ٢٠: ١٠).
(١٠) وهنا في حالته الصعبة هذه يلتفت للرب ويطلب الرحمة بعد لا سيما وهو في حالته المرة هذه مريض الجسد كسير القلب والروح يشعر بالوحشة والهموم كما يشعر بآلام المرض التي تقض مضجعه وتحرمه النوم. فقد اعتمد على أصحاب كاذبين أخلص لهم وصادقهم ولكنهم خانوه (انظر إرميا ٣٨: ٢٢). وفي يأسه الشديد من الناس يلتفت إلى الله وهنا يطمئن ويشعر بالسلام ذلك لأن الله وحده هو الذي ينهضه ويقيمه. ولكنه لا ينسى إساءة أولئك الأعداء فيطلب مجازاتهم على نسبة ما فعلوه نحوه.
(١١) لقد خاب فأل العدو ولم ينل منه مبتغاه إذ كان ينوي أن يكمل شماتته به ويفرح بأذيته العظمى. ولكن الله لم يسمح بذلك وهكذا يستنتج المرنم أن الرب قد سرّ به. وما أجمل قوله بهذا علمت إذ قد شاهد برهاناً يثبت له صحة ما ذهب إليه (انظر تكوين ٤٢: ٣٣ وقابله مع تكوين ١٥: ٨ وخروج ٧: ١٧ وعدد ١٦: ٢٨ ويشوع ٣: ١٠).
(١٢) هنا ادعاء المرنم ببيان ما هو عليه من فضيلة وكمال ولا نستطيع ملامته على ما ذهب إليه لا سيما بعد ما قاسى منهم ما قاساه من خيانة واغتياب وانقلاب صديق وآلام جسدية من مرضه وآلام روحية من يأسه منهم وقنوطه من سوء أخلاقهم وأفعالهم. إن تعزيته العظمى أن يجد الله يقيمه وأن يتأكد أنه لن يبقى مدوساً تحت أقدامهم بل سيعود إلى مكانته وإلى سالف مجده وهكذا يفشل كل محاولة الأعداء.
(١٣) في هذه التسبيحة الختامية لهذا المزمور تناسٍ مقصود لما ألمّ به فهو يترك كل شيء بيد الله. وهذا العدو الأخير يقابله (مزمور ١٨: ٤٧) وقوله من الأزل إلى الأبد يريد أن يضم الزمان كله في علم الله وكأنه هو الأوقيانوس العظيم إليه تنحدر قطرة حياته وحياة أولئك الأعداء جميعاً. ويختم بدعائه أمين متكررة لكي يستجيب له الله ويثبت عدله عليه.


اَلْمَزْمُورُ ٱلثَّانِي وَٱلأَرْبَعُونَ


لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ. قَصِيدَةٌ لِبَنِي قُورَحَ


«١ كَمَا يَشْتَاقُ ٱلإِيَّلُ إِلَى جَدَاوِلِ ٱلْمِيَاهِ هٰكَذَا تَشْتَاقُ نَفْسِي إِلَيْكَ يَا ٱللّٰهُ. ٢ عَطِشَتْ نَفْسِي إِلَى ٱللّٰهِ إِلَى ٱلإِلٰهِ ٱلْحَيِّ. مَتَى أَجِيءُ وَأَتَرَاءَى قُدَّامَ ٱللّٰهِ! ٣ صَارَتْ لِي دُمُوعِي خُبْزاً نَهَاراً وَلَيْلاً إِذْ قِيلَ لِي كُلَّ يَوْمٍ أَيْنَ إِلٰهُكَ ٤ هٰذِهِ أَذْكُرُهَا فَأَسْكُبُ نَفْسِي عَلَيَّ. لأَنِّي كُنْتُ أَمُرُّ مَعَ ٱلْجُمَّاعِ، أَتَدَرَّجُ مَعَهُمْ إِلَى بَيْتِ ٱللّٰهِ بِصَوْتِ تَرَنُّمٍ وَحَمْدٍ، جُمْهُورٌ مُعَيِّدٌ».
نأتي الآن بهذا المزمور للقسم الثاني من سفر المزامير. وهذا القسم يستعمل كلمة الله أكثر من غيره. ففي القسم الأول الذي مر معنا يستعمل كلمة الله خمس عشرة مرة بينما يستعمل «الرب» ٢٧٢ مرة وأما في هذا القسم الذي ينتهي بالمزمور الثاني والسبعين فيستعمل كلمة الله ١٦٤ وأما كلمة الرب فثلاثين مرة. وعلى سبعة مزامير موضوع عنوانها لبني قورح. ولا عنوان فيها لداود. ثم لا يضع اسم المؤلف بل عائلته فقط. وقد يكون أن عائلة قورح كان لها مجموعة من الترانيم ضمت للسفر كله ولكنها احتفظت بالعنوان لكي تتميز عن بقية المزامير. والأرجح أن قورح هذا هو المذكور (في سفر العدد ١٥). وقد عيّن لفرعين من هذه العائلة ليكونوا حراس بوابة الهيكل (راجع ١أخبار ٢٦: ١ - ٩).
وأما عدد بني قورح فكان أربعة عشر يضاف إليهم أربعة من بني آساف وستة من بني أثان فيتم العدد أربعة وعشرون أمام مغنين يرأسون أربعاً وعشرين فرقة موسيقية يتناوبون الخدمة في الهيكل.
(١) كلمة اشتاق هنا تأتي من «عرّج» العربية أي إن الإيل يعرّج على جداول المياه حينما يعطش كذلك فنفسه عطشى تطلب الله وتشتاق إليه.
(٢) شوقه لله الحي (انظر مزمور ٨٤: ٣) لأنه نبع الحياة وكذلك الإيل العطشان يذهب ما أمكنه إلى نبع المياه وكما في (مزمور ٣٦: ١٠) فإن من عند الله تجري ينابيع النعمة التي لا تنضب ولا تنقطع. ويتراءى قدام الله في هيكله في أورشليم إذاً فهو بعيد عنها يحن لأقدس مكان فيها. والإنسان لا يستطيع أن يرى الله ويعيش (خروج ٣٣: ٢٠) لذلك يتراءى أمامه.
(٣) بهذا العدد يشرح لماذا شوقه فهو لا يغتذي بالطعام العادي ولا يرتوي بالشراب العادي بل يريد إلهه لا سيما لكي يدحض ادعاءات مبغضيه الهازئين به الذين يسألونه محتقرين أين إلهك هذا لكي ينجيك؟ (انظر مزمور ٦٩: ١٠ و١١٥: ٢ و٧١: ١١ وأيضاً يوئيل ٢: ١٧ وميخا ٧: ١٠).
وفي حالته الحاضرة هذه وقد أصبح موضوع هزء وسخرية من الناس حواليه لأنه اعتمد على إلهه الذي ظهر كأنه بعيد عنه وقد تركه ولكنه في العدد (٤) يلتفت إلى الماضي ويستنجد به لأنه يراه لامعاً مجيداً لا سيما حين كان في أورشليم يحتفل فيها بالأعياد مع جمهور المحتفلين ويحجّ إليها كمؤمن مخلص عميق التدين والورع إذا به يشعر كإنما نفسه تذوب في داخله وتنسكب من جراء هذه التذكارات التي تملأ القلب روعة وجلالاً.
لقد كان من عادته أن يقدم فروض العبادة في أوقاتها وحسب أصولها والآن فهو بعيد مشتاق يحن عطشاناً كالإيل للماء. وأما «الجمّاع» فهو الجمهور الخليط لا فرق بين جنس أو سن أو لون. هم يتقدمون للعيد لكي يشتركوا في الاحتفالات المقدسة وهو يتدرج معهم أي ببطء وخشوع ووقار لأن وجهتهم هي بيت الله ذاته ولا شيء يمازج خشوعهم سوى أصوات الحمد والترنيم ترتفع بالفرح والابتهاج. هذا ما يتذكره من الماضي وأما الآن فقد مضى.
«٥ لِمَاذَا أَنْتِ مُنْحَنِيَةٌ يَا نَفْسِي، وَلِمَاذَا تَئِنِّينَ فِيَّ؟ ٱرْتَجِي ٱللّٰهَ لأَنِّي بَعْدُ أَحْمَدُهُ لأَجْلِ خَلاَصِ وَجْهِهِ. ٦ يَا إِلٰهِي، نَفْسِي مُنْحَنِيَةٌ فِيَّ، لِذٰلِكَ أَذْكُرُكَ مِنْ أَرْضِ ٱلأُرْدُنِّ وَجِبَالِ حَرْمُونَ، مِنْ جَبَلِ مِصْعَرَ. ٧ غَمْرٌ يُنَادِي غَمْراً عِنْدَ صَوْتِ مَيَازِيبِكَ. كُلُّ تَيَّارَاتِكَ وَلُجَجِكَ طَمَتْ عَلَيَّ».
(٥) ويلتفت بهذا إلى الحاضر وينكمش على نفسه يسائلها لماذا مهمومة منحنية دليل العجز وكبر السن ولماذا هذا الأنين وكإنما يلوم نفسه على ما فرط منه من ضعف فيقول ارتجي الله فهو وحده يستطيع أن يخلص إلى التمام. مع أنه «الجسد ضعيف والروح قوي» (انظر متّى ٢٦: ٣٨) والانحناء هنا دليل الحزن والكآبة ما يفعل الذين يفقدون عزيزاً فلا يستطيعون أن يرفعوا الرأس عالياً. إن الله يوليه رحمته ويدير وجهه بالخلاص لأنه يريد رفعه وإجلاسه بقوة واستقامة.
(٦) يعود فيكرر شكواه وإن نفسه لا تزال منحنية فاقد العزيمة والشجاعة. وهو مع ذلك يذكر الله ويرجو رحمته أينما كان أفي فلسطين أم على طرفها الشمالي حيثما جبل الشيخ (حرمون) أم جبل مصعر وعلى الأرجح في الطرف الجنوبي لأن مصعر ليس معروف الموقع بالتأكيد.
(٧) يصور لنا هنا تلك المياه المتدفقة من ينابيع الأردن قرب بانياس على الأرجح ويقول إن هذا الغمر من المياه المضطربة المتدفقة تشبه غمر نفسه الحزينة التي يحسبها غرقى في لجج الغموم والهرم. هو لا شك على اضطلاع شخصي على تدفق تلك المياه فيصفها وصفاً بارعاً ويشبهها بنفسه التي لا تعرف الراحة ولا السكون. وكأنه يتخذ المياه مرآة صقيلة يرى فيها نفسه وما تتحمله من آلام وأحزان (قابل هذا بما ورد في يونان ٢: ٤).
«٨ بِٱلنَّهَارِ يُوصِي ٱلرَّبُّ رَحْمَتَهُ، وَبِاللَّيْلِ تَسْبِيحُهُ عِنْدِي صَلاَةٌ لإِلٰهِ حَيَاتِي. ٩ أَقُولُ لِلّٰهِ صَخْرَتِي: لِمَاذَا نَسِيتَنِي؟ لِمَاذَا أَذْهَبُ حَزِيناً مِنْ مُضَايَقَةِ ٱلْعَدُوِّ؟ ١٠ بِسَحْقٍ فِي عِظَامِي عَيَّرَنِي مُضَايِقِيَّ، بِقَوْلِهِمْ لِي كُلَّ يَوْمٍ: أَيْنَ إِلٰهُكَ؟ ١١ لِمَاذَا أَنْتِ مُنْحَنِيَةٌ يَا نَفْسِي، وَلِمَاذَا تَئِنِّينَ فِيَّ؟ تَرَجَّيِ ٱللّٰهَ لأَنِّي بَعْدُ أَحْمَدُهُ، خَلاَصَ وَجْهِي وَإِلٰهِي».
(٨) ولكنه يلتفت إلى نفسه مرة أخرى لكي تتشجع بالرجاء بعد فإنه لا شك سيأتي النهار بعد الليل. فإذا انشغل بالليل بتقديم التسبيح والصلاة فإن ذلك سيجعله ينتظر نهاراً يشرق عليه شمسه بالرحمة والرضوان (انظر مزمور ٤٤: ٥ وعاموس ٩: ٣ وما يليه). وكذلك فإنه حينما يأتيه نهار بهيج بالرجاء السعيد فهو يصرف نهاره بالشكر والحمد على هذه النعمة العظيمة التي حصل عليها عندئذ.
(٩) يعود في هذا العدد إلى لهجة اليأس فيشعر بالوحشة والانفراد ويرى أن الله قد نسيه وابتعد عنه بينما هو صخرته التي يتكل عليها دائماً. بل لماذا يجد أعداءه قد سطوا وتغلبوا عليه حتى ضايقوه في معاملتهم وأتعبوه في أقوالهم ومقارعتهم. وهوذا الحزن يساوره لأنه يرى أنه قد غلب على أمره ولا يستطيع أن يفعل شيئاً.
(١٠) لا ندري إذا كان قد أصيب بكسر إحدى عظامه حقيقة أم هو يعني تصوير ذله فليس فقط ظاهره في حالة الخضوع والانحناء بل هوذا داخله أيضاً يضطرب ويئن. ويعود لسؤال معيره «أين إلهك؟» هو يعلم أن إلهه ينجيه ولكن الذي يؤلمه هو أن أعداءه لا يعلمون ذلك بل يتمادون في غيهم وقحتهم اليومية.
(١١) وأخيراً يختم بإعادة المعنى السابق وإنه عليه أن ينهض بعد ولا يستسلم لليأس قط لأنه لا يفيده شيئاً. ولذلك هنا يكرر ما ورد في العدد الخامس.


