مقدمة

سفر المزامير

المزامير بلا مراء من أجمل أسفار الكتاب المقدس وقلما تضارعها الأسفار الأخرى بالأهمية وسمو التعاليم والأفكار وعمقها. وهي توحد بين القديم والجديد لا سيما وإن السيد المسيح كان يأخذ الكثير من اقتباساته من هذا السفر الجليل. وتسمى بالعبرانية «تهاليم» أي تهاليل من كلمة هلل التي منها هللويا الشهيرة في كل اللغات ومعناها سبحوا الرب. فتهاليم أي تسابيح أو ترانيم أو تراتيل وما أشبه ألفت ورنمت خلال قرون طويلة وجرت على الألسنة قبل أن تُكتب. وفي أصل معنى الكلمة الشكر والاعتراف بالجميل. ويمكننا أن نقول إن هذه المزامير قد استعملت في خدمة العبادة في الهيكل قديماً للترنم بها أو قراءتها بالتبادل أو بصورة اعتيادية لأجل التأملات الروحية والصلوات الانفرادية.
والمزامير ليست سفراً واحداً ولم تنظم دفعة واحدة. وحتى أن اليهود أنفسهم كانوا قد قسموه إلى خمسة أجزاء هي هكذا:

  • الجزء الأول: من المزمور الأول حتى الحادي والأربعين.
  • الجزء الثاني: وهو من المزمور الثاني والأربعين حتى الثاني والسبعين.
  • الجزء الثالث: من المزمور الثالث والسبعين حتى التاسع والثمانين.
  • الجزء الرابع: من المزمور التسعين حتى المئة والسادس.
  • الجزء الخامس: وهو الأخير من المزمور المئة والسابع حتى الآخر.


هو كتاب شعري غنائي من الطراز الأول لا وزن له خاص ولا قوافي خاصة به بل كان يأتي على أشكال مختلفة متنوعة وبمقاطع متباينة فيها اهتمام خاص بالمعاني والأفكار ويمكننا أن نعتبر هذا إنه كمال فن الشعر الغنائي. وكان يستعمل في الهيكل والمجمع على السواء بالطريقة ذاتها التي نستعمل فيها كتب الترتيل اليوم في كنائسنا. وإن يكن في القديم أقل ترتيباً وانتظاماً في استعمالها من قبل الشعب بل يكاد استعمالها يكون محصوراً في أجواق المرنمين المختصين في الهيكل.
وقد كتبت هذه المزامير ونقحت مرة بعد مرة خلال قرون متطاولة في القدم قبلما وصلت إلى حالتها الحاضرة. وقد نظمت واستعملت لحالات ودواع خاصة ولأيام أعياد ومواسم معلومة. وكما كانت الشريعة بما فيها من تفصيل القرابين والتقدمات ضرورية ولازمة للعبادة هكذا كانت المزامير أيضاً وقد وضعت في فاتحة الكتابات «كتوبيم» لتكميل العبادة الطقسية وتجميلها.
وأغلب ما ورد من هذا الشعر الغنائي هو بشكل الموازاة فينقسم البيت مثلاً إلى شطرين متوازيين متعادلين متقاربين في المعنى مثل قوله:
الرب نوري وخلاص ممن أخاف
الرب حصن حياتي ممن أرتعب
أو متعاكسين في قوله:
لأن الرب يعلم طريق الأبرار
أما طريق الاشرار فتهلك
أو بقصد توكيد المعنى كما في:
بصوتي إلى الرب أصرخ
بصوتي إلى الرب أتضرع
ويمكن أن يكون التقسيم أكثر من شطرين أي ثلاثة أو أربعة مثلاً كقوله:
لأن شروراً لا تحصى قد اكتنفتني
حاقت بي آثامي ولا أستطيع أن أبصر
كثرت أكثر من شعر رأسي وقلبي قد تركني
فالمرنم الناظم لا يهمه والحالة هذه سبك الألفاظ وتنميق العبارات بل هدفه الأسمى هو المعاني فهو يسعى أن يوصلها للذهن بأخصر طريقة وأجمل أسلوب. ذلك لأن موضوعه الإجمالي هو عبادة الرب وحمد اسمه العظيم وتذكير الناس بوجوب التعبد له على الدوام. وقد تكون الموازاة في المعاني بين فكر وآخر وبين معنى وما يتبعه من صور شعرية ومجازات. وهكذا فلا يعتبر عدد المقاطع والفواصل والحركات والسكون وما أشبه كما هي الحالة في الشعر العربي وأوزانه المختلفة وقوافيه وجوازاته بل يريد أن يصل إلى الفكر لأنه يهمه ويخدمه قبل كل شيء ويفعل ذلك بحرية مطلقة حتى تصبح هذه المعاني بألفاظها القشيبة أشبه شيء بزهور البرية التي تملأ المروج والأودية أيام الربيع بجمالها الساحر وطيب عبيرها.
والآن نتساءل ما هي هذه المزامير ومن نظمها ومتى وكيف نظمت؟ هل ابتدأت أولاً بداود أم هي أغانٍ وأناشيد سبقت عصره من مدة طويلة وكان الناس يتداولونها شفاهاً. حتى أن داود نفسه اعتمد على بعض منها ليستمد منها الوحي ويقلدها تقليداً. ومما لا شك فيه أن الشعر قديم كالإنسان وإنه قد أحبه واستعمله واستعان به في التعبير عن عواطفه وحاساته قبلما عرف طريقة أ خرى. وإذا رجعنا إلى الأيام القديمة نجد (تكوين ٤: ٢٣ و٢٤) «وَقَالَ لاَمَكُ لٱمْرَأَتَيْهِ عَادَةَ وَصِلَّةَ: ٱسْمَعَا قَوْلِي يَا ٱمْرَأَتَيْ لاَمَكَ، وَأَصْغِيَا لِكَلاَمِي. فَإِنِّي قَتَلْتُ رَجُلاً لِجُرْحِي، وَفَتىً لِشَدْخِي. إِنَّهُ يُنْتَقَمُ لِقَايِينَ سَبْعَةَ أَضْعَافٍ، وَأَمَّا لِلاَمَكَ فَسَبْعَةً وَسَبْعِينَ».كذلك فإننا نقرأ (يشوع ١٠: ١٢) «يَا شَمْسُ دُومِي عَلَى جِبْعُونَ، وَيَا قَمَرُ عَلَى وَادِي أَيَّلُونَ». كذلك في (سفر العدد ٢١: ١٧ و١٨ والخروج ١٥: ١ و١٢).
أما أهم المصادر التي استقت منها المزامير فيرجح أن تكون هكذا: -

  • المجموعة الداودية الأولى وهي من المزمور ٢ - ٤١.
  • المجموعة الداودية الثانية وهي من ٥١ - ٧٢.
  • المجموعة القورحية (نسبة إلى بني قورح) وهي ٤٢ - ٤٩.
  • مجموعة آساف وهي المزمور ٥٠ و٧٣ - ٨٣.
  • تكملة مجموعة قورح وهي المزامير ٨٤ - ٨٩.
  • مجموعة مزامير هللويا وهي المزامير ١٠٥ - ١٠٧ و١١١ - ١١٨ و١٤٦ - ١٥٠.
  • مزامير الحج أو المصاعد وهي المزامير ١٢٠ - ١٣٤.
  • مجموعة داودية مضافة إلى ما تقدم وهي مزمور ١٣٨ - ١٤٥.
  • أناشيد وترانيم متفرقة وهي المزمور ٩٣ و٩٥ - ١٠٠.


وأما الشواهد على أن المزامير تحتوي على أجزاء متفاوتة فهي كما يأتي:

  • ورود المزمور ذاته أكثر من مرة مع تغيير طفيف لا يعتد به قابل مثلاً مزمور ١٤ مع ٥٣ و٤٠: ١٣ - ١٧ مع مزمور ٧٠ ومزمور ١٠٨ مع مزمور ٥٧: ٧ - ١١ وايضاً ٦٠: ٥ - ١٢.
  • استعمال اسم الله أو الرب أو القدير على اشكال مختلفة. ونلاحظ أن عدداً من المزامير يعتمد على ما ورد في أسفار الشريعة راجع مزمور ٥٠: ٧ وخروج ٢٠: ٢.
    وأيضاً مزمور ٧١: ١٩ وقابله مع خروج ١٥: ١١.
  • يوجد ذكر لعدد من المؤلفين بينما يوجد مزامير بلا عناوين البتة.
  • ورد في آخر المزمور ٧٢ هذا الكلام «تَمَّتْ صَلَوَاتُ دَاوُدَ بْنِ يَسَّى» مع أنه يذكر اسم داود في مزامير بعدها مما يدل على أن الجامع عندئذ لم يعرف بمزامير لداود غير التي ذكرها.
  • إن ندورة وجود علامات موسيقية «سلاه» في القسمين الرابع والخامس من المزامير تدل على أن هذه المزامير لم تجمع في وقت واحد.


وأما سمث فقد قسم المزامير هكذا:

  • مجموعة المزامير الداودية الأولى بما فيه المزمور الأول كمقدمة والتسبيحة الأخيرة فتكون من ١ - ٤١.
  • المجموعة الثانية للمزامير الداودية وهي ٥١ - ٧٢.
  • مجموعة المزامير للقراءات المتبادلة وما أشبه وهي ٤٢ - ٤٩ و٥٠ ثم مزمور ٧٣ - ٨٣.
  • إعادة كتابة المجموعة الثانية والثالثة مع إدخال كلمة الله «إلوهيم».
  • زيادات غير الوهيمية وتسبيحات وهي مزمور ٨٤ - ٨٩.
  • مزامير إضافية وهي ٩٠ - ١٥٠ مع أنه فيها بعض الفروقات خذ مثلاً مزمور ١٢٠ - ١٣٤ وهي ترانيم المصاعد التي قد نحسبها كتاب ترانيم قائم بذاته.