اَلْمَزْمُورُ ٱلثَّالِثُ وَٱلأَرْبَعُونَ


«١ اِقْضِ لِي يَا اَللّٰهُ وَخَاصِمْ مُخَاصَمَتِي مَعَ أُمَّةٍ غَيْرِ رَاحِمَةٍ، وَمِنْ إِنْسَانِ غِشٍّ وَظُلْمٍ نَجِّنِي. ٢ لأَنَّكَ أَنْتَ إِلٰهُ حِصْنِي. لِمَاذَا رَفَضْتَنِي؟ لِمَاذَا أَتَمَشَّى حَزِيناً مِنْ مُضَايَقَةِ ٱلْعَدُوِّ؟ ٣ أَرْسِلْ نُورَكَ وَحَقَّكَ هُمَا يَهْدِيَانِنِي وَيَأْتِيَانِ بِي إِلَى جَبَلِ قُدْسِكَ وَإِلَى مَسَاكِنِكَ. ٤ فَآتِي إِلَى مَذْبَحِ ٱللّٰهِ، إِلَى ٱللّٰهِ بَهْجَةِ فَرَحِي، وَأَحْمَدُكَ بِٱلْعُودِ يَا اَللّٰهُ إِلٰهِي. ٥ لِمَاذَا أَنْتِ مُنْحَنِيَةٌ يَا نَفْسِي، وَلِمَاذَا تَئِنِّينَ فِيَّ؟ تَرَجَّيِ ٱللّٰهَ لأَنِّي بَعْدُ أَحْمَدُهُ، خَلاَصَ وَجْهِي وَإِلٰهِي».
يرجح أن هذا المزمور هو تكملة للمزمور السابق أو هما معاً مزمور واحد. ونرى أنه لا عنوان له ولا اسم مؤلف مما يوحي أنه تابع لشيء آخر. وفي العدد (١) يطلب أن يقضي له لكي ينال حقه فهو يشعر بالظلم ويطلب أن يكون الله جانبه لكي يخاصم عنه وقوله «أمة» أي جماعة كبيرة يضمرون له السوء والعداوة. أما «إنسان غش» فقد يكون زعيم تلك الجماعة التي لا تعرف الرحمة بل حياتها غش وخداع وظلم.
(٢) هو يلتمس الله ويتخذه حصنه ولكنه يرى أن الله قد رفضه. فيشعر بالوحدة وهوذا أعداؤه يضايقونه فيضطر أن يمشي الطريق وحده بينما كان يرى الله عونه ورفيقه. إنه غارق في بحر همومه وتأملاته فيها وأعظم ألم يعانيه هو بعده عن الله وعن هيكله.
(٣) في هذا العدد نتذكر (مزمور ٥٧: ٤ وخروج ١٥: ١٣ كما أيضاً مزمور ٤٢: ٩) النور والحق هما الرحمة والحق أيضاً. وهذان يظهران جلياً فهو بحاجة للهداية لكي يتبع الطريق حتى يصل إلى هدفه وهو جبل قدس الرب ومساكنه أي الخيام المضروبة عليه (انظر مزمور ٨٤: ٢ ومزمور ٤٦: ٥).
(٤) كان شارداً بعيداً فاهتدى كان متضايقاً من الذين يخاصمونه ويطلبون نفسه فوجد طمأنينة وسلاماً. كان يشعر بالوحشة والوحدة مع الناس الأشرار فإذا به الآن يصل إلى مذبح الله وينال الفرح الحقيقي وحينئذ يبدأ بالحمد والتسبيح لهذا الإله الممجد العظيم (راجع مزمور ٣٩: ١٤) إن الله هو بهجة فرحه أي أعظم فرحة وكمال سعادته (هوشع ٩: ٥) ولا يكتفي أن يأتي إلى الله بل إلى إلهه بعلاقته الوثقى معه.
(٥) وأخيراً يعود إلى القرار الذي يملأ المزمور السابق بالروعة والجلال فيتساءل مرة أخرى مستنكراً فلا يجوز أن تنحني نفسه بعد الآن ولا تئن من أي شيء. وخلاصة القول إن هذا المزمور يبدأ بطلب العون ويذكر علاقته بالله ثم في العدد الثالث يصلي لكي يهتدي وبعد ذلك يستجيب له الله فينهض والرجاء يفعم قلبه لأن بالله وحده الخلاص.

اَلْمَزْمُورُ ٱلرَّابِعُ وَٱلأَرْبَعُونَ


لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ. لِبَنِي قُورَحَ. قَصِيدَةٌ


«١ اَللّٰهُمَّ بِآذَانِنَا قَدْ سَمِعْنَا. آبَاؤُنَا أَخْبَرُونَا بِعَمَلٍ عَمِلْتَهُ فِي أَيَّامِهِمْ، فِي أَيَّامِ ٱلْقِدَمِ. ٢ أَنْتَ بِيَدِكَ ٱسْتَأْصَلْتَ ٱلأُمَمَ وَغَرَسْتَهُمْ. حَطَّمْتَ شُعُوباً وَمَدَدْتَهُمْ. ٣ لأَنَّهُ لَيْسَ بِسَيْفِهِمِ ٱمْتَلَكُوا ٱلأَرْضَ، وَلاَ ذِرَاعُهُمْ خَلَّصَتْهُمْ، لٰكِنْ يَمِينُكَ وَذِرَاعُكَ وَنُورُ وَجْهِكَ لأَنَّكَ رَضِيتَ عَنْهُمْ. ٤ أَنْتَ هُوَ مَلِكِي يَا اَللّٰهُ. فَأْمُرْ بِخَلاَصِ يَعْقُوبَ. ٥ بِكَ نَنْطَحُ مُضَايِقِينَا. بِٱسْمِكَ نَدُوسُ ٱلْقَائِمِينَ عَلَيْنَا».
يرجح أن رفيق هذا المزمور هو الخامس والثمانون والناظم يتأسف على الحالة التي وصل إليها بنو إسرائيل بالنسبة لما كان عليه آباؤهم. ويرجح أن الظرف الذي كتب فيه هذا المزمور هو أيام المكابيين حينما ثار اليهود ضد ظلم أنطيوخس أبيفانوس في سبيل تحرير بلادهم من سلطة الأجنبي. ولكن يعترض البعض على هذا الرأي ويرى في العدد العاشر منه ما يناقض ما ذهب إليه أولئك.
(١) يبدأ المرنم بذكريات قديمة منذ أيام موسى ويشوع ويظهر الفرق بين الماضي والحاضر وهنا كما في المزمور ٧٨ لا يرجع فقط للسجلات المكتوبة بل للكلام المنقول من فم لأذن. هي أخبار ينقلها الخلف عن السلف ويعتز بالأمجاد القديمة التي تثير النخوة والحمية في الصدور.
(٢) وموضوع الخبر كيف أن الله خلّص شعبه وثبتهم في مكان الشعوب التي طردت من أرضها. هنا يأخذ مثل النبتة التي تقتلع من أصولها كالأعشاب البرية مثلاً ثم يغرس مكانها ما هو أنفع وأجدى. لقد منح الله شعبه انتصاراً كما أنه قد خذل تلك الشعوب وبددها.
(٣) وعلى إسرائيل أن يتذكر أن الخلاص لم يكن بذراعه ولا بقوته بل بقوة الله التي خلصتهم إلى التمام. وساروا في وسط الصعاب بنور وجهه الذي أشرق عليهم وبالطبع فإن هذا من باب الاستعارة. ويعزو سبب النجاح لأن الرب قد رضي عنهم وباركهم.
(٤) إن الله هو الملك والسيد وشعب إسرائيل هم بحمايته يعيشون فإن كان الله هو الملك فلمن يذهب شعبه. ونلاحظ أن المرنم لا يطلب شيئاً لذاته بل لشعب الله على العموم. وقد طلب موسى هكذا منذ الزمان القديم (راجع خروج ٣٣: ١٣).
(٥) هنا ينحدر المرنم قليلاً عن القمة الأدبية التي كان مرتفعاً عليها ويطلب من الله أن يعطيه قروناً ينطح بها. وقوة غالبة يدوس بها الأعداء. فهو يترك الدفاع ويطلب الهجوم ولذلك يوسع رغباته ويرى من الواجب أن يتخلص من المضايقين والأعداء الذين يقومون عليه.
«٦ لأَنِّي عَلَى قَوْسِي لاَ أَتَّكِلُ، وَسَيْفِي لاَ يُخَلِّصُنِي. ٧ لأَنَّكَ أَنْتَ خَلَّصْتَنَا مِنْ مُضَايِقِينَا، وَأَخْزَيْتَ مُبْغِضِينَا. ٨ بِٱللّٰهِ نَفْتَخِرُ ٱلْيَوْمَ كُلَّهُ وَٱسْمَكَ نَحْمَدُ إِلَى ٱلدَّهْرِ. سِلاَهْ. ٩ لٰكِنَّكَ قَدْ رَفَضْتَنَا وَأَخْجَلْتَنَا وَلاَ تَخْرُجُ مَعَ جُنُودِنَا. ١٠ تُرْجِعُنَا إِلَى ٱلْوَرَاءِ عَنِ ٱلْعَدُوِّ، وَمُبْغِضُونَا نَهَبُوا لأَنْفُسِهِمْ. ١١ جَعَلْتَنَا كَٱلضَّأْنِ أَكْلاً. ذَرَّيْتَنَا بَيْنَ ٱلأُمَمِ».
(٦) لقد كان الماضي مفعماً بالمراحم وليكن الحاضر كذلك. وهنا يؤكد مرة أخرى أن اتكاله ليس على قوته ولا على قوسه وسلاحه لأن السيف أيضاً لا يخلّص. إنّ الله وحده ينجي إلى التمام (راجع تثنية ٣٣: ٥) هذا هو الاختبار العميق الذي عرفه إسرائيل.
(٧) إن الخلاص هو من الله فلا مركز أول لأية قوة بشرية مهما عظمت. ولكنها قوة الله بنعمته في الضعف نصبح أقوياء وبالجهل نصبح حكماء. وهنا يذكر مرة أخرى أن أولئك المضايقين المبغضين قد خزوا وارتدوا إلى الوراء ولا يستطعيون أن يؤذوا المؤمنين بشيء.
(٨) إن الله هو مصدر الافتخار لشعبه به المجد وبدونه لا سؤدد ولا مجد. وقوله اليوم كله أي دائماً فليس الافتخار لشيء عرضي وقتي بل حقيقي بالنسبة لصنائع الله وأعماله العظيمة وهكذا فإن اسم الرب يحمد على الدوام. وهنا تشترك الموسيقى بالمعاني على أسلوب ترنيم خاص ولكن لا يطول الوقت مع المرنم حتى يتحول للشكوى المرة.
(٩) ففي هذا العدد يظهر العتاب وهنا يستدرك ويصبح كل ما مرّ من كلام بحكم النفي. فإن الله هنا قد رفض شعبه بدلاً من أن يقبلهم وقد خذلهم بدلاً من أن ينصرهم على الأعداء وكان سبب الخجل إنه لم يخرج مع الجنود لكي يحارب عنهم إذ ليس انتصارهم بسلاحهم هم بل بالله. لقد اتكلوا على الله ولكن الله رفضهم. هو باستطاعته تخليصهم ولكنه لم يفعل لأنهم على ما يظهر قد عصوا أوامره فكان نصيبهم الغضب بدل الرضا.
(١٠) وكانت النتيجة المحتومة أنهم ارتدوا خائبين. كان سيرهم للوراء بدلاً من التقدم للأمام. وهوذا الأعداء ينهبونهم نهباً لذلك فقد كان ختام الانخذال بضياع الأموال أيضاً. هنا يظهر غضب الله عليهم بأجلى وضوح وأكمل بيان. فقد خسروا الأرواح والأموال وأعظم من ذلك كله هو أنهم قد رأوا غضب الله حالاً عليهم (انظر رومية ١١: ١).
(١١) وكانت النتيجة إن شعب الله أصبح للذبح وكذلك للتشتيت وهنا تظهر نتيجة الحروب قديماً وحديثاً فهي تقتل الناس وتهدم أوطانهم وتشتتهم أيدي سبا.
«١٢ بِعْتَ شَعْبَكَ بِغَيْرِ مَالٍ وَمَا رَبِحْتَ بِثَمَنِهِمْ. ١٣ تَجْعَلُنَا عَاراً عِنْدَ جِيرَانِنَا، هُزْأَةً وَسُخْرَةً لِلَّذِينَ حَوْلَنَا. ١٤ تَجْعَلُنَا مَثَلاً بَيْنَ ٱلشُّعُوبِ. لإِنْغَاضِ ٱلرَّأْسِ بَيْنَ ٱلأُمَمِ. ١٥ ٱلْيَوْمَ كُلَّهُ خَجَلِي أَمَامِي، وَخِزْيُ وَجْهِي قَدْ غَطَّانِي. ١٦ مِنْ صَوْتِ ٱلْمُعَيِّرِ وَٱلشَّاتِمِ. مِنْ وَجْهِ عَدُوٍّ وَمُنْتَقِمٍ».
(١٢) أي بيع العبودية فإن أسيادهم عندئذ يمتلكونهم بقوة السلاح وهذا منتهى الذل والعار. يصوّر حالة الشعب المحزنة التي وصلوا إليها. فهم بأمرة الأمم الذين تغلبوا عليهم فليس قياد أنفسهم بأيديهم. وبغير مال كان المبيع لذلك فلم يكن من ربح. ويقصد بذلك أن يقول إن شعب الله يستحق معاملة أفضل من هذه فهم لم يتعاهدوا مع الله ليكونوا عبيداً بل ليكونوا سادة أحراراً في مختلف أدوار الحياة.
(١٣) لقد كان له عز ومجد في القتال وأما الآن فللهزء والعار. وإذا عملوا فعملهم بالتسخير بدون أجر جزاء أتعابهم. وقوله عند جيراننا يزيد الكلام قوة لأننا نورد أن نعتز ونتكرم أمام جيراننا لا أن نذل أو نهان. وهذا العدد يتمم ما سبقه فإن إهانتهم وجعلهم هزءاً بين الناس لا يتمجد اسم الله بذلك بل بالعكس (انظر إشعياء ٥٢: ٥ وحزقيال ٣٦: ٢٠).
(١٤) وحالة الاستهانة هذه قد عظمت إلى أن أصبحت مضرب الأمثال. ولا يستطيعون أن يرفعوا الرأس ليمشوا بمجد وكرامة بل هم عنوان المذلة لا يتجرأون أن يرفعوا عيونهم إلى فوق.
(١٥) وقد اكتسى وجهه بالخجل وقد تغطى بالخزي حتى يكاد لا يرى كيف يسير في سبيله. إذا اقترف الإنسان ذنباً وخجل منه فعمله يعد فضيلة لا رذيلة. وكذلك إذا تهيبت الفتاة بعض المواقف واصطبغ الخد بالأحمرار فذلك دليل الطهارة والعفاف. أما أن يمتلئ الإنسان بالخجل والخزي حتى لا يستطيع السلوك بين الناس بدون تعييرات المعيرين فذلك مصيبة كبرى قد حلت على شعب الله.
(١٦) لا سيما وإن هؤلاء الأعداء لم يكونوا مشفقين فهم يعيرونهم بقولهم أين إلهكم يخلصكم بل يتجرأون عليهم بالشتم والكلام القبيح. إن ألسنتهم قد صقلوها فهي سهام مسنونة وسيوف حادة قاطعة. ذلك لأن هؤلاء أعداء يضمرون الشر والضغينة ولا يتأخرون قط عن إيقاع كل أنواع الضرر والأذية. حتى مرروا عيشهم وزادوا كربهم وأصبحت الحياة مع هؤلاء مما لا يطاق.
«١٧ هٰذَا كُلُّهُ جَاءَ عَلَيْنَا وَمَا نَسِينَاكَ وَلاَ خُنَّا فِي عَهْدِكَ. ١٨ لَمْ يَرْتَدَّ قَلْبُنَا إِلَى وَرَاءٍ، وَلاَ مَالَتْ خَطْوَتُنَا عَنْ طَرِيقِكَ، ١٩ حَتَّى سَحَقْتَنَا فِي مَكَانِ ٱلتَّنَانِينِ وَغَطَّيْتَنَا بِظِلِّ ٱلْمَوْتِ. ٢٠ إِنْ نَسِينَا ٱسْمَ إِلٰهِنَا أَوْ بَسَطْنَا أَيْدِيَنَا إِلَى إِلٰهٍ غَرِيبٍ، ٢١ أَفَلاَ يَفْحَصُ ٱللّٰهُ عَنْ هٰذَا، لأَنَّهُ هُوَ يَعْرِفُ خَفِيَّاتِ ٱلْقَلْبِ؟».
(١٧) هنا يلخص ما مر على الشعب من ويلات ويقول «هذا كله»أي جميع المصائب والمتاعب التي ذكرها آنفاً. و «جاء علينا» أي أصابنا كما في (مزمور ٣٥: ٨ و٣٦: ١٢) فإن قوات الشر المعادية وما تستطيع أن تؤثر به للأذية والضرر. ولكن لا شيء من هذه قد استطاع أن ينسينا الواجبات أو يسبب لنا خيانة في العهود (مزمور ٨٩: ٣٤).
(١٨) إن ارتداد القلب هو الذي يسبب ميل الخطوة عن الطريق. ومتى كان القلب في زيغان حينئذ يزيغ كل أعضاء الجسد (راجع أيوب ٣١: ٧ وأيضاً ٣: ١٠ وسفر العدد ١٦: ١٤). فطالما أن قلبنا بقي مستقيماً وكذلك سيرتنا فلماذا إذاً هذه الويلات؟ والمرنم يعود هنا للفكرة الفطرية إن الصالح يجب أن ينال الصلاح مكافأة له.
(١٩) ولكن الحالة كانت على غير شكل مما توقعه وإذا به ينسحق في مكان التنانين وفي ترجمة أخرى «مكان بنات آوى» (راجع ديلتش مجلد ٢ ص ٦٣). والقصد هو تصوير مكان مقفر بعيد عن الأهل والسكان (انظر إرميا ١٠: ٢٢). وقد كمل الانسحاق بالتغطية لكي لا يعرف المكان ولا يكشف وهذا منتهى الموت المشين (١صموئيل ١٩: ١٣) ويمكن قراءتها «وغطيتنا بالظلمات» (راجع مزمور ٢٣: ٤).
(٢٠) يعود فيؤكد براءته فهو لم ينس اسم إلهه. وقوله الاسم بمعنى أنه لم ينس الله وهنا لا فرق بين الاسم والحقيقة إذ أن الإنسان القديم رأى في اسم الله سبيلاً للإيمان به والاتكال عليه فهو لا يراه بالعين وإن كان يؤمن به بالقلب فعلى الأقل يكون ذكر الاسم لتثبيت هذا الإيمان. وبسط اليد للإله الغريب دليل التعبد والخلوص له ولأن الله إله غيور فيكون ذلك مروقاً من الدين وخروجاً عن أصوله.
(٢١) لا سيما وإن الله لا تخفى عليه خافية فهو الذي يفحص ويعرف يقيناً من هو الإنسان وما هي نواياه كلها. فإذاً لا أسرار يمكن أن تخفى عنه فالأفضل أن يكون كل شيء ظاهراً وبالعلن. وهنا مرة أخرى نتذكر ما ورد في (أيوب ٣١ لا سيما العدد الرابع وأيضاً ١١: ٦ و٢٨: ١١).
«٢٢ لأَنَّنَا مِنْ أَجْلِكَ نُمَاتُ ٱلْيَوْمَ كُلَّهُ. قَدْ حُسِبْنَا مِثْلَ غَنَمٍ لِلذَّبْحِ. ٢٣ اِسْتَيْقِظْ. لِمَاذَا تَتَغَافَى يَا رَبُّ؟ ٱنْتَبِهْ. لاَ تَرْفُضْ إِلَى ٱلأَبَدِ. ٢٤ لِمَاذَا تَحْجُبُ وَجْهَكَ وَتَنْسَى مَذَلَّتَنَا وَضِيقَنَا؟ ٢٥ لأَنَّ أَنْفُسَنَا مُنْحَنِيَةٌ إِلَى ٱلتُّرَابِ. لَصِقَتْ فِي ٱلأَرْضِ بُطُونُنَا. ٢٦ قُمْ عَوْناً لَنَا وَٱفْدِنَا مِنْ أَجْلِ رَحْمَتِكَ».
(٢٢) هنا يفتخر المرنم بالأمانة العظمى التي تجسمت وتتجسم في جماعة المؤمنين. ومن أجل العقيدة والإيمان يصل الإنسان المتدين إلى أعظم الاضطهاد كما جرى للشهداء والقديسين منذ الأيام القديمة. وكانت حالتهم أشبه بالغنم للذبح يتعرضون لكل أنواع التعذيب والإهانات. حينما تكون الكنيسة مؤمنة تضطهد وحينما ترتد للضلال والخيانة يزول عنها الاضطهاد لأنها تصبح بلا رسالة تؤديها لإصلاح العالم.
(٢٣) لا نلوم المرنم كثيراً فإن الاضطهاد قد أعمى بصره وحسب أن الرب قد تغافى عنه ويتمنى عليه أن يستيقظ. كأنه غافل ويطلب إليه أن ينتبه. ولا نستطيع أن نرى في ذلك سمواً روحياً إذ يشبه الرب كأنه إنسان. وأين هذا القول من أنه لا ينعس ولا ينام حافظ إسرائيل.
(٢٤ و٢٥ و٢٦) ولكنه في هذه الأعداد يتذلل أمام الله ويلتمس منه أن لا يحجب وجهه ولا ينسى ما هو عليه المرنم من ضيق وويل. وفي هذه الأعداد صورة كاملة للحالة المحزنة التي هو فيها. هوذا الانحناء ليس من الشيخوخة بل من كثرة الهموم حتى تكاد تلصق البطون بالتراب ولا يمكنه أن ينهض عزيزاً رافع الرأس والجبين. ولكنه يلتفت في العدد الأخير مكرراً طلب العون من الله. عنده الفداء وعمله بذلك فقط من أجل الرحمة فالإنسان لا يستحق أي التفات ولكن الله لا يتخلى عنه ولا سيما وهو يذكر الأمانة والعهود المقدسة التي قطعها الشعب معه وهو قبل أن يكون إلههم على الدوام. وقوله «قم» قد ورد مثله (مزمور ٣: ٨ و٧: ٧). وهذا التعبير هو في الأصل موسوي. وطلب العون أيضاً وارد مثله في مواقف كثيرة (راجع مزمور ٦٣: ٨ و٢٢: ٢٠ و٣: ٣).
وخلاصة القول إن هذا المزمور هو صرخة نفس أصابها الاضطهاد والمذلة لذلك تلتجئ إلى الرب في أشد الساعات ألماً وضيقاً وهكذا قد يكون كتب في أيام المكابيين وقت ظلم الملك أنطيوخس وهو يصوّر لنا العذاب الشديد الذي احتمله بنو إسرائيل عندئذٍ.


اَلْمَزْمُورُ ٱلْخَامِسُ وَٱلأَرْبَعُونَ


لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ. عَلَى ٱلسَّوْسَنِّ. لِبَنِي قُورَحَ. قَصِيدَةٌ. تَرْنِيمَةُ مَحَبَّةٍ


«١ فَاضَ قَلْبِي بِكَلاَمٍ صَالِحٍ. مُتَكَلِّمٌ أَنَا بِإِنْشَائِي لِلْمَلِكِ. لِسَانِي قَلَمُ كَاتِبٍ مَاهِرٍ. ٢ أَنْتَ أَبْرَعُ جَمَالاً مِنْ بَنِي ٱلْبَشَرِ. ٱنْسَكَبَتِ ٱلنِّعْمَةُ عَلَى شَفَتَيْكَ، لِذٰلِكَ بَارَكَكَ ٱللّٰهُ إِلَى ٱلأَبَدِ. ٣ تَقَلَّدْ سَيْفَكَ عَلَى فَخْذِكَ أَيُّهَا ٱلْجَبَّارُ، جَلاَلَكَ وَبَهَاءَكَ. ٤ وَبِجَلاَلِكَ ٱقْتَحِمِ. ٱرْكَبْ. مِنْ أَجْلِ ٱلْحَقِّ وَٱلدَّعَةِ وَٱلْبِرِّ، فَتُرِيَكَ يَمِينُكَ مَخَاوِفَ».
يذكر سفر العبرانيين ص ١: ٨ بأن هذا الكلام هو عن المسيح ابن الله. وبذلك يعدّ نبوءة عنه ووصفاً بارعاً لما سيكونه. يبقى هل كتب هذا المزمور لأجل ذلك أم هو ترنيمة محبة بشرية كما هو عنوانه وقد نظم لأجل ظرف خاص هو زواج الملك أو ابنه والشاعر معاصر لهما فيتكلم عن أمور جرت أمام عينيه. وهذا الملك هو من نسل داود ولذلك كان له المواعيد (٢صموئيل ٧). وقد تكون هذه القصيدة منظومة حينما اقترن يورام بعثليا لأنه من نسل داود. وليس لآخاب وإيزابل لأن هذا الأخير ابن عمري من إسرائيل مملكة الشمال.
العنوان يبين الكاتب أنه من بني قورح والأرجح أنه كان لهم مجموعة من الأناشيد والأشعار وهذه القصيدة إحداها. وهي تبحث أموراً مسرّة محبوبة.
(١) وبدء القصيدة يستلفت النظر فإن قلب الشاعر قد امتلأ أولاً حتى فاض بعد ذلك. وفيضه كان بأشياء صالحة لطيفة وجميلة. ويسره أن يكون له لسان يترجم ما في أفكاره من معان ويقدر أن يسرع في التعبير حتى يكاد يسابق قلم الكاتب الماهر. إن موضوعه جليل وأجلّ منه هو شخص الملك الذي يتكلم عنه لذلك لا عجب إن فاض في الكلام.
(٢) وموضوع كلامه هو جمال الملك وبهاؤه فقول الشاعر أنه بالرغم من كل مهارته في الكلام والتعبير ظل عاجزاً عن إيفاء الملك حقه في المديح. لا سيما وإن هذا الملك قد اشتهر ببلاغة الكلام لأنه بنعمة من الله يفعل ذلك وقد برهن على هذه الصورة أنه مبارك من الله (انظر لوقا ٤: ٢٢).
(٣) وبعد أن يصف مظهره الخارجي بالجمال والجلال وبالطبع لا يعني ذلك الشيء الفاني الزائل (أمثال ٣١: ٣٠) ولكنه جمال النعمة السماوية والبركة. يأتي الآن لكي يصفه كمحارب وإذا به يحمل سيفاً على جنبه يدل على العزة والجبروت. وببراعة يذكر الملك أن شجاعته هي أعظم مظاهر الجلال والبهاء.
(٤) ولا شك أن الجلال والشجاعة هما صنوان لا يفترقان في الملوك. وهذا السيف على جنبه ليس للزينة فقط بل عليه أن يقتحم به الأعداء ويركب أمام جنده ليقودهم للنضال والظفر. ولكنه في الوقت ذاته ظفر لأجل الحق والبر وبصورة وديعة متواضعة وإذا يمينه توقع في الأعداء رعباً ومخاوف لا قبل لهم على مجابهته.
«٥ نَبْلُكَ ٱلْمَسْنُونَةُ فِي قَلْبِ أَعْدَاءِ ٱلْمَلِكِ. شُعُوبٌ تَحْتَكَ يَسْقُطُونَ. ٦ كُرْسِيُّكَ يَا اَللّٰهُ إِلَى دَهْرِ ٱلدُّهُورِ. قَضِيبُ ٱسْتِقَامَةٍ قَضِيبُ مُلْكِكَ. ٧ أَحْبَبْتَ ٱلْبِرَّ وَأَبْغَضْتَ ٱلإِثْمَ، مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ مَسَحَكَ ٱللّٰهُ إِلٰهُكَ بِدُهْنِ ٱلٱبْتِهَاجِ أَكْثَرَ مِنْ رُفَقَائِكَ. ٨ كُلُّ ثِيَابِكَ مُرٌّ وَعُودٌ وَسَلِيخَةٌ. مِنْ قُصُورِ ٱلْعَاجِ سَرَّتْكَ ٱلأَوْتَارُ».
(٥) وهنا ينتقل إلى نوع آخر من السلاح وهو رمي النبال. إن هذه النبال هي في حالة جيدة للغاية إذ تخترق إلى مسافات بعيدة حتى تصل إلى قلوب الأعداء. وحينما يستعمل هذين السلاحين الهامين في تلك الأيام وهما السيوف والنبال إذا الأعداء يندحرون ويسقطون ويتذللون أمام الملك ويكون موقعهم تحته لا مقابله قط. وقد رأى بعض المفسرين أن الإشارة هنا هي للمسيح (قابل إشعياء ٩: ٥ و١٠: ٢١).
(٦) يمكن الترجمة «كرسيك التي من الله» وحينئذ يكون المعنى أن الله قد ثبت هذا الكرسي ودعمه لنسل داود ملكاً أبدياً. أو تترجم أيضاً «كرسيك الإلهي» (انظر ٢ملوك ٢٣: ١٧). وأما شكل الخطاب هنا «يا الله» فقد يكون من باب كل سلطة حتى البشرية منها أيضاً (انظر خروج ٢١: ٦ و٢٢: ٧) وما بعده و(مزمور ٨٢ و١٣٨: ١) ذلك لأنهم يمثلون الله ويحملون اسمه بين الناس. ولأن الملك يمثل الله فإن صولجانه يجب أن يكون للاستقامة والبر.
(٧) من يحب البر يبغض الإثم وبالعكس. لذلك فإن الله قد مسحه سعيداً عزيزاً في ملكه أرقى رتبة وأعلى مقاماً ممن حوله (قابل مزمور ٨٩: ٢١ مع أعمال ١٠: ٣٨). وهذا هو العهد الذي عاهد به الله أنه يحب العدل ويؤسس ملكه عليه ولذلك فهو ممسوح من الله لأجل هذه الوظيفة العالية التي تتضمن المسؤوليات الجسام أكثر من الجاه والسطوة والسلطان. ولكنه بدهن الابتهاج لأنه حينما يتمم وظيفته ينال السعادة والتوفيق أكثر كثيراً من الملوك الآخرين رفقائه.
(٨) يصل هنا الشاعر بوصفه إلى الذروة العليا فبعد أن يصف ملكه المحبوب بالبطولة والرجولة وبأن ملكه من الله يأتي إليها لكي يصفه عريساً ملكياً في يوم أفراحه العظمى. وكذلك نجد الوصف في سفر الرؤيا فإنه بعد أن يضرب المسيح أعداءه بقضيب فمه ويركب على فرس أبيض واسمه ملك الملوك ورب الأرباب يتبع ذلك عرس الخروف (رؤيا ١٩: ٧). وهذه الثياب التي يلبسها الملك هي معطرة إلى درجة بعيدة كإنما نسجت بالعطور الثمينة. ومقامه هو في قصور ثمينة مملوءة بالأواني العاجية التي تدل على الغنى والرخاء العظيم.
«٩ بَنَاتُ مُلُوكٍ بَيْنَ حَظِيَّاتِكَ. جُعِلَتِ ٱلْمَلِكَةُ عَنْ يَمِينِكَ بِذَهَبِ أُوفِيرٍ. ١٠ اِسْمَعِي يَا بِنْتُ وَٱنْظُرِي وَأَمِيلِي أُذُنَكِ وَٱنْسَيْ شَعْبَكِ وَبَيْتَ أَبِيكِ، ١١ فَيَشْتَهِيَ ٱلْمَلِكُ حُسْنَكِ، لأَنَّهُ هُوَ سَيِّدُكِ فَٱسْجُدِي لَهُ. ١٢ وَبِنْتُ صُورٍ أَغْنَى ٱلشُّعُوبِ تَتَرَضَّى وَجْهَكِ بِهَدِيَّةٍ. ١٣ كُلُّهَا مَجْدٌ ٱبْنَةُ ٱلْمَلِكِ فِي خِدْرِهَا. مَنْسُوجَةٌ بِذَهَبٍ مَلاَبِسُهَا».
(٩) الحظيات أي المحظوظات المكرمات لدى الملك بالنسبة لما هن عليه من رفعة الشأن والمقام (انظر أمثال ٦: ٢٦) وأعلى من جميع هؤلاء كانت الملكة التي جلست على العرش معه والحلى الذهبية تزينها من قمة الرأس إلى أخمص القدم. وإذا كنا نفسر الكلام على نسبة المسيح فمن هن هؤلاء الحظيات؟ هن الأمم الوثنية وأما الملكة فهي كنيسة المسيح وجميع هؤلاء يجتمعن معاً حول الملك ابن الله لكي يجمع الكل إلى واحد بواسطته.
(١٠) وهنا يلتفت المرنم لكي يخاطب هذه العروس الملكية الواحدة ويقول لها أن تستعمل حاستيها الهامتين أولاً أن تسمع ثم أن ترى وبعد ذلك عليها أن تنسى كل ما ماضيها وما كانت فيه من عزّ وتذكر خضوعها للملك. هذا شيء طبيعي وقت الزواج فإن المرأة تترك بيت أبيها واسم عائلتها لكي تسكن بيت زوجها وتأخذ اسمه. فيتعهد الزوج بعهود العناية والاهتمام بزوجته كما أنها تتعهد بالطاعة والأمانة.
(١١) إن هذا الملك الزوج يرى في زوجته عندئذ كل ما يسرّه ويفرح قلبه (راجع ١بطرس ٣: ٦) ولأنه ملك فهو سيدها ومولاها. وعليها عندئذ أن تخضع له وتسجد لمقامه الرفيع بكل احترام. إن إظهار خضوع الأمم للمسيح هو دليل عظمتها الحقة ووحدتها وتقدمها.
(١٢) واختار «بنت صور» التي هي أغنى الشعوب لكي يزيد عظمة الملك فهي تطلب رضاه وتكون له حليلة شرعية وتقدم له هدية ثمينة دليل خضوعها كما فعل المجوس حينما قدموا الهدايا للطفل المولود. وعليها الآن أن تنسى شعبها وعبادتها الوثنية الأولى وتظهر نفسها أهلاً للحلة الملكية التي هي فيها الآن.
(١٣) وهنا وصف مفصل كيف تركت بيت أهلها نهائياً وهي في حللها الملكية الباهرة فهي لابسة أثمن الملابس ويجللها المجد والعزة والوقار من كل جانب. تدخل القصر بحاشية كبيرة معها. وملابسها فيها خيوط من ذهب أو مصنوعة بشكل مربعات في وسطها الألماس والحجارة الكريمة واللآلئ الثمينة.
«١٤ بِمَلاَبِسَ مُطَرَّزَةٍ تُحْضَرُ إِلَى ٱلْمَلِكِ. فِي أَثَرِهَا عَذَارَى صَاحِبَاتُهَا. مُقَدَّمَاتٍ إِلَيْكَ ١٥ يُحْضَرْنَ بِفَرَحٍ وَٱبْتِهَاجٍ. يَدْخُلْنَ إِلَى قَصْرِ ٱلْمَلِكِ. ١٦ عِوَضاً عَنْ آبَائِكَ يَكُونُ بَنُوكَ، تُقِيمُهُمْ رُؤَسَاءَ فِي كُلِّ ٱلأَرْضِ. ١٧ أَذْكُرُ ٱسْمَكَ فِي كُلِّ دَوْرٍ فَدَوْرٍ. مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ تَحْمَدُكَ ٱلشُّعُوبُ إِلَى ٱلدَّهْرِ وَٱلأَبَدِ».
(١٤) في هذا المظهر الخلاب البهي تدخل إلى حضرة الملك كما جرى لأستير الملكة حينما أحضرت أمام أحشويروش (أستير ٢: ١٢). هو ملكها وزوجها الآن وتلبس الآن ثياباً مطرزة (٢أخبار ٢٠: ٢١) والعروس تلبس منذ قديم الزمان ثوباً أبيض دليل العفة والطهارة ولا مانع أن يطرز عليها على شرط أن يحتفظ ببياضها الناصع. ووراءها تتقدم بنات عديدات كخادمات ووصيفات لها ولكن جميعهن الآن مقدمات للملك إذ بحضرته حتى وصيفاتها يصبحن للملك أولاً.
(١٥) يكاد القارئ هنا يسمع حداء الشبان وزغاريد النساء والعذارى لدن هذا العرس الملكي البديع. إن جميع الأمم والشعوب يجب أن تتحد في إيمان واحد لكي تقاسم في مجد ابنة صهيون السماوية. وهنا نرى بالخيال ذلك الموكب قادماً بكل أبهة وجلال وأصوات الأهازيج والأفراح تتصاعد من كل جانب. ولا يبقى الفرح خارجاً بل يصل إلى داخل القصر وإلى قلب الملك بالذات.
(١٦) لقد كان الملوك عندئذ يشركون أولادهم في الحكم إن في يهوذا أو إسرائيل (انظر ٢صموئيل ٨: ١٨ و١ملوك ٤: ٧ وقابل مع ٢أخبار ١١: ٢٣ و١ملوك ٢٠: ١٥). إن هؤلاء البنين المولودين من نسل ملكي من الأمم يقصد به أن محبة المسيح والطاعة له والإيمان به ستنتشر في كل مكان حتى تعم معرفة المسيح الأرض كلها كما تغطي المياه البحر (انظر رؤيا ٥: ١٠).
(١٧) سيعطي للذين يخضعون لاسمه ويطيعون وصاياه ملكاً أبدياً دائماً وحينئذ يصبح اسم الرب على كل شفة ولسان. ويكون أن الأرض جميعها تظهر حمدها للرب لأنه يتسلط على الشعوب في كل مكان.
نعم إن المرنم يرى وحدة الأرض خاضعة فقط لرؤساء من نسل ملكي مقدس يعملون مشيئة الله ويتممون أوامره. ولذلك يختم بأن كل الشعوب سوف تشترك أخيراً في حمد الله وتمجيد اسمه القدوس إلى كل جيل ودهر.