ولا يغرب عن بالنا قط أنه يوجد فرق بين تاريخ تأليف المزمور أو نظمه وتاريخ جمعه بعد ذلك أو تاريخ تنقيحه أو زياداته إلى مزامير أخرى وهذه لم تبق على شكل واحد لدى جمعها بل تغيرت وتبدلت بتكرار الأيدي عليها ولا سيما أيدي النساخ.
ومما يجدر بالذكر أن المزامير بشكلها الحاضر هي تطور للشعر العبراني القديم ونجد مثله كما يأتي:

  • ترنيمة دبورة راجع قضاة ٥
  • ترنيمة موسى راجع تثنية ٣٢
  • ترنيمة حنة راجع ١صموئيل ٢
  • مرثاة داود لشاول ويوناثان راجع ٢صموئيل ١
  • مرثاة لموت أبنير راجع ٢صموئيل ١
  • صلاة حزقيا حينما وجه وجهه إلى الحائط وقد مرض للموت راجع إشعياء ٣٨
  • أغاني الولائم كما يذكر عنها النبي عاموس راجع عاموس ٦: ٥
  • أغاني العرس كما في نشيد الأنشاد أو الأغاني الشعبية العامة راجع إشعياء ١٢ويونان ٢ وحبقوق ٣ أو وضع حوادث عظيمة بشكل قصة للعظة والعبرة راجع إشعياء ١٤: ٤ - ٢٧


ومن الممكن أن كتاب «حروب الرب» كان يحوي عدداً كبيراً من الترانيم والأناشيد الصالحة للحرب والقتال بينما كتاب «ياشر» ومعناه المستقيم فقد حوى النصائح الكثيرة والإرشادات القيمة عن السلوك الشريف والحياة الطاهرة.
وهاكم أسماء العناوين الموضوعة على المزامير كما يأتي:

  • إيلة ها الشحر ومعناها ترنيمة السحر.
  • آلاموث ومعناها لحن بصوت عالٍ.
  • شير حنكيث هبيت ومعناها ترنيمة التكريس.
  • التاشيث ومعناها لا تهلك.
  • الجتية أي على آلة موسيقية جلبها داود من جت.
  • هيجايون ترنيمة بلحنٍ رفيع.
  • جوناث اليم رحوكيم وهو اسم لحنٍ حنون.
  • محالات لا آنوث وهو لحن للأحزان.
  • مشيل أو مثل أي مزمور للتأملات.
  • ميشتام أو مذهبة.
  • موت الابن وهي ترنيمة لموت الابن.
  • ناجينوث وهي ترنيمة يديرها إمام المغنين على ذوات الأوتار.
  • ناحيلوث أي يستعمل بها آلات الموسيقى من ذوات النفخ.
  • شامنيث أي المثمنة فكانت تلعب على ذوات الأوتار الثمانية.
  • شيجايون أي شجوية وبأصوات متعددة.
  • شوشانيم شوشان إيدوث وهو اسم لحن مجهول.
  • أناشيد حبية وهي المسماة شيريديروث.
  • يدوثان ومعناها ربما الموسيقى الفخمة. (راجع قاموس الكتاب هاستنس مقالة المزامير) أما أسماء المؤلفين الموضوعة على المزامير فهي:



  • داود
  • سليمان
  • صلاة موسى عبد الرب
  • بنو قورح
  • بنو ناثان
  • إمام المغنين
  • آساف
  • قصيدة هيمان الأزراحي
  • قصيدة إيثان الأزراحي


نجد أن أغلبية المزامير يضع المصنّفون عنوانها «مزمور» فهذا موجود في مقدمة سبعة وخمسين منها. وإذا رجعنا إلى اشتقاق هذه الكلمة نجدها تعود إلى معنى الغناء بأغنية يصحبها بعض الآلات الموسيقية وهذه ترنم بالأحرى لأجل أغراض دينية روحية. ونجد كلمة أخرى «شعر» وهي تستعمل للأغاني العادية دون أن يكون لها علاقة بالأشياء الروحية ونجد هذه الكلمة في (المزمور ٤٦ والمزمور ١٨). وأحياناً نجد العنوان «شعر مزمور» وهذا كان يرنم لأجل غرضين إما ديني أو دنيوي ويصحبه الآلات الموسيقية ذات الأوتار.
تاريخ كتابة المزامير وناظموها


يجب لأول وهلة أن لا نخلط بين تاريخ جمع هذه المزامير وتاريخ تأليفها أو نظمها ولا شك أنه يوجد فرق بين الاثنين. إذ من الممكن أن كثيراً من هذه المزامير كانت ترنم قبل أن حاول كتابتها أحد بزمان طويل. وبالتالي فهذه أغاني الشعب عرفها وغناها وصحبها بآلات الطرب قبل أن تجمع في كتاب مدون. ومن جهة أخرى نجد أن المؤلف أو المؤلفين لم يذكروا لأن لا أهمية لذلك في نظر الناس في تلك العصور القديمة وربما كان أن عدداً من المزامير المنسوبة إلى داود لم ينظمها داود قط وإنما ذكرت تحت اسمه لكي نعرف انها نظمت على النسق الداودي ليس إلا. ونجد أن عدداً من هذه المزامير المنسوبة إلى داود لا يمكن أن تكون لداود حقيقة إذا اعتبرنا الأشياء الآتية:

  • لقد ورد بعض التعابير الآرامية التي دخلت اللغة العبرانية بعد عصر داود بزمان طويل فنجد مثلاً المزامير ١٠٣ و١٢٢ و١٣٩ و١٤٤.
  • نجد أن بعضها قد اقتبس من بعض الكتابات المتأخرة عن عصر داود راجع مزمور ٨٦.
  • يوجد بعض المزامير ذات ميزات خاصة لا يمكن أن تكون داودية مثل المزامير ٢٥ و٣٤ و٣٧. مما يرينا بأجلى بيان عن حالة المملكة في ذلك الحين.
  • ذكره الهيكل كما في المزمورين ٥: ٧ و٢٧: ٤. وقد ذهب العالم ديلتش إلى القول بأن الهيكل هنا معناه خيمة الاجتماع. وهذا الكلام يحتوي الكثير من السعي لإيجاد الأعذار.