اَلْمَزْمُورُ ٱلسَّادِسُ وَٱلأَرْبَعُونَ


لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ. لِبَنِي قُورَحَ. عَلَى ٱلْجَوَابِ. تَرْنِيمَةٌ


«١ اَللّٰهُ لَنَا مَلْجَأٌ وَقُوَّةٌ. عَوْناً فِي ٱلضِّيقَاتِ وُجِدَ شَدِيداً. ٢ لِذٰلِكَ لاَ نَخْشَى وَلَوْ تَزَحْزَحَتِ ٱلأَرْضُ، وَلَوِ ٱنْقَلَبَتِ ٱلْجِبَالُ إِلَى قَلْبِ ٱلْبِحَارِ. ٣ تَعِجُّ وَتَجِيشُ مِيَاهُهَا. تَتَزَعْزَعُ ٱلْجِبَالُ بِطُمُوِّهَا. سِلاَهْ».
(١) يفتتح المرنم كلامه بتأكيد عام أن الله هو الملجأ والقوة. والإقناع في الكلام هو بالنسبة لعمق الاختبار الذي ينقله. إن الله هو الملجأ ذاته وليس أنه يعطيه فقط وهو العون الحقيقي في الضيق والشدة (٢أخبار ١٥: ٤). ولكنه كذلك للذين يطلبونه ويلتمسون وجهه.
(٢) بل طالما أن الله موجود فلا لزوم للخوف مهما دهت الدواهي وأظلمت الدنيا بالويلات والمصائب حتى تكاد تتغير الأرض وتكاد الجبال تصبح أعاليها أسافلها وأسافلها أعاليها وغمرتها المياه وغرقت في قلب البحار (انظر حزقيال ٢٧: ٢٧ ويونان ٢: ٤). أي إذا عادت حالة الأرض إلى ما كانت عليه حينما كانت خربة وخالية والمياه تغمرها في كل مكان. إن الجبال هي عنوان العزة والجبروت ولذلك فانقلابها معناه أدهى الدواهي وأعظمها جميعاً (انظر مزمور ٨٩: ١٠) وكذلك (أيوب ٣٨: ١١).
(٣) يصور المياه كأنها في طوفان عظيم ولا شيء يقف في وجهها (قابل ذلك مع مزمور ١٣٩: ٨ - ١٠ وأيضاً أيوب ٢٠: ٢٤ وإشعياء ٤٠: ٣٠ وما يتبعه). وعلاقة هذا العدد هي مع سابقه أي إننا لا نخاف ولو طغت المياه على اليابسة جميعاً وجرفت كل شيء بوجهها فيبقى لنا الله الحي الأزلي الأبدي صخر الدهور لا يتغير ولا يزول. وهنا تسمو الموسيقى حتى على أصوات الأمواج الصخابة وعجيج المياه ترتفع إذ يدعمها إيمان المؤمنين وثقتهم برحمة الله وحينئذ فإن هياج العناصر ليست إلا لتعطيهم سكوناً وسط الزوابع.
«٤ نَهْرٌ سَوَاقِيهِ تُفَرِّحُ مَدِينَةَ ٱللّٰهِ، مَقْدِسَ مَسَاكِنِ ٱلْعَلِيِّ. ٥ ٱللّٰهُ فِي وَسَطِهَا فَلَنْ تَتَزَعْزَعَ. يُعِينُهَا ٱللّٰهُ عِنْدَ إِقْبَالِ ٱلصُّبْحِ. ٦ عَجَّتِ ٱلأُمَمُ. تَزَعْزَعَتِ ٱلْمَمَالِكُ. أَعْطَى صَوْتَهُ ذَابَتِ ٱلأَرْضُ. ٧ رَبُّ ٱلْجُنُودِ مَعَنَا. مَلْجَأُنَا إِلٰهُ يَعْقُوبَ. سِلاَهْ».
(٤) هنا إشارة للنهر الذي يسقي الجنة (راجع تكوين ٢: ١٠) وهكذا سواقي نهر سيمر وسط أورشليم ويجعلها فردوساً آخر كجنة عدن بالذات (انظر مزمور ٨٧: ٣ ومزمور ٤٨: ٩). وحينما يحيط بها الأعداء يهددونها بالخطر فهي عندئذ لن تجوع أو تعطش ولا تخاف ولا تيأس لأن الله بنعمته سيجعل نهره يمر فيها ليترعها بالبركات حتى تصل إلى أعلى الأمكنة إلى قدس مساكن الله العلي.
(٥) نرى في (مزمور ٦٥: ٥ وإشعياء ٤٧: ١٥ وكذلك خروج ١٥: ١٦) إن أورشليم هي مكان مقدس أو ممجد. وهنا نجد بدلاً من ذكر النهر الذي يسقيها إذا الله ذاته هو ساكن في وسطها لذلك تثبت ولا تتزعزع. ويوجد فقط ليلة أتعاب وهموم وبعد ذلك يقبل الصبح وتشرق الشمس وتنجلي الظلمات ويأتي بعدها النور. وفي الصباح يأتي العون من رب السماء فهو لا يدع أتقياءه يتخبطون وحدهم حتى ولو كان في وسط البحر الأحمر بل يعطيهم عمود السحاب يشجعهم ويقويهم.
(٦) هوذا الأمم تصخب وتضطرب ويتبدل حالها. وهوذا الممالك لا تستطيع أن تثبت طويلاً ولا أن تقاوم ما فرضه الله على العالم من حدثان. نعم إن شعب الله وكنيسته هي في هذا العالم ولكنها في منجاة من ويلاته هي في مرتفع تشرف على الويلات وتراها ولكنها تتغلب عليها. هي لا تهرب منها ولا تتجنبها لأنها عامة للجميع ولكن مع ذلك يظل الإيمان فيها. والرب يعطي أصوات رعده فتذوب الأرض كلها من الرعب والهلع.
(٧) ولا عجب أن يكون الله رب الجنود مع شعبه. وفي الشعر الذي نظمه بنو قورح يستعملون «رب الجنود» بصورة خاصة بهم. ويصبح هذا مثل اسم علم في أيام الملوك (انظر مزمور ٢٤: ١٠ و٥٩: ٦) نجد هذا الاسم على فم حنة أولاً (١صموئيل ١: ١١). قد تأتي الأمم وتجتمع الشعوب للحرب والنزال ولكن حينما يعطي الله صوت رعده ويظهر جبروته وإذا هؤلاء يذوبون من أمام وجه الرب كما تذوب الشمعة من أمام وجه النار.
«٨ هَلُمُّوا ٱنْظُرُوا أَعْمَالَ ٱللّٰهِ، كَيْفَ جَعَلَ خِرَباً فِي ٱلأَرْضِ. ٩ مُسَكِّنُ ٱلْحُرُوبِ إِلَى أَقْصَى ٱلأَرْضِ. يَكْسِرُ ٱلْقَوْسَ وَيَقْطَعُ ٱلرُّمْحَ. ٱلْمَرْكَبَاتِ يُحْرِقُهَا بِٱلنَّارِ. ١٠ كُفُّوا وَٱعْلَمُوا أَنِّي أَنَا ٱللّٰهُ. أَتَعَالَى بَيْنَ ٱلأُمَمِ. أَتَعَالَى فِي ٱلأَرْضِ. ١١ رَبُّ ٱلْجُنُودِ مَعَنَا. مَلْجَأُنَا إِلٰهُ يَعْقُوبَ. سِلاَهْ».
(٨) هذه أعمال الرب ظاهرة واضحة أمام كل إنسان. وللذين هم خارج الكنيسة عليهم فقط أن يتطلعوا وينظروا أعمال الله وعجائبه كيف يستطيع أن يخرب كل شيء ولا يستطيع أحد أن يقف في وجهه (انظر إرميا ٨: ٢١ وإشعياء ١٣: ٩). وأما هذه الحرب فإنما في بلدان العدو الذين تجرأوا على اقتحام معقل الله فارتدوا خائبين ناكصين على أعقابهم وامتلأت أرضهم بجثث القتلى وتهدمت مساكنهم وبيوتهم.
(٩) هو يسكت أصوات القتال ويمنع الحروب. وهنا يصف ماذا يحل بالسلاح وآلات القتال ضد الذي يكسرها ويحطمها وكذلك يجعل المركبات تلتهمها النيران حتى لا تعود تصلح للحرب. إن قوة العالم وعزه وجبروته يجب أن تذهب أمام قوة الله وهكذا فإن قوات الشر لا شك ستخضع أخيراً أمام قوات الخير التي يجب أن تسود باسم الله (انظر ميخا ٤: ٣ وإشعياء ٢: ٤).
(١٠) هوذا الله سيعرف عندئذ من الجميع وعليهم أن يكفوا ويتوقفوا عن كل شيء وعلى الأمم عندئذ أن ترتمي على الثرى وتسجد للحضيض أمام الله العلي. فهو المتعالي ليس في إسرائيل فقط بل في كل الأرض. والشرط في ذلك هو أن يعلم كل إنسان أنه أمام الله الخالق العظيم.
(١١) يعود فيكرر هذه العبارة العظيمة إن الله معنا وهو الملجأ والملاذ. هو لا يغلب ولا شيء يستطيع في الآخر أن يقف أمام مشيئته الإلهية أو يتعدى حدود ما يرسمه في الأرض أو في السماء. وكل الأرض يجب أن تعرف هذا الأمر وتعيش بموجبه. والمزمور ٢ أيضاً ينبه الأمم أن يصحوا ويتعقلوا وهنا تنبيه شديد أنه عليهم أن يخضعوا لمشيئة الله لكي يحيوا وإلا يصيبهم التهديد الصارم ويهلكون جميعاً. ويا ليت الناس جميعاً يفهمون هذه الحقيقة ويبطلون الحروب ويذلون الإنسان أمام عظمة الله ويضمحل جبروته وسطوته أمام قوة الله غير المتناهية. وعلى كل فإن شعب الله وكنيسته لهم رب الجنود القوي العظيم وهو ملجأها وعزها. فإذا اضمحل عز الأمم ومجدهم يبقى مجد الله إلى الأبد.


اَلْمَزْمُورُ ٱلسَّابِعُ وَٱلأَرْبَعُونَ


لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ. لِبَنِي قُورَحَ. مَزْمُورٌ


«١ يَا جَمِيعَ ٱلأُمَمِ صَفِّقُوا بِٱلأَيَادِي. ٱهْتِفُوا لِلّٰهِ بِصَوْتِ ٱلٱبْتِهَاجِ. ٢ لأَنَّ ٱلرَّبَّ عَلِيٌّ مَخُوفٌ، مَلِكٌ كَبِيرٌ عَلَى كُلِّ ٱلأَرْضِ. ٣ يُخْضِعُ ٱلشُّعُوبَ تَحْتَنَا وَٱلأُمَمَ تَحْتَ أَقْدَامِنَا. ٤ يَخْتَارُ لَنَا نَصِيبَنَا، فَخْرَ يَعْقُوبَ ٱلَّذِي أَحَبَّهُ. سِلاَهْ».
هذا المزمور هو أغنية رأس السنة مع المزمور الحادي والثمانين. ولأنه يذكر في العدد الخامس «صعد الله بهتاف...» فهو يستعمل لعيد الصعود في الكنيسة المسيحية. ومن جهة أخرى فهو مزمور يحيي الانتصار العظيم الذي أحرزه شعب الله على الأمم حولهم (راجع ٢أخبار ٢٠: ٢٩) وذلك على الأرجح. أيام حكم يهوشافاط في القرن الثامن ق.م. على الأرجح. والمرنم يطلب الخضوع من جميع الأمم إذ أن حكم الله عليهم ليس بالخوف بل بالفرح وهو سيكون إلههم كما هو إله إسرائيل وهذا اتساع في فهم مقاصد الله وعدم حصر محبته بأمة معينة.
(١) يخاطب جميع الأمم ويطلب منهم أن يظهروا علامات الابتهاج بالتصفيق ويهتفوا لأن الابتهاج يملأ قلوبهم ويكون في رنة أصواتهم ما يؤكد فرحهم هذا. على الجميع أن يخضعوا لله لأن ملكوته يعمهم وشريعته الإلهية فوق أفهامهم وعليهم أن يطيعوها.
(٢) إن الله لا يساكن الناس إذ هو عالٍ فوقهم وعليهم أن يخافوه ويهابوه لأنه ملك وسلطته على الأرض كلها كما في السموات. ولا شك أن المرنم يأخذ الاستعارة من الحياة الشرقية وكيف كان الناس يحترمون ملوكهم ويرعون حرمتهم ويكونون لهم عبيداً مدى الحياة.
(٣) هنا اختبار لبني إسرائيل كيف أنهم انتصروا على الأمم حولهم وينسبون انتصارهم هذا لفضل الله عليهم وحسن عنايته بهم ونعمته. والمرنم يستخلص من حوادث تاريخية واقعية ما يستطيع أن يعلنه عن قدرة الله فيقول «يخضع الشعوب تحتنا». ومن هنا نرى أن المرنم لا يدعو الأمم كلها إلى جامعة تضمها أو إلى هيئة أمم متحدة تجمعها بنظام شامل يسود الجميع بل يهمه أن يخبر أن الله قد أولى شعبه نصراً مبيناً وعلى الشعوب كلها أن تخضع وتسلّم لمشيئته.
(٤) في قوله «يختار» ليس من الضروري معناه الحاضر والمستقبل بل كما في (عدد ٢٣: ٧ وقضاة ٢: ١) فالكلام هو عن حدث تاريخي كيف إن الله أعطى الأرض ميراثاً لشعبه. فالله هو مالك الأرض وإليه مرجعها كما في عصر الإقطاع مثلاً وإنما يعطيها حصناً لمن يعملون فيها. وقد سمى هذه الأرض «فخراً» بالنسبة لأنه أعطيت نتيجة المحبة لشخص محبوب هو يعقوب (راجع عاموس ٦: ٨ ونحميا ٢: ٣ وكذلك إشعياء ١٣: ١٩).
«٥ صَعِدَ ٱللّٰهُ بِهُتَافٍ، ٱلرَّبُّ بِصَوْتِ ٱلصُّورِ. ٦ رَنِّمُوا لِلّٰهِ رَنِّمُوا. رَنِّمُوا لِمَلِكِنَا رَنِّمُوا. ٧ لأَنَّ ٱللّٰهَ مَلِكُ ٱلأَرْضِ كُلِّهَا رَنِّمُوا قَصِيدَةً. ٨ مَلَكَ ٱللّٰهُ عَلَى ٱلأُمَمِ. ٱللّٰهُ جَلَسَ عَلَى كُرْسِيِّ قُدْسِهِ. ٩ شُرَفَاءُ ٱلشُّعُوبِ ٱجْتَمَعُوا. شَعْبُ إِلٰهِ إِبْرَاهِيمَ. لأَنَّ لِلّٰهِ مَجَانَّ ٱلأَرْضِ. هُوَ مُتَعَالٍ جِدّاً».
(٥) حينما نقول «صعد الله» فهنا نفترض أنه نزل من قبل وقصد نزوله هو أن يتمم بعض المواعيد التي قطعها على نفسه (تكوين ١٧: ٢٢ وقضاة ١٣: ٢٠) وكذلك لكي يجري عملاً قضى به (مزمور ٧: ٨ و٦٨: ١٩) وهنا الله قد نزل لكي يحارب عن شعبه. وهو الآن يعود لعرشه بينما الشعب يعود لأورشليم وأما عرشه ففوق صهيون وفي السماء. «الهتاف» أي هتاف الشعب لدى الانتصار. والصور أي بواسطة الأبواق التي تعلنه أولاً (راجع ٢أخبار ٢٠: ٢٦ وما بعده).
(٦) هنا يطلب أن يزيد الشعب ترنيماً أولاً لأنه الله وبعد ذلك يكرر الطلب لأنه الملك الظافر على الشعوب كلهم. فهو يرى أن هذه الأصوات الفرحة المهللة يجب أن تتجاوب أصداؤها في كل مكان وتسمع في الأودية والناس عائدون لوطنهم ظافرين ويسيرون بخطى قوية متزنة على إيقاع الموسيقى وعلى هتاف الفرح والابتهاج بالغلبة. وتكرار الأمر رنموا هو للتوكيد ولزيادة التأثير في النفس البشرية.
(٧) وأما السبب في هذا الترنيم فجوهري وذلك لأن الله قد ملك وانتصر وملكه على الأرض كلها. لقد كانت الأفكار الضيقة ترى الله «يهوه» حاكماً على أرض إسرائيل فقط ولكن عقب هذا الانتصار على الأمم المجاورة أصبح الله هو الحاكم عليهم أيضاً ومدى سلطانه يسودهم على السوا. وأما الترنيم بواسطة قصيدة لأن ذلك يربط المعاني بعضها ببعض لأن الحوادث التي جرت تستدعي أن تدون وتحفظ على مر السنين الطوال (انظر رؤيا ١١: ١٥ - ١٨).
(٨) لقد نزل الله وحاز انتصاراً حاسماً ثم عاد للسماء من حيث جاء. وبواسطة هذا الانتصار يرى الشاعر كما بمرآة إن الله سيحكم على الأمم جميعهم وهكذا يختم تاريخ النضال والنزاع بين الأمم لأن الله مالك عليهم جميعاً.
(٩) الشرفاء في الكلمة العبرانية تفيد أولئك الذين ينتدبون للأمور الهامة فهم ممثلو الشعب والمتكلمون باسمه والساعون في سبيل خيره. هؤلاء الشرفاء قد اجتمعوا بشعب إله إبراهيم (وهو أب الآباء) لكي يفوا بالوعد الذي قطعه الله قديماً. «وبنسلك تتبارك جميع قبائل الأرض». هو الله وحده الذي له السلطان كله وهو فوق الجميع (انظر ١صموئيل ٢: ٨) والله في عرشه ينال كل المجد والتكريم من الشعوب كلهم لأنه مستحق.