وقد ذهب ولهوسن إلى القول المأثور «ليس المشكل فيما هل كتاب المزامير يحتوي أي المزامير المكتوبة بعد السبي بل المشكل هل يوجد أي المزامير التي كتبت قبل السبي على الإطلاق». إذا كان يقصد بهذا الكلام تدوين المزامير كما نجده الآن ففيه الشيء الكثير من الصحة ولكن لا يغرب عن بالنا أن هذه المزامير كانت معروفة منذ القديم ويغنيها الناس عن ظهر قلوبهم وإن كانوا لم يتعلموا أن يكتبوها. فإن هذا الشعر الديني الممتاز كان قد طبع في أذهان الناس وقلوبهم وهم ما زالوا أميين لا يعرفون القراءة ولا الكتابة.
أما الشعر العبراني فلم يكن يعتمد على الوزن أو القافية كما ذكرنا سابقاً بل بالأحرى كان يعتمد على ترتيب الأفكار وترابطها وانسجامها وتوازن الجمل وعلاقتها بعضها ببعض. وبعبارة أخرى كان عندهم التوازي أجلّ الأشياء وأعظمها خطورة. وهذا التوازي قد يأتي على الأوجه المختلفة الآتية:

  • التكرار والتوكيد لنقطة واحدة راجع مزمور ٢١: ٢ و٩٤: ٣ و١٩: ١ و٢ و٢٧: ١ و٢.
  • التعاكس انظر مزمور ٣٠: ٥ «لأَنَّ لِلَحْظَةٍ غَضَبَهُ. حَيَاةٌ فِي رِضَاهُ. عِنْدَ ٱلْمَسَاءِ يَبِيتُ ٱلْبُكَاءُ، وَفِي ٱلصَّبَاحِ تَرَنُّمٌ».
  • التناجس والتناسق راجع مزمور ٣: ٤ و٩٧: ١ و٥ ومزمور ١٠٣: ١ وما يليه.
  • ومنها المقاطع المثلثة والمربعة والمخمسة والمسدسة ونجد ذلك بالترتيب هكذا مزمور ٩٣: ٣ و٥٥: ٢١ و٦: ٦ و٩٩: ١ - ٣.
  • ومن المزامير تلك المرتبة حسب أحرف الهجاء. فإن كل حرف منها يحوي ثمانية جمل أو آيات وكل آية تبدأ بالحرف الذي كتبت تحته وهكذا على التوالي. وشاهدنا في ذلك المزمور ١١٩.


ويمكننا أن نقول إن المزامير كلها تهدف نحو غرض واحد وهو العبادة بأجمل صورها وأعظم معانيها ولم يخطئ من قال إن الكنيسة المسيحية منذ أقدم عصورها قد عرفت قيمة المزامير واستعملتها بصورة منتظمة ومتواصلة لأنها تصل إلى القلب بأهون سبيل وأخصره لأنها قد خرجت من القلب البشري أولاً. ويجد المرنم أن عبادة الرب هي غايتها القصوة هي القمة العليا في جبل تفكيره السامي فمتى وصل إليها يترك للأفكار الثانوية الأخرى أن تحتاط القمة من كل جانب كما تفعل القمة والتلال الأخرى تحيط بها وهي أدنى منها.
وما هي العبادة يا ترى سوى الصعود إلى الأعالي ولو لحظة من الزمان ومحاولة البقاء هناك مدة كافية حتى نستنشق نسيم الحياة من نبع كل حياة. فالإنسان الذي نفخ فيه من روحه لا يمكن أن يبقى حياً روحياً إلا على مقدار ما يستطيع أن يحيا بالله متعبداً له ومطيعاً لجميع أوامره ووصاياه. وما المزامير سوى ارتفاع بالمؤمنين نحو القمم العالية كلما قرأناها وتمتعنا بخيراتها كلما فرحنا بالحياة الروحية التي نحياها وملأت جوعنا وأروت عطشنا لأنه «طوبى للجياع والعطاش إلى البر فإنهم يشبعون».