اَلْمَزْمُورُ ٱلثَّامِنُ وَٱلأَرْبَعُونَ


تَسْبِيحَةٌ. مَزْمُورٌ لِبَنِي قُورَحَ


«١ عَظِيمٌ هُوَ ٱلرَّبُّ وَحَمِيدٌ جِدّاً فِي مَدِينَةِ إِلٰهِنَا جَبَلِ قُدْسِهِ. ٢ جَمِيلُ ٱلٱرْتِفَاعِ، فَرَحُ كُلِّ ٱلأَرْضِ جَبَلُ صِهْيَوْنَ. فَرَحُ أَقَاصِي ٱلشِّمَالِ مَدِينَةُ ٱلْمَلِكِ ٱلْعَظِيمِ. ٣ اَللّٰهُ فِي قُصُورِهَا يُعْرَفُ مَلْجَأً. ٤ لأَنَّهُ هُوَذَا ٱلْمُلُوكُ ٱجْتَمَعُوا. مَضُوا جَمِيعاً».
هذا المزمور هو للتهليل بالظفر وعلاقته بالمزمورين السابقين هي من جهة تعظيم اسم الرب الله فوق جميع شعوب الأرض. وإشارته إلى تكسر سفن ترشيش كناية عن اندحار الأعداء والأرجح في أيام يهوشافاط (راجع إشعياء ٣٣: ١٤ و٢١). وإذا نظرنا إلى المزمور من جهة تقسيم موضوعه فنراه يتناول ثلاثة أمور. يبدأ المرنم أولاً بحمد الله وببراعته يمجد الملك العظيم. وثانياً يصف اندحار الأعداء ورعبهم وأخيراً يتخلص إلى شكر الله وتمجيده.
(١) يبدأ المرنم بالحمد لاسم الرب لأنه يسكن المدينة المقدسة. هناك يرتفع الهيكل على رأس جبل عال بشكله الجميل وساحاته الواسعة التي تشرف على المدينة القديمة.
(٢) وارتفاعه جميل وهو جبل صهيون إذ أنه لا يعلو كثيراً ولا هو بشكل متشامخ بل أن ارتفاعه يسبب فرحاً وسروراً لكل من يراه. ولا سيما للإسرائيليين المؤمنين الذين يدخلون دياره بالحمد والصلاة أما قوله «أقاصي الشمال» فلا يعني الشمال البعيد على الخارطة في تلك الأيام كما ورد (حزقيال ٣٨: ٦ و٣٩: ٢) ولكنه يعني جبل الموريا حيثما يقوم الهيكل وخصوصاً حيثما يلتقي جبل صهيون بجبل الموريا.
(٣) الأمر المعروف بما هناك من مبان عظيمة مرتفعة (راجع مزمور ١٢٢: ٧) هو أن الله ملجأ. لا أحد يجوز له أن يشك بذلك. والبرهان يقدمه في العدد الذي يليه وهو أن الملوك الأعداء بعد أن تآمروا واجتمعوا للمكيدة إذا بهم بعد ذلك قد تفرقوا ولم ينجحوا في أي مسعى من مساعيهم الشريرة للنيل من شعب الله. والأرجح أن الكلام ينطبق على أيام حكم يهوشافاط وقت الخطر والحرب وكذلك في أيام حزقيا (راجع ١ملوك ٢٢: ٤٩ و٢أخبار ٢٠: ٣٦).
(٤) إن اجتماع هؤلاء الملوك هو للحرب وليس للسلام لقد عينوا مكاناً لاجتماعهم الذي عقدوه معاً (انظر قضاة ١١: ٢٩ و٢ملوك ٨: ٢١). إنهم اجتمعوا في تقوع على الأرجح وهي بلدة تبعد ثلاث ساعات مشياً عن أورشليم. هؤلاء الأعداء لم يكادوا يجتمعون حتى تفرقوا ومضوا وهم في حالة الرعب والهلع وكان ذلك بسرعة كلية لم تسمح لهم أن يجمّعوا أنفسهم ويتراجعوا بانتظام بل بالعكس كانت حركتهم عن خوف وبغير انتظام.
«٥ لَمَّا رَأَوْا بُهِتُوا، ٱرْتَاعُوا، فَرُّوا. ٦ أَخَذَتْهُمُ ٱلرَّعْدَةُ هُنَاكَ وَٱلْمَخَاضُ كَوَالِدَةٍ، ٧ بِرِيحٍ شَرْقِيَّةٍ تَكْسِرُ سُفُنَ تَرْشِيشَ. ٨ كَمَا سَمِعْنَا هٰكَذَا رَأَيْنَا فِي مَدِينَةِ رَبِّ ٱلْجُنُودِ فِي مَدِينَةِ إِلٰهِنَا. ٱللّٰهُ يُثَبِّتُهَا إِلَى ٱلأَبَدِ. سِلاَهْ. ٩ ذَكَرْنَا يَا اَللّٰهُ رَحْمَتَكَ فِي وَسَطِ هَيْكَلِكَ».
(٥) وكان سبب انهزامهم هو ما شاهدوه فقد خافوا هولاً عظيماً آتياً عليهم من المدينة العظمى أورشليم لأن الرب الإله يسكن هناك (١صموئيل ١٤: ١٥). وهنا المرنم ينسب هذا الأمر لما شاهدوه فيها من عظائم لذلك قال «لما رأوا بهتوا...» (انظر حبقوق ٣: ١٠) وأيضاً (هوشع ١١: ٢ وإشعياء ٥٥: ٩).
(٦) في هذا العدد زيادة وصف لما أصابهم من الرعدة والرعب حتى كأنهم أصيبوا بما يشبه المخاض كالوالدة حينا تلد. فهم في حالة خوفهم هذا يتألمون ويتعرضون لأشد المخاطر. ومعلوم أن النساء قد يلدن قبل أوانهن بسبب الخوف الشديد وما أشبه. لذلك فهو يصوّر حالة خوفهم وكيف يتعرضون لخطر الموت كما تتعرض الوالدة التي تلد قبل وقتها بسبب الظرف الخاص من الرعب وما أشبه.
(٧) يخصص هنا الريح الشرقية التي تكسر السفن. فالمرنم لا يكتفي أن يخبر عن اندحار الأعداء بواسطة الجيوش البرية بل أيضاً قد أصابهم الاندحار البحري أيضاً (راجع حزقيال ٢٧: ٢٦ وأيضاً أيوب ٢٧: ٢١) وقوله سفن ترشيش أي التي تذهب لترشيش والأرجح أسبانيا أي أبعد الأمكنة في تلك الأيام ويقصد المرنم أن يخبرنا أن الله يحطم قوتهم ويحاربهم بواسطة ما يرسله ضدهم من رياح محطمة (انظر إشعياء ٣٣) حيثما يصور إشعياء قوة أشور كسفينة جبارة.
(٨) يظهر إن ما رآه المرنم بعينه الآن قد فاق ما سمعه بأذنه من قبل. فقد فرح بأن يرى أورشليم عزيزة الجانب رفيعة الذرى قوية لا تهاب الأعداء. فقد حقق الخُبر الخبرَ (راجع أيوب ٤٢: ٥). إن الله يعضدها. ولا شك ما مرّ عليها من مصائب وضيقات بل ما أصابها من هدم وتخريب لا ينفي كونها مدينة الله العظمى. كما أن ذلك لا ينفي أن إسرائيل مختار من الله ووارث.
(٩) هنا يعود المرنم للحمد والشكران فإن الله يسمع الصلاة ويجري العدل والإنصاف ولا يتخلى عن خائفيه والراجين رحمته. لا سيما أولئك الذين يسبحون له في وسط الهيكل والأرجح هنا يعود بالذاكرة لحادثة خاصة (راجع ٢أخبار ٢٠) فقد زاد الله على أعماله الجليلة في القديم هذا العمل في الحاضر أيضاً.
«١٠ نَظِيرُ ٱسْمِكَ يَا اَللّٰهُ تَسْبِيحُكَ إِلَى أَقَاصِي ٱلأَرْضِ. يَمِينُكَ مَلآنَةٌ بِرّاً. ١١ يَفْرَحُ جَبَلُ صِهْيَوْنَ، تَبْتَهِجُ بَنَاتُ يَهُوذَا مِنْ أَجْلِ أَحْكَامِكَ. ١٢ طُوفُوا بِصِهْيَوْنَ وَدُورُوا حَوْلَهَا. عُدُّوا أَبْرَاجَهَا. ١٣ ضَعُوا قُلُوبَكُمْ عَلَى مَتَارِسِهَا. تَأَمَّلُوا قُصُورَهَا لِكَيْ تُحَدِّثُوا بِهَا جِيلاً آخَرَ. ١٤ لأَنَّ ٱللّٰهَ هٰذَا هُوَ إِلٰهُنَا إِلَى ٱلدَّهْرِ وَٱلأَبَدِ. هُوَ يَهْدِينَا حَتَّى إِلَى ٱلْمَوْتِ».
(١٠) إن اسم الله جليل عظيم كما كان في الماضي مع الآباء والجدود حتى الآن أيضاً مع الأبناء والأحفاد. وهذا الاسم يمتد الآن إلى أقاصي الأرض للتمجيد (انظر ٢أخبار ٢٠: ٢٩) ولقد برهن للجميع أنه هو الواحد الحاكم على العالمين يتصرف بها كما يشاء.
(١١) وإذا كانت معرفة الرب قد امتدت هكذا فإن أصل امتدادها هو من المركز «جبل صهيون». وإذا كانت البهجة تعم الجميع فأحرى بها أن تنشدها بنات يهوذا لأن من هناك مصدر المعرفة ومخافة الرب فلتترنم إذاً المدينة المقدسة. ولتهزج إذاً براري اليهودية ولتردد الأصداء إلى كل مكان (انظر إشعياء ٤٠: ٩ و١٦: ٢) ذلك لأن الخطر كان مداهماً وقد زال لذلك يتوجب على الجميع أن يشتركوا بفرح الخلاص هذا لأن يد الله قديرة وتعمل عظائم.
(١٢) والخطاب هنا بقوله «طوفوا بصهيون» ليس للأعداء بل للأصدقاء وأبناء البلاد. لقد انتظروا طويلاً متوقعين الأخبار المفرحة عن جيوشهم التي أرسلوها وبقوا خارج الأسوار لا يجرأون على الدخول وأما الآن فلهم أن يطوفوا فرحين مهللين ويفاخروا معدّدين الأبراج معتزين بقوّتها.
(١٣) بل إن المرنم يدعو لكي ينظروا إلى المتاريس القوية والحامية التي تنشط للذود عنها وتصد الأعداء مهما كثروا. بل هوذا القصور العالية التي تدل أيضاً على الغنى وراحة البال فكما أن المتاريس هي للدفاع فكذلك القصور هي لبسطة العيش والوجاهة والبحبوحة. وهكذا يحفطون مجدها لكي يخبروا الأجيال القادمة. فإن هذا العز والسؤدد هو مبعث الحديث للتفاخر.
(١٤) إن الله «الرحيم» هو إلهنا على الدوام. ولكن الشطر الأخير يظهر ضعفاً بقوله «يهدينا حتى إلى الموت». ولذلك يرى بعض المفسرين ان يقولوا وراء الموت أو ما بعد الموت. بل يرى البعض أن يترجم الكلمة «في زمان الشباب والفتوة». ويرى آخرون أن ختام المزمور قد ضاع ولذلك فالشطر الأخير منه مضاف ليس إلا.


اَلْمَزْمُورُ ٱلتَّاسِعُ وَٱلأَرْبَعُونَ


لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ. لِبَنِي قُورَحَ. مَزْمُورٌ


«١ اِسْمَعُوا هٰذَا يَا جَمِيعَ ٱلشُّعُوبِ. أَصْغُوا يَا جَمِيعَ سُكَّانِ ٱلدُّنْيَا ٢ عَالٍ وَدُونٍ، أَغْنِيَاءَ وَفُقَرَاءَ، سَوَاءً. ٣ فَمِي يَتَكَلَّمُ بِٱلْحِكَمِ، وَلَهَجُ قَلْبِي فَهْمٌ. ٤ أُمِيلُ أُذُنِي إِلَى مَثَلٍ، وَأُوَضِّحُ بِعُودٍ لُغْزِي».
هذا المزمور مملوء بالحكمة فهو يظهر لنا أن هذه الحياة الدنيا باطلة وخداعة وهي كذلك لجميع البشر لذلك فالناظم يدعو الناس أن يترووا في أمورهم ويأخذوا الحكمة عنه بالنسبة لسعة اختباره ومعرفته بأساليب الحياة. وهو يخاطب جميع الشعوب لذلك نضعه مع المزمورين (٤٧ و٤٨) وليس مع ما سبقه من المزامير الوطنية والتاريخية. هو واعظ يريد أن يستخرج دروساً وعبراً من الحياة تهدي الناس وتسدد خطاهم. وهو ينقسم إلى الأقسام التالية من (عدد ٢ - ٥) ويذكرنا هنا بأقوال أليهو في سفر أيوب. ثم القسم (٦ - ١٣ وبعده ١٤ - ٢١) يكاد يكونان متشابهين وفيهما قرار واحد يميزهما ويختلفان اختلافاً طفيفاً. والأرجح أن ناظمه ليس داود لأنه يتفق مع مزامير مشابهة مثل المزمورين (٤٢ و٤٣) وقد يكون ناظمها واحد يتفق بروحه مع داود.
(١) يبدأ خطابه بالتعميم لأن موضوع كلامه يتناول كل إنسان على السواء وبهذا الصدد (راجع ما خاطب به ميخا ١ملوك ٢٢: ٢٨ وميخا النبي ١: ٢). إن الحياة زائلة وأهلها يجب أن يغتنموا الفرصة لكي يستفيدوا.
(٢) وفي ترجمة أخرى «يا بني آدم. يا بني الإنسان». وتكرار النداء لأجل التوكيد واسترعاء الانتباه من الجميع. وهو يلفت نظر الأغنياء أولاً ثم الفقراء لأن الأولين يحتاجون لمثل هذا الالتفات أكثر من الجميع. لأن الغني يغتر بهذه الدنيا ويضع عليها قلبه ولا يحسب للآخرة حساباً لذلك يجب أن ينادى أولاً قبل فوات الآوان. وقوله بني الإنسان أي ذوي الوجاهة والنسب لذلك فإن الترجمة عالٍ ودون هي في محلها. لأن بني آدم هم كل الناس على السواء بلا تمييز ولكنه يخصص بعد ذلك ببني القوم المعتبرين. وهم جميعاً يجب أن يصغوا وينتبهوا.