بعض تعاليم المزامير الهامة


مع أن المزامير هي في جوهرها شعر من الطبقة العالية والشعر قلما يتوخى التعليم بل يهمه الفن وإرضاء حاسة الجمال النفسي ولكن المزامير تضع بعض التعاليم أمام عيوننا بصورة مؤثرة جذابة وإذا شئنا أن نضع موضوعاً للمزامير كلها فيكون ذلك المصائب والشكوى لله لكي يخلصنا منها فنزيلها أو نتغلب عليها. كذلك يبحث المرنم الضيقات والآلام ويحاول أن يفسر علاقتها بحياة الإنسان ولا يستطيع أن يفصل بين الخاطئ وخطيئته فهو يكره الخطيئة والخاطئ معاً لأنه عدو الله فكيف يمكنه أن يقف على الحياد تجاه من يقترف الشرور والمعاصي فيقول: -
ألا أبغض مبغضيك يا رب
وامقت مقاوميك؟
بغضاً تاماً أبغضتهم صاروا لي أعداء
لذلك فهو محب لله غيور لا يرضى بالمنافقين والمستهترين. لقد بذل الكثيرون من النقاد جهداً عظيماً لتحليل المزامير وإظهار المعاني التي قصدها ناظموها على قدر الإمكان حتى ذهب الأستاذ رتشرد مولتن من جامعة شيكاغو شوطاً بعيداً في هذا المضمار وإن يكن قد بالغ وغالى بعض الأحيان إذ وضع لكل مزمور موضوعاً خاصاً حتى ظهر بمظهر العنت والتصنع. ولا شك أن هذه المزامير قد كتبت في أوقات وأحوال متفاوتة وبأقلام كتبة وشعراء عديدين. والأفضل أن نحسبها حرة طليقة في أغلب الأحيان تعبر عن شعور النفس وحاساتها ولذلك لا نرى من الضروري وضع موضوع خاص بكل مزمور منها طالما هذه الاختبارات قد عرفها الكثيرون وأحكموا وصفها والتعبير عنها بما لا مزيد عليه من الروعة والجمال. ولكن بعض هذه المواضيع كما يراها الأستاذ تستحق الإشارة إليها على الوجه الآتي:

  • أناشيد حربية مزمور ٢٠ و٢١ وهما لبدء الحرب وانتهائه بالظفر.
  • ترنيمة زواج مزمور ٤٥.
  • العهد مع داود ونسله مزمور ١٣٢ - ١٣٩.
  • المسيح المنتظر مزمور ٢ و١١٠ ونجد ٧٢ يبحث سلامة البر والنسل المبارك.
  • ترانيم وطنية ومنها ترنيمة البرية مزمور ١٣٦ وترنيمة مملكة يهوذا مزمور ٧٨ وترنيمة السبي مزمور ١٠٦.
  • ترانيم الأعياد والمواسم مثل مزمور ٩٣.
  • ترانيم الانتصار وللتشجيع وقت الانكسار مزمور ٦٠ و١٠٨ و١٨.
  • ترانيم النذور مزمور ٩٣ - ٩٨. أما المزمور ٦٨ فيضم أعظم الأفكار الدينية والوطنية فيربط الماضي بالمستقبل.
  • المراثي انظر مزمور ٨٨ وأما مزمور ٨٠ فيأخذ استعارة الكرمة.
  • المصائب والخلاص منها مزمور ٣٧ و٤٩ و١٤ و٥٠.
  • المزامير التمثيلية والتعليمية وما أشبه ومنها الشيء الكثير الخ.


وإذا حاولنا أن نضع مواضيع هذه التعاليم بصورة واضحة مختصرة نجد أنها تحوي:

  • أولاً وحدانية الله - فنقرأ في مزمور ١١٥ اعترافاً صريحاً بالتوحيد فإن الله واحد لا إله سواه هو خالق السماء والأرض بينما آلهة الأمم أصنام. ونقرأ في مزمور ١٤ عن قوم جهال يجرأون على القول بأن ليس إله وربما كان هؤلاء من بني إسرائيل لا من الأمم حولهم. والمزامير بطبيعتها تحوي الكثير من الديانة العملية أي تلك الأمور التي يتوجب علينا أن نتمها ولا يكتفي بالديانة النظرية التي تبحث عن العقل البشري ومعتقداته. فيذكر مثلاً سماء مسقوفة علاليها بالمياه. وآلهة تتكلم كالبشر فتغضب وتحقد وتنتقم ولكن في الوقت ذاته فإن الله رب الجنود هو إله بار وقدوس وكل صنعه بالأمانة عليهم بكل شيء ويملأ كل مكان فمن وجهه أين نهرب. ونجد مسألة تشغل بال المرنم فيتساءل عنها مرة بعد مرة «ماذا يصنع الله بالأشرار وهل يتغاضى عنهم؟» ومع أنه لا يحير جواباً بعض الأحيان لكنه يكتفي بأن الاشرار سيبادون من الأرض وينقطع ذكرهم.
  • ثانياً طبيعة الله - يكاد المرنم أن يصف الله بشكل بشري كما في مزمور ١٨: ٢٥ و٣٦ مع الرحيم تكون رحيماً مع الرجل الكامل تكون كاملاً. مع الطاهر تكون طاهراً ومع الأعوج تكون ملتوياً. ولكننا نقابل ذلك بما ورد في المزمور الثامن فنجده يسمو بنا إلى الله الذي ما أمجد اسمه في كل الأرض. ونجده في مزمور ١١ هو الإله الأمين الذي نثبت فيه ونركن إليه وهو يراقب جميع البشر ويرى تصرفاتهم. ونجد في كثير من المزامير أن المحتاج والذي في ضيق واضطهاد ينال ملجأ فيه ويحتمي من أي خوف أو أذى. حتى أن بقية الأمم يستطيعون أن يشاطروا بعضهم بعضاً في اغتنام بركات صلاحه الإلهي. وهو وحده الإله الذي يحكم العالمين بالعدل والإنصاف راجع مزمور ٩: ٨.
  • ثالثاً الله في الوجود - يرى المرنم في هذا الوجود حوله بر الله وحكمته ونجده مرات كثيرة واسع المعرفة والاطلاع بالأنهار ومجاري المياه حوله. يسر بمرأى الجبال وما تحويه كما يفرح بالبرية وما فيه من حيوانات كثيرة متنوعة. حتى العصافير الصغيرة لا يفوته أن يلاحظها. راجع مزمور ١٠٤ ففيه الشيء الكثير من المعارف الطبيعة ذات القيمة العظيمة. ولطالما شاهد جمال الشروق في الصباح أو روعة الغروب في المساء فقال عن الله «يلبس النور كثوب». وربما يصل المرنم إلى أسمى الأفكار وأعظمها في مزمور ١٩ حينما يقول «اَلسَّمَاوَاتُ تُحَدِّثُ بِمَجْدِ ٱللّٰهِ، وَٱلْفَلَكُ يُخْبِرُ بِعَمَلِ يَدَيْهِ...» وإن هذا الإله الذي أعطى الإنسان خبزاً لكي يقتات به وخمراً تفرح قلبه فهو الذي أعطاه الطبيعة بعنايته الفائقة بالإنسان فهو يرأف به ويريده أن يعود عن إثمه وضلاله إلى طريق الحق والهدى وينتظر الرب ولا يتسرع في تذمره بل يطلب خالقه دائماً. لأن الله مصدر حياتنا ومبعث كل خير فيها لذلك «كَمَا يَشْتَاقُ ٱلإِيَّلُ إِلَى جَدَاوِلِ ٱلْمِيَاهِ هٰكَذَا تَشْتَاقُ نَفْسِي إِلَيْكَ يَا ٱللّٰهُ» (مزمور ٤٢: ١).
  • رابعاً واجبات الإنسان نحو إلهه -

    • أن يكون سخياً نحو الفقراء راجع مزمور ١٥ و٢٤.
    • منصفاً في أحكامه نحو الجميع مزمور ٧٢: ٣و ٤.
    • نتعلم أن نصنع مشيئته مزمور ١١٩: ٣٣ - ٤٠.
    • روح الله فينا مزمور ٥١: ١١ - ١٣.


    ونجد أن المزامير تشدد على وجوب الحياة التقوية طالما نحن في هذه الدنيا وأن الإنسان التقي ينال جزاءه فيها. وهذا التعليم قد أوجد مشكلة فتساءل الإنسان لماذا هذه الضربات وأنا لا أستحقها. وبالتالي جعل البشر يعتمدون على البر الذاتي. فإذا وقعت مصيبة على إنسان فهي لسبب خطيئة معينة. حتى قد تكون مخفية عن أعين الناس وعن الخاطئ نفسه. وهكذا فإن الله يريد أن يعود عن إثمه ويترك خطيئته ويلتمس رحمة إلهه. ولطالما كانت صرخة الخلاص من المصيبة صرخة الخلاص من الخطيئة التي سببتها. وإذا طلب من الله أن ينزل عقابه العادل على المذنبين فذلك لكي يبرره تجاههم ويفرض حكمه العادل على السكان أجمع.
  • خامساً أين يسكن الله - ونجد الجواب الصريح في المزمور ١٣٩ مسكنه السماء وكل مكان. بينما هو يسكن بصورة خاصة في هيكله المقدس مزمور ٤٦: ٤ وهذا الهيكل هو الفردوس الثاني حيث يقبل فيه الإنسان بدلاً من أن يطرد. مزمور ١٣٢: ١٤ وهو يسكن صهيون جبل قدسه مزمور ٨٧ حيثما عليه يقوم الهيكل المقدس.
    ومما هو جدير بالذكر أن الأمور الأدبية تتمشى يداً بيد مع الأمور الدينية فإن من أهم مطالب الدين هو تطبيقه في الحياة اليومية انظر مزمور ٥٠. وهكذا فإن الذبائح هي بالأولى روحية مزمور ٥١: ١٧. وإذا راجعنا مزمور ٤٠: ٦ - ٨ نجده تمهيداً بالغ الأثر للديانة المسيحية فهو يرتفع من المكافآت المادية والجزاء العالمي لقاء ما نقوم به من واجبات فتصبح الديانة قلبية لا ظاهرية فقط وحقيقية لا طقسية. إن الله حاضر دائماً لكي يستجيب سؤل القلوب المتخشعة المتواضعة أمامه. والله يجيبنا ليس على نسبة ما ننتظر بل على نسبة مشيئته المقدسة ومقصده الصالح. وهكذا فإن تعاليم المزامير كانت أسمى من أفكار الإنسان العادي في ذاك الحين حتى كانت سبب إلهام ونهضة لكل الذين رنموها أو سمعوها.
  • سادساً الحياة بعد الموت - لا شك كانت فكرة غامضة ولكننا نرى المرنم يؤكد أن لا فرح لنا ولا سعادة ننالها في البعد عن الله لأنه مصدر طمأنينتنا وسلامنا انظر المزامير ١ و٦ و٨ قد نجد ذكراً لا يعتد به بعالم الأموات مزمور ١٦: ١٠ و١١ ومزمور ١٧: ٨ و٩ و٤٩: ٨ - ١٠ و٧٣: ٢٣ فإن هذه المزامير قد نظرت إلى هذه الحياة الدنيا وأما شاؤول - الهاوية فهي موطن الأخيلة ومكان السكوت الأبدي حيثما ينسج العنكبوت بيته وينطفئ ذكر الإنسان لأنه لا يوجد بعد.
  • سابعاً آماله بالمسيح المخلص - تتشابه المزامير مع أقوال الأنبياء في هذا الموضوع الخطير ومع أن مزمور ١١٠ هو نبوات عن المسيح المنتظر فهو يبحث عن خلاص الأمة وليس خلاص الفرد. لأن الفرد قد يذهب مضمحلاً ولكن الله يعمل بواسطة أمته وشعبه فلا يمحى ذكرهم من الأرض. ويوجد آمال عن المسيح في المزامير ٢ و٨ و١٦ و٤٥ و٧٢ و٨٩. فهذه كلها تذكر أن أياماً سعيدة لا شك قادمة وفيها يتم الظفر والانتصار. ومع أن المزامير هي إلى حد كبير وطنية الصبغة تنظر إلى اليهود بصورة ضيقة - مع ذلك نجد بعض الأفكار السامية التي تشمل أمم العالم أجمع. راجع المزمورين ٩٨ و٩٩ بصورة خاصة. نعم إن المرنم يتلفت إلى الأمم الباقية ولكنه يفعل ذلك بأن يطلب رجوعهم والتهلل بانتصارات الرب حينما يجعل أروشليم عاصمة دنياه ويجري منها الحق والعدالة إلى جميع الشعوب. وكذلك فإن المزمورين ٤٠ و٨٥ هي من أهم المزامير التي تشير إلى المسيح.