(٣) إن الفم يتكلم بالحكم ولكن بعد أن يمتلئ القلب بالفهم لا قبل ذلك. وأما الذين يدعون الحكمة بلسانهم فقط فليسوا حكماء حقيقة. ويمكننا أن نقول لأن قلبي يلهج بالفهم لذلك فها لساني يتكلم بالحكم. والحكم يقصد بها أي أنواع التعليم بل هو ذاك التعليم الذي يجعلنا أن نعرف كيف نتصرف في الحياة. وكلمة فهم العبرانية هي قريبة للبينة في العربية أي الذي نتبينه صواباً وحقاً.
(٤) والناظم يسر بالمثل الذي هو اختبار السنين على حد القول «ألسنة الخلق أقلام الحق». بل يسر أيضاً بالألغاز التي تثير اهتمام العقل لحلها. وكان السائل على ما يظهر يضعها بقالب شعري ويغنيها على إحدى آلات الطرب.
«٥ لِمَاذَا أَخَافُ فِي أَيَّامِ ٱلشَّرِّ عِنْدَمَا يُحِيطُ بِي إِثْمُ مُتَعَقِّبِيَّ؟ ٦ ٱلَّذِينَ يَتَّكِلُونَ عَلَى ثَرْوَتِهِمْ، وَبِكَثْرَةِ غِنَاهُمْ يَفْتَخِرُونَ. ٧ ٱلأَخُ لَنْ يَفْدِيَ ٱلإِنْسَانَ فِدَاءً، وَلاَ يُعْطِيَ ٱللّٰهَ كَفَّارَةً عَنْهُ. ٨ وَكَرِيمَةٌ هِيَ فِدْيَةُ نُفُوسِهِمْ، فَغَلِقَتْ إِلَى ٱلدَّهْرِ ٩ حَتَّى يَحْيَا إِلَى ٱلأَبَدِ فَلاَ يَرَى ٱلْقَبْرَ. ١٠ بَلْ يَرَاهُ! ٱلْحُكَمَاءُ يَمُوتُونَ. كَذٰلِكَ ٱلْجَاهِلُ وَٱلْبَلِيدُ يَهْلِكَانِ، وَيَتْرُكَانِ ثَرْوَتَهُمَا لآخَرِينَ».
(٥) يسأل نفسه لماذا يخاف وهنا للإنكار أي لا يجوز الخوف مطلقاً. ولو كان أعداؤه قوماً أشراراً يريدون الإيقاع به وأذيته. وقوله «يحيط بي» أي يطوّقه من كل جانب فلا يدري أين يتقي. ثم أن هؤلاء الأعداء يتعقبونه ويطاردونه هم وراءه أينما ذهب فلا يهدأ له بال ولا يستقر عل حال حتى يجد نفسه طريداً وكل شيء شر حواليه.
(٦) هؤلاء الأعداء ليسوا من عامة القوم ولا من الفقراء وإلا لهان الأمر وإنما هم أعداء أقوياء لهم مكانتهم الاجتماعية ويستعملون نفوذهم وغناهم في سبيل نيل مآربهم الشخصية. يرون في الثروة سبيلاً للعزة والكرامة وهم يعبدون الرب الثاني المال. ويفاخرون الآخرين بما لديهم من أموال طائلة.
(٧) كان من المنتظر أن يقول المرنم أن المال لا يفدي الإنسان فما باله يقول إن الأخ لا يفدي ولا يكفر. وفي الترجمة اليسوعية يقول «لا يفتدي أحد أخاه أصلاً ولا يعطي لله كفارة عنه». والقصد في الآية بالفدية والكفارة أن يتخلص الإنسان من الموت. وقد يكون المعنى أن الإنسان بكل ماله لا يستطيع أن يفدي أحداً حتى أيضاً لا يستطيع أن يكفر عن نفسه أو يفديها. أو يكون المعنى أن الإنسان لا يستطيع أن يفدي آخر ولكن الله وحده هو الذي يفدي.
(٨) ونجد تفسير ذلك في قوله «كريمة هي فدية نفوسهم...» أي أنها ثمينة بهذا المقدار حتى لا فدية لها قط. وإنها من نوع لا يمكن افتداؤه مهما كان الثمن المادي عظيماً. ذلك لأنها روح ولا شيء في الدنيا كلها يوازيها.
(٩) هنا يبين الغرض من الفدية أي أن يخلص نفسه من الموت ويحيا إلى الأبد وهنا يتصور المرنم أن الحياة إلى الأبد تعني أن الإنسان لا يموت موت الجسد ولم تكن أية فكرة من جهة الخلود للنفس التي تبقى مع الله. لذلك فمن الجهالة المطبقة أن يحسب الغني أن بغناه يستطيع أن يحوّل الموت عنه وهذا مستحيل المنال.
(١٠) وهنا يؤكد حالاً بقوله بل يراه ثم يستوي في هذا المصير المحتوم كل الناس الفهماء والجهلاء لا فرق كما الغني والفقير العظيم والحقير. وبعد الأراضي الواسعة يأتي القبر الضيق كما بعد الادعاء بالحياة والتلذذ بخيراتها يأتي الموت بأصابعه الباردة وعريه وفقره وتعاسته. ثم أن هذه الثروة يتركها وارءه الآخرين ولا يستطيع أن يأخذ منها شيئاً معه.
«١١ بَاطِنُهُمْ أَنَّ بُيُوتَهُمْ إِلَى ٱلأَبَدِ، مَسَاكِنَهُمْ إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ. يُنَادُونَ بِأَسْمَائِهِمْ فِي ٱلأَرَاضِي. ١٢ وَٱلإِنْسَانُ فِي كَرَامَةٍ لاَ يَبِيتُ يُشْبِهُ ٱلْبَهَائِمَ ٱلَّتِي تُبَادُ. ١٣ هٰذَا طَرِيقُهُمُ ٱعْتِمَادُهُمْ، وَخُلَفَاؤُهُمْ يَرْتَضُونَ بِأَقْوَالِهِمْ. سِلاَهْ. ١٤ مِثْلُ ٱلْغَنَمِ لِلْهَاوِيَةِ يُسَاقُونَ. ٱلْمَوْتُ يَرْعَاهُمْ، وَيَسُودُهُمُ ٱلْمُسْتَقِيمُونَ. غَدَاةً وَصُورَتُهُمْ تَبْلَى. ٱلْهَاوِيَةُ مَسْكَنٌ لَهُمْ. ١٥ إِنَّمَا ٱللّٰهُ يَفْدِي نَفْسِي مِنْ يَدِ ٱلْهَاوِيَةِ لأَنَّهُ يَأْخُذُنِي. سِلاَهْ».
(١١) إذا لم يقولوا جهراً أمام الناس فلا شك يقولونه سراً أن بيوتهم هي لهم إلى الأبد. من يستطيع أن يأخذها من أيديهم؟ هي باسمهم مطوبة ومسجلة في دفاتر الحكومة لا أحد في الدنيا ينازعهم السيادة عليها (راجع ٢صموئيل ١٢: ٢٨ و١ملوك ٨: ٤٣ وعاموس ٩: ١٢). إن هذا الجاه العالمي العريض سوف يزول كما يزول أصحابه ولا يبقى منه سوى القبر الضيق.
(١٢) أرى أن الترجمة هنا حرفية أكثر من اللازم ويا ليته قال «الإنسان لا يبيت في كرامة». أي أن مصيره لغير الكرامة والمجد بل للزوال والاضمحلال. ومصير جسده مثل مصير أجساد الحيوانات التي تباد ولا تبقى (انظر أيوب ٣٠: ١٩). وهؤلاء الناس المعتمدون على غناهم ومجدهم يشبهون البهائم من جهة اهتمامهم بالدنيا ما هو للدنيا لذلك فلا عجب أن يصيبهم ما يصيب البهائم.
(١٣) إن هؤلاء سيكون ذهابهم للهاوية حيثما يضمحلون بينما الصالحون فلهم البقاء مع الله. في قوله هذا طريقهم رجوع للعدد ١٢ في كلامه إن حياة الناس الذين بلا كرامة حقيقية (انظر حجي ١: ٥) هم أناس مغرورون بأنفسهم لا يقبلون نصيحة من أحد ولا يرعوون عن غيهم. إن الاتكال على النفس فضيلة إذا لم يخرج عن حده أما إذا زاد فهو العصيان والتمرد على الله. والذين يأتون بعدهم ويسيرون سيرتهم ويمشون في خطواتهم يقبلون أقوالهم ويثقون بها (انظر قضاة ٩: ٣٨). والموسيقى سلاه تضرب بقوة لأنها تنعي حماقة هؤلاء الناس الذين ما لهم في الحياة سوى القشور.
(١٤) ينزل هؤلاء للهاوية كما تساق الغنم للذبح. والراعي هنا لا يقودهم لأرض الأحياء حيث المراعي الخضر ومياه الراحة بل يقودهم للموت والفناء. حينئذ يبدأون بالخسارة والخذلان وهكذا يبدأ المستقيمون بالفوز والسيادة. إذا بالصباح يشرق عليهم للهلاك والدمار. فهو ليس الصباح للذهاب للمراعي والحياة بعد بل للمسلخ والموت. وأخيراً يسكنون في الهاوية.
(١٥) يعود فيقابل نفسه مع هؤلاء الهالكين فيجد أن الله لا يرضى بهلاك المؤمن بل ينجيه من يد الهاوية ويأخذه من بينهم ويفديه ويخلصه. نعم هذا هو نصيب المؤمن وهذا هو جزاء إيمانه بالله مخلصه. هو لا يرى خلاصه بماله ولا بكل تقدمة هذه الدنيا الفانية الزائلة بل بما يتناوله من يد الله القدير.
«١٦ لاَ تَخْشَ إِذَا ٱسْتَغْنَى إِنْسَانٌ، إِذَا زَادَ مَجْدُ بَيْتِهِ. ١٧ لأَنَّهُ عِنْدَ مَوْتِهِ كُلُّهُ لاَ يَأْخُذُ. لاَ يَنْزِلُ وَرَاءَهُ مَجْدُهُ. ١٨ لأَنَّهُ فِي حَيَاتِهِ يُبَارِكُ نَفْسَهُ. وَيَحْمَدُونَكَ إِذَا أَحْسَنْتَ إِلَى نَفْسِكَ. ١٩ تَدْخُلُ إِلَى جِيلِ آبَائِهِ ٱلَّذِينَ لاَ يُعَايِنُونَ ٱلنُّورَ إِلَى ٱلأَبَدِ. ٢٠ إِنْسَانٌ فِي كَرَامَةٍ وَلاَ يَفْهَمُ يُشْبِهُ ٱلْبَهَائِمَ ٱلَّتِي تُبَادُ».
(١٦) يلتفت الناظم الآن من الشعر الغنائي إلى الموعظة والعبر. فيقدم نصيحة عن عدم الاهتمام بالغنى. أما عدم الخشية من غنيّ على هذه الصورة فذلك لأنه عادة يحاول أن يستعبد الفقير ويستغله لمنفعته الخاصة بل أنه يعامله بالقسوة والغلظة ويدوس حقه ولا يوصله يوماً إلى الواجبات المفروضة نحوه كأخ في البشرية. ولكن المؤمن لا يجوز أن يخشى منه مهما كان الأمر لأن فوق العالي عالياً هو الرب العظيم خالق السموات والأرض. وقوله «مجد بيته» أي كل مظاهر العز الأرضي وبسطة العيش والبحبوحة.
(١٧) هذا هو سبب عدم الاعتداد بالنفس لئلا نكون مثل ذلك الغني الغبي (لوقا ١٢: ١٩). أو مثل ذلك الغني في مثل أليعازر الذي استوفى خيراته على الأرض ولم يهتم بما للسماء (لوقا ١٩: ٢٥). إن الإنسان لا شك سيترك كل شيء وراءه ويذهب وإنما أعماله تتبعه لكي تقف أمام الله لأجل الدينونة (انظر وقابل رؤيا ١٤: ١٣). وإن مجد الإنسان لا يمكن أن ينزل معه للحفرة مهما حاول المشيعون للجنازة أن يفعلوا ذلك.
(١٨) وإنما البركة والكرامة ينالهما الإنسان طالما هو في الحياة الدنيا. وما يصنعه من خير مع الآخرين يعود إلى نفسه أولاً فليطمئن إذاً كل من يفعل المعروف ولا ينال جزاءه حالاً فليس المعنى أن لا جزاء له قط وأن الناس ينكرون الجميل ويجحدونه. ويكفي الإنسان راحة ضميره وشعوره بأنه قد أتم الواجب عليه أشكره الناس أم لم يشكروه. ولا شك أن الناس يحمدون ذلك الشخص المحسن إلى نفسه. لأن الخير الحقيقي أول شخص يُكافأ عليه هو فاعله.
(١٩) ولكن هذا الإنسان المحب لذاته المتمتع بغناه الذي ينال المديح والإطراء طالما هو في مجد وكرامة لا شك سيأتيه يوم يفارق فيه هذه الحياة وينضم لجماعة الأموات الراحلين إلى الآباء والجدود وسيصيبه ما أصابهم. ولن يرى عندئذ نوراً ولا مجداً ولا كرامة بعد الموت. إذاً حينئذ يعرف ذاته أنه قد أساء ولم يعش كما ينبغي كإنسان عاقل متعبد لله سامع لوصاياه بل حسب أن كل شيء له ويخضع لإرادته وسلطانه.
(٢٠) وهوذا يأتيه القصاص العادل ويحسب كالبهائم فلم يفهم كيف يربح الحياة الأبدية فعاش لهذه الدنيا ومات في سبيلها فقط «ولكن ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العلم كله وخسر نفسه...». وعندئذ أي فرق يا ترى بين إنسان على هذه الصورة والحيوان الأعجم الذي لا يفهم. هوذا هو قد باد لأنه عاش للتراب ولم يعش للروح فكان كأنما بدون روح كالبهائم التي تباد ولا تذكر فيما بعد.