وخلاصة القول إن المزامير هي أشبه بزهور البرية في فصل الربيع بما فيها من مختلف الأشكال والألوان وبما تبعثه من شذا منعش للأبدان والأرواح. وجمال هذه الزهور هو ليس بما فيها من انسجام بل بما فيها من تنوع وأشكال مختلفة. فالمزامير تعبر عن الطبيعة البشرية بما فيها من أعماق ومعان. وكما أن زهور البرية هي عنوان التنوع والحرية إذا لم تأخذها يد الإنسان لتضعها في الجنائن. كذلك فإن المزامير هي تعابير صارخة عن آلام البشرية وأحزانها كما هي هتافات الابتهاج والانتصار. ونجد أن الدين الحقيقي قد لمسها بيده المهذبة المرقية فزاد على طابعها الشعري العالي رسالتها الروحية المنعشة. وقلما نرى حالة من حالات النفس أو خلجة من خلجات القلب إلا نجد ما يقابلها في المزامير. فهي تمسو بنا إلى الأعالي تارة ثم تارة أخرى تهبط بنا إلى الأعماق فبينما نحادث النجوم ونسمعها بغير كلام إذا بنا نهبط إلى ظلمات الشقاء. فنبكي مع الباكين ونتألم مع المتألمين.

  • ففي أوقات الشكر لنقرأ المزامير ١٠٣ و١٠٧ و١٢٧.
  • وفي أوقات الحزن لنقرأ ٢٣ و٨٤.
  • وفي أوقات المخاطر لنقرأ ١٢١ و١٢٥ و٢٧ و٢٢ و٤٦ و١٣٩ و٩١.
  • ولدى لقاء الأحباء بعد طول غياب فنقرأ ١٣٣. ولأجل الغفران لنقرأ ٥١ و١٣ و٣٤.
  • ولدى ولادة مولود في عائلة لنقرأ ١٢٨ و١١٧ و١٢٧.
  • وفي الأعياد الوطنية وذكريات العزة القومية لنقرأ ١٢٢ و٩٠ و٩٥ و١٠٠.
  • وحينما نعد أنفسنا للصلوات الصباحية أو المسائية فلنقرأ ١٥ و٢٤ و١٩ و٦٣.


ولا غرو أن نجد الكنيسة منذ أقدم عصورها تستعمل المزامير كأسمى الوسائل للعبادة وأفعلها في النفوس البشرية. فنحن في حاجة إلى المزامير لأجل التأملات الروحية أفراداً وجماعات فهي أشبه بالمرآة النقية التي تعكس شعورنا وعواطفنا في مختلف الأحوال. وما المزامير سوى اختبارات روحية عميقة رنمها رجال الله الأتقياء ووجدوا فيها تعزية وتشجيعاً وقوة وسلوى وما وجدوه عندئذ نجده نحن الآن.
فلنطالع المزامير بلذة وطلب استفادة لأنها صادقة في تعبيرها عن حقائق الحياة الحاضرة كما كان في الماضي ولأن وصفها للشعور الداخلي يأخذ بمجامع القلوب ويأسر الأفكار ولأنها تدفعنا لطلب العفو فنستغفر الله عما مضى من خطايا وذنوب. وفي الوقت ذاته تدفعنا لكي نتشجع بهذه الاختبارات الثمينة فما حصل عليه أولئك قد نحصل عليه نحن. ونجد الدافع البشري قريب المنال من الإلهي مما يدفعنا إلى الأمام ويسمو بأفكارنا إلى الأعالي. فالمزامير هي مجموعة الفن الخالد الذي لا يستطيع الزمان أن يبلي جدتها ولا يغير من روعتها وجمالها فهي نسمات منعشة للحياة الروحية بل غذاء وريّ وسقياً فلنكن بها مولعين مشغوفين.
سوق الغرب في ١ كانون الثاني سنة ١٩٤٩
القس جورج خوري

اَلْمَزْمُورُ ٱلأَوَّلُ


ينقسم إلى قسمين الأول وصف أخلاق البار وسعادته والثاني وصف تعاسة الأشرار وهلاكهم.
«١ طُوبَى لِلرَّجُلِ ٱلَّذِي لَمْ يَسْلُكْ فِي مَشُورَةِ ٱلأَشْرَارِ، وَفِي طَرِيقِ ٱلْخُطَاةِ لَمْ يَقِفْ، وَفِي مَجْلِسِ ٱلْمُسْتَهْزِئِينَ لَمْ يَجْلِسْ».
(١) لا يقصد باستعمال الماضي أنه عمل تمم بالماضي وانتهى الأمر بل الأرجح أنه يتكلم عن أمر حقيقي في كل زمان. ويكون لنا أن نقول «طوبى للرجل الذي لا يسلك». قصد بهذا المزمور أن يكون فاتحة أو مقدمة للمزامير ولذلك فهو مملوء من الإرشادات الجامعة والحكم البالغة.
هنا ثلاث درجات. السلوك أو السير في مشاورة الأشرار أي لا يتمشى على ما يتمشون هم عليه. ثم يقول ولا يقف في طريقهم لئلا يسمع ما يتحدثون به وما يشير عليه. وكذلك لا يجلس في مجالسهم وهنا تدرج من سير لوقوفٍ لجلوس. ويقصد به أن أية مخالطة للأبرار مع الأشرار تفسدهم ولو إلى درجة بسيطة ولكي يظلوا أنقياء عليهم أن يحافظوا على مقاومتهم ويسهروا «اسهروا لئلا تدخلوا في تجربة».
يبدأ الإنسان شره صغيراً فيشعر في ابتعاد عن الله ثم يتوغل في شره وخطيته حتى يقف منتصباً أمام الآخرين غير متهيب مغبة ما يفعله. وأخيراً بعد وقوفه يجلس في مجلس المستهزئين ويتجاسر بأن يبوح بما هو عليه أمام الآخرين ويصبح قدوة في الشر والفساد.
«طُوبَى» وفي العبرانية تأخذ شكل الجمع أي النعم فكأنما يقول إن النعم والخيرات هي نصيب الصالحين الفاضلين.
يجب أن يقولوا حالاً (مزمور ١١٩: ١١٥).
لأن مرض الخطية خبيث معدٍ يأتينا ونحن لا ندري بعض الأحيان. فعلينا أن نتوقى منه ونهرب من مسببيه ولا نفسح المجال لأنصاره أن يؤثروا على قلوبنا (أمثال ٤: ١٤ و١٥) فكل من شاء أن لا يصيبه الأذى عليه أن يتجنبه ويهرب من طريقه وبعدئذ لا يجوز أن يلوم أحداً غير نفسه.
فلننتبه إذاً ولا نسمح لمشورة الأشرار أن تؤثر علينا قط بل لنسر في طريقنا غير ملتفتين للمخادعات حولنا لئلا نقف بعد ذلك وتقوى التجربة علينا ونجر بعد حين فنسقط بين الساقطين المستهزئين بأقدس الأشياء.
«٢ لٰكِنْ فِي نَامُوسِ ٱلرَّبِّ مَسَرَّتُهُ، وَفِي نَامُوسِهِ يَلْهَجُ نَهَاراً وَلَيْلاً. ٣ فَيَكُونُ كَشَجَرَةٍ مَغْرُوسَةٍ عِنْدَ جَدَاوِلِ ٱلْمِيَاهِ، ٱلَّتِي تُعْطِي ثَمَرَهَا فِي أَوَانِهِ، وَوَرَقُهَا لاَ يَذْبُلُ. وَكُلُّ مَا يَصْنَعُهُ يَنْجَحُ».
(٢) هنا يتناول أمرين الأول أن ناموس الرب مسرته والثاني أنه يلهج بهذا الناموس دائماً.
هنا تكون إشارته للنهار والليل كلفت نظر للعبادات التي كانت تقدم في الهيكل صباح مساء. وقد يكون من قبيل تأكيد لهجه بناموس الرب دائماً. إن الصالحين في نظره هم المسترشدون بكتاب الله فهو النجم القطبي لحياتهم يدلهم على طريق الخير ويبعدهم عن طريق الشر. ولا شيء يقي الإنسان من العثار في مهاوي الأشرار مثل