اَلْمَزْمُورُ ٱلْخَمْسُونَ


مَزْمُورٌ لآسَافَ


«١ إِلٰهُ ٱلآلِهَةِ ٱلرَّبُّ تَكَلَّمَ، وَدَعَا ٱلأَرْضَ مِنْ مَشْرِقِ ٱلشَّمْسِ إِلَى مَغْرِبِهَا. ٢ مِنْ صِهْيَوْنَ، كَمَالِ ٱلْجَمَالِ، ٱللّٰهُ أَشْرَقَ. ٣ يَأْتِي إِلٰهُنَا وَلاَ يَصْمُتُ. نَارٌ قُدَّامَهُ تَأْكُلُ وَحَوْلَهُ عَاصِفٌ جِدّاً. ٤ يَدْعُو ٱلسَّمَاوَاتِ مِنْ فَوْقُ وَٱلأَرْضَ إِلَى مُدَايَنَةِ شَعْبِهِ. ٥ ٱجْمَعُوا إِلَيَّ أَتْقِيَائِي ٱلْقَاطِعِينَ عَهْدِي عَلَى ذَبِيحَةٍ».
هذا أحد المزامير التي تحمل اسم آساف بأنه ناظمها. ويظهر أن آساف هذا علاوة على كونه أحد أئمة المغنين الذين كانوا ينقسمون إلى هامان ثم آساف ثم أثان كان شاعراً روحياً من الطراز الأول (راجع ٢أيام ٢٩: ٣٠) وكذلك (نحميا ١٢: ٤٦). وله اثنا عشر مزموراً كلها تحمل اسمه ومزاميره هي «إلهية» أكثر مما هي «ربية». ويميل لكلمة العلي في أحيان كثيرة. ولهذه المزامير صفة خاصة بأنها تصور الله يتكلم قاضياً للشعب وللعالم. ثم أيضاً إذا دققنا نظرنا بها نجد أنها تشير إلى يوسف وإلى نسله كثيراً ومن ناحية أخرى تذكر أن الله يرعى شعبه كما يفعل الراعي بخرافه (انظر مزمور ٧٤ و٥٠ و٧٧: ٢١ و٧٨: ٥٢ وقابلها مع المزامير ٧٠ - ٧٢ وأيضاً مزمور ٧٩: ١٣ و٨٠: ٢). ونجد ترديداً متواصلاً للفكرة أن الله لا يرضى بالذبائح الحيوانية بل يهمه القلب وما يقدمه من عبادة روحية مقبولة وهنا مراجعة لما ورد في (١صموئيل ١٥: ٢٢). وقد نحسب صموئيل أباً روحياً لمثل هذه الأفكار في المزامير. ونجد هذه الفكرة تصل للأوج في أقوال إرميا النبي الذي كان من سبط لاوي وكاهناً ومع ذلك تكلم ضد العبادة الطقسية بأجلى وضوح وأعظم بيان (انظر ٧: ٢٢ وما يليه).
(١) نجد أن اسم ذي الجلالة موضوع بشكل متكرر يلفت الأنظار وليس من الضرورة ترجمة هذه الكلمات إله الآلهة الرب هكذا. بل الكلمة الأولى تفيد الكلي القدرة والثانية إلوهيم تفيد صاحب الإكرام والعزة والجلال بينما يهوه تفيد معنى الكائن الذي يجعل التاريخ حسب قصده وطبقاً لمشيئته. وهو يدعو الأرض كلها لتكون شاهدة عل حكمه العادل على شعبه المتعاهد معه. إن الكلام الإلهي يتناول جميع سكان المسكونة لذلك يريد الناظم أن يسمعوه.
(٢) أي إن الله يشرق في هيكله المقدس القائم على جبل صهيون وقوله «كمال الجمال» أي الكامل بجماله ولا مزيد عليه لمستزيد. ويظهر أن النوافذ الشرقية في الهيكل كانت مبنية على شكل يسمح للنور أن يدخل في الصباح ويملأ الهيكل بالبهاء والسناء مما يزيد الشمس إشراقاً جديداً في داخل المكان المقدس (راجع المراثي ٢: ١٥). وقد تكون الترجمة أيضاً «إن من صهيون قد أشرق بكمال جماله» فيكون كمال الجمال لله سبحانه وليس لجبل صهيون. وفي الترجمة اليسوعية يقول «من صهيون ذات الجمال الكامل...».
(٣) يحضر الله أمام شعبه وهو الذي أعطاهم الشريعة ولم يحفظوها وسن لهم النواميس ولم يمشوا عليها. وهو يقاص أولاً بالكلام حتى إذا لم يسمعوا يعود فيقاصهم بالأعمال. ويظهر لهم الآن كما في جبل سيناء وإذا نار قدامه تأكل وحوله الرياح العاصفة. وهو بصوت شديد قوي ينادي شعبه لكي يرعووا عن غيهم ويرجعوا إليه.
(٤) يدعو أهل السموات والأرض ليكونوا شهوداً على دينونة شعبه. هو لا يريد قصاصهم سراً بل علانية ليكونوا عبرة للمعتبرين. ويستبعد أن يكون المعنى أن السموات والأرض تدعو لشعبه للدينونة بل ليكونوا شهوداً (انظر تثنية ٤: ٢٦ و٣٢: ١ وإشعياء ١: ٢). بينما نجد في العهد الجديد أن الملائكة خدامه أكثر مما هم شهود على شعبه (انظر متّى ٢٤: ٣١).
(٥) والذين يدعون للاجتماع هم جماعة المؤمنين «الأتقياء» وقد يكون ذلك من باب التسمية فقط وليس من الضروري أن يكون بالحقيقة. أو أنه قد يكون من باب التهكم فيذكر أنهم أتقياء وقاطعوا عهد وهم بالحقيقة ليسوا أتقياء وينكرون العهود التي قطعوها. لقد حاول هؤلاء الأتقياء أن يتظاهروا بالتقوى ويتمموا طقوسها فكانوا يذبحون الذبائح المطلوبة منهم في أوقاتها ولكن أين إيمانهم مما يفعلون؟
«٦ وَتُخْبِرُ ٱلسَّمَاوَاتُ بِعَدْلِهِ، لأَنَّ ٱللّٰهَ هُوَ ٱلدَّيَّانُ. سِلاَهْ.٧ اِسْمَعْ يَا شَعْبِي فَأَتَكَلَّمَ. يَا إِسْرَائِيلُ فَأَشْهَدَ عَلَيْكَ. اَللّٰهُ إِلٰهُكَ أَنَا. ٨ لاَ عَلَى ذَبَائِحِكَ أُوَبِّخُكَ، فَإِنَّ مُحْرَقَاتِكَ هِيَ دَائِماً قُدَّامِي. ٩ لاَ آخُذُ مِنْ بَيْتِكَ ثَوْراً، وَلاَ مِنْ حَظَائِرِكَ أَعْتِدَةً. ١٠ لأَنَّ لِي حَيَوَانَ ٱلْوَعْرِ وَٱلْبَهَائِمَ عَلَى ٱلْجِبَالِ ٱلأُلُوفِ».
(٦) وتخبر هنا تفيد معنى تشهد. إن المتكلم كما رأينا في العدد الخامس «اجمعوا إليّ أتقيائي» هو الله «إلههم» الذي له حق أن يقف وجهاً لوجه ضد إسرائيل لأنه هو الرب العظيم الديان. وهنا يذكرهم بشخصه كما في (حزقيال ٢٠: ٢) حينما أعطيت الشريعة الإلهية للشعب من على جبل سيناء. وقوله «السموات» لكي يقابل الكلام بسابقه حينما يخاطب البشر سكان الأرض إذا به يريدهم أن يسمعوا ما تقوله السماء. والواجب أن يسمعوا لئلا يقعوا تحت طائلة القصاص والدينونة.
(٧) هذا الإله العظيم يبدأ بالكلام مخاطباً شعبه وعليهم أن ينتبهوا ويصغوا وبعد أن ذكره بأنه شعبه الخاص عاد أيضاً فأطلق عليه اسمه زيادة في التنبيه. وأراد أولاً الكلام ولكنه في الثاني طلبه للشهادة ضده. وعليه فقط أن يسمع ذلك. وأما موضوع التهمة التي يوجهها الله ضد شعبه فهو الخيانة إذا اتخذوا لأنفسهم آلهة من دون الله وهو الإله المحب الغيور.
(٨) في هذا العدد شيء كثير من روح النبوءة ضد الطقوس وتتميم الرسوم والفرائض الخارجية. ويظهر أن الشعب كان محافظاً على عبادته الطقسية فقدم الذبائح وأصعد المحرقات ولكنه لسوء الحظ قد ترك ما هو أعظم من ذلك كثيراً وهو روح العبادة المخلصة والثقة الحقيقية بانصراف القلب عنه تعالى إلى أشياء أخرى وعبادات باطلة. مع أن الله عليم بكل ما يجري ولا تفوته أدق الأمور لذلك فإن خدع الإنسان الله فما يخدع سوى نفسه فقط.
(٩) إن الله غني بذاته عن كل ما خلقه. وكل شيء يحتاج الله وهو تعالى لا يحتاج لشيء. وهنا يقول أنه لا يأخذ ثور إنسان ولا أعتدة أي تيوس. إذ أن الذبيحة المقدمة لله إنما يرضى عنها فقط ويشتم رائحتها ويبارك الإنسان مقدمها على نسبة روحه التقوية وهذا ليس لأنه تعالى يحتاج لأي طعام كما كان يفتكر الإنسان الفطري القديم.
(١٠) إن مالك الملك العظيم الذي هو وحده يملك حيوانات البرية جميعها أيضاً. كما أنه يملك البهائم والوحوش الضواري وكل أنواعها المنتشرة في سفوح الجبال والوديان والسارحة طلباً للقوت. وقوله على الجبال الألوف أي على ألوف الجبال. وقد تكون الترجمة أيضاً والبهائم على جبالها لأنه قد تكون ألوف الأخيرة بمعنى ثور وتكون حرفياً هكذا «والبهائم على جبال الثيران». والقصد هنا على كل حال أن يرى اتساع ملك الله وكيف أنه يضم هذه المخلوقات كلها.
«١١ قَدْ عَلِمْتُ كُلَّ طُيُورِ ٱلْجِبَالِ، وَوُحُوشُ ٱلْبَرِّيَّةِ عِنْدِي. ١٢ إِنْ جُعْتُ فَلاَ أَقُولُ لَكَ لأَنَّ لِي ٱلْمَسْكُونَةَ وَمِلأَهَا. ١٣ هَلْ آكُلُ لَحْمَ ٱلثِّيرَانِ أَوْ أَشْرَبُ دَمَ ٱلتُّيُوسِ؟ ١٤ اِذْبَحْ لِلّٰهِ حَمْداً، وَأَوْفِ ٱلْعَلِيَّ نُذُورَكَ، ١٥ وَٱدْعُنِي فِي يَوْمِ ٱلضِّيقِ أُنْقِذْكَ فَتُمَجِّدَنِي».
(١١) إن الله عليم بكل شيء لذلك فهو يعلم جميع الطيور الأليفة منها والبرية على السواء (انظر متّى ١٠: ٢٩). كذلك فله وحوش البرية فهي مستوطنة في حمى الله الواسع الذي يشمل العالم كله. وهذه عنده أي في متناول عنايته السرمدية (انظر أيوب ٢٧: ١١ و١٠: ١٣).
(١٢) وهل يشبه الله الإنسان بحاجته للطعام؟ ثم أليس له المسكونة كلها يتصرف بها كيف شاء. فهو لا يجوع ولا يحتاج لأن منه البركات جميعها. هو الخالق المبدع وهو المدبر والمعتني بكل شيء.
(١٣) وهنا يتساءل هل الله يهتم بالذبائح بالنسبة لأنه يأكل هذه اللحوم ويتغذى بها كما يفعل الإنسان؟ وهل شرابه من دمائها يا ترى؟ وهنا إشارة إلى ما كان يفعل بالذبائح من جهة لحمها ودمها. وكان الدم يرش ويسكب تقدمة ثمينة لله. وكان الإنسان القديم يعتقد أن الحياة في الدم ذاته لذلك كان يسكبه أمام الله بصفته أنه أثمن شيء يقدم لله.
(١٤) ولكن ما نفع هذه الذبائح المقدمة؟ وما أهمية هذا الدم المراق؟ فيلتفت المرنم إلى جوهر العبادة ولباب الدين ويخبرنا أن الذبح المقبول هو الحمد والتسبيح. إن العبادة هي ما يتناول القلب والضمير وينير الأفكار والحياة. لقد كانت الذبائح الطقسية هامة جداً (راجع لاويين ٧: ١١ - ١٥ وأيضاً لاويين ٧: ١٦). ولكن في هذا العدد يوجه قلب الإنسان لمطلب أدبي أسمى من المطالب المادية جميعها. بل يطلب أن يقدم الإنسان بما يتعهد به ويوفي الوعود والنذور.
(١٥) وإذا تممنا هذه العهود ووفينا بالنذور بكل أمانة وإخلاص حينئذ نجد أن هذه الديانة الحقة ترافقنا في حياتنا اليومية. حينما يأتينا الضيق نجد أنفسنا مدفوعين بعامل الخشوع والورع أن ندعو الله وهو يخلصنا إلى التمام وينقذنا من جميع ضيقاتنا (انظر أمثال ٢١: ٣) فترى بذلك ما يقوله الحكيم في أمثاله ثم انظر (هوشع ٦: ٦ وميخا ٦: ٦ - ٨ وإشعياء ١: ١١ - ١٥) وأيضاً في مواضيع كثيرة غيرها نجد أن الأنبياء قد فهموا معنى الديانة الحقة وأظهروا للناس ما يريد الله من شعبه حتى نصل أخيراً إلى قول السيد المسيح «اَللّٰهُ رُوحٌ. وَٱلَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِٱلرُّوحِ وَٱلْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا» (يوحنا ٤: ٢٤).
«١٦ وَلِلشِّرِّيرِ قَالَ ٱللّٰهُ: مَا لَكَ تُحَدِّثُ بِفَرَائِضِي وَتَحْمِلُ عَهْدِي عَلَى فَمِكَ، ١٧ وَأَنْتَ قَدْ أَبْغَضْتَ ٱلتَّأْدِيبَ وَأَلْقَيْتَ كَلاَمِي خَلْفَكَ. ١٨ إِذَا رَأَيْتَ سَارِقاً وَافَقْتَهُ وَمَعَ ٱلزُّنَاةِ نَصِيبُكَ. ١٩ أَطْلَقْتَ فَمَكَ بِٱلشَّرِّ وَلِسَانُكَ يَخْتَرِعُ غِشّاً».
(١٦) هنا يبدأ بالشكوى على الأشرار الذين يجاهرون بشرهم ولا يستحون من حالة سيئة وصلوا إليها ومع ذلك فهم هنا يتظاهرون بإتمام الفرائض ويضعون في أفواههم كلاماً لا ينطبق على حقيقة حالهم. هم أناس لهم ديانتهم الخاصة أو طائفتهم الدينية الخاصة التي تخدم مصالحهم الذاتية دون أي عمق في الحياة الروحية الحقة. هم الذين قد يقومون ببعض الحسنات ويتممون ظاهرياً ما يأمر به الدين ولكن هذا لا ينطبق على حقيقة حالهم الروحية لأن أعمالهم تخالف تقواهم الظاهرية مخالفة صريحة. وقوله «ما لك تحدث الخ» هنا استفهام التوبيخ وإن الله لا يتعرفهم ولا يقبل فرائضهم قط.
(١٧) وحالة هذا الشرير هي هكذا لأمرين: الأول لأنه أبغض التأديب أي لم يتعظ بالحوادث التي مرت عليه ولم يستفد لكي يرجع عن غيه إلى الصواب ولم يصلح نفسه مما ارتكبه من الأخطاء. والثاني لأنه ألقى كلام الله خلفه بدلاً من أن يضعه قدامه (راجع إشعياء ٤٨: ١٧). لكي يكون للتأديب أثره الفعال في النفس علينا أن نقبله ونعتبره درساً ثميناً وإن يكن صعباً بعد الأحيان لكي نستفيد في حياتنا الروحية (انظر ٢تيموثاوس ٣: ١٦ و١٧). هكذا علينا أن نتبع كلام الله.
(١٨) يبدأ بتعداد المخالفات التي يخالف بها الشرير وصايا الله تعالى. وإذا المخالفة الأولى تتناول كسر الوصية الثامنة فهو يسرق ويوافق السارقين على أفعالهم الشنيعة. ثم يخالف الوصية السابقة إذ هو بين الزناة الفاسقين أيضاً. هاتان الرذيلتان تتناولان الأعمال الشريرة التي تعتدي على حقوق الآخرين أو شرفهم وكرامتهم. فالسارق ينهب المال وأما الزاني فينهب الشرف ويعتدي على أقدس ما يملكه الإنسان وهو عرضه وإباؤه.
(١٩) وهنا يتابع وصف الشرير فهو لا يكتفي بأعماله القبيحة واعتدائه بل هو شرير أيضاً بلسانه فقد أطلق فمه بالقدح والمذمة والاغتياب والنميمة. وفي هذا مخالفة أخرى لوصايا الله (الوصية التاسعة) «لا تشهد على قريبك شهادة زور...» (انظر لاويين ١٩: ١٤) فهذا الشرير يتناول الهزء بالناس والتعريض والنكاية بهم ولا يهمه في الأمر شيئاً سوى التشفي والانتقام. وأغلب كلامه إن لم يكن كله هو من باب الكذب والافتراء وانتهاك حرمة الناس والحط من كرامتهم.
«٢٠ تَجْلِسُ تَتَكَلَّمُ عَلَى أَخِيكَ. لٱبْنِ أُمِّكَ تَضَعُ مَعْثَرَةً. ٢١ هٰذِهِ صَنَعْتَ وَسَكَتُّ. ظَنَنْتَ أَنِّي مِثْلُكَ. أُوَبِّخُكَ وَأَصُفُّ خَطَايَاكَ أَمَامَ عَيْنَيْكَ. ٢٢ ٱفْهَمُوا هٰذَا يَا أَيُّهَا ٱلنَّاسُونَ ٱللّٰهَ، لِئَلَّا أَفْتَرِسَكُمْ وَلاَ مُنْقِذَ. ٢٣ ذَابِحُ ٱلْحَمْدِ يُمَجِّدُنِي، وَٱلْمُقَوِّمُ طَرِيقَهُ أُرِيهِ خَلاَصَ ٱللّٰهِ».
(٢٠) ومما يزيد في الجرم هو أن هذه الشرور موجهة إلى أخيه وابن أمه فبدلاً من أن يبادله المودة ويعاونه على احتمال مصائب الحياة إذا به سبب عثرة وانحطاط. وفي جلوسه على هذه الصورة دليل الكسل والبطالة فهو إذاً من أولئك الناس الذين يتكلمون كثيراً ويلقون الكلام على عواهنه غير حاسبين للعواقب حساباً. وقوله ابن أمك ولم يقل ابن أبيك فقط دليل الزيادة في القربى فهو لحمك ودمك أي ابن أبيك وأمك إذ كانت العادة أن يتزوج الرجل أكثر من امرأة واحدة (انظر رومية ٢: ١٦ - ٢٤).
(٢١) هنا ينتهي المرنم وهو يتكلم باسم الرب من تعداد شرور الخاطئ وآثامه في الفكر والقول والعمل ثم يقول له مع ذلك كله قد سكت عنك ولم أحسابك عما اقترفته ولكن لم ترعو فبدلاً من أن ترى وتفهم معنى حلم العلي تماديت في الإثم وظننت الإله العظيم مثلك. وما أكثر الخطايا التي يقترفها الناس لحسبانهم متوهمين أنه هكذا يريد الله فيفسرون الأشياء على غير حقيقتها ويجعلون الله مسؤولاً عن جرائم هم ارتكبوها. ولكن يعود المرنم للتوبيخ ولإزالة الوهم العالق في الذهن ويرى إن أفضل شيء لرجوع الخاطئ هو أن يرى هذا الخاطئ ذنبه ويتوب عنه وبدون التوبة الحقيقية لا يمكن أن يكون غفران.
(٢٢) وبكل قوة وبلاغة يلتفت الناس جميعاً وبطريقة بليغة بارعة يريدهم أن يرجعوا إلى إلههم. ذلك لأنهم قد نسوا ما هم فيه وتعلقوا بأوهام لا قبل لهم على الخلاص منها. وإذا استمروا في غوايتهم ولم يرعووا عن جهلهم فإن الله لا يتراجع عن إنزاله بهم أشد العقوبة والقصاص وكأنه يفترسهم كما يفعل الأسد. في هذين العددين الأخيرين يصل للخلاصة وعادة تحوي الخلاصة أسمى ما يريد الكاتب أو المتكلم أن يتركه في قلوب السامعين.
(٢٣) وهنا يعود للجهة الإيجابية فإن كان الناس لا يفهمون يقعون إذاً تحت القصاص ولكن المؤمن الحقيقي يمجد الله بسيرته وأفعاله وحينئذ إذا عاش شريفاً وسار مستقيماً في طريق الحياة فله الخلاص والسعادة. إن الذي يتطلع مستقيماً ولا اعوجاج في طريقه فهو لا شك سينظر إلى بعيد ويتضح أمامه الهدف. وهنا يسمو المرنم في تفكيره سمواً عظيماً ويراجع ما أورده في العدد ١٤ من المزمور ذاته. إذ يترك في ذهن القارئ ما يريد أن يصف به معنى الديانة الحقة التي تتناول الحياة لا الظواهر وتؤثر في القلب لا في إتمام المراسيم الخارجية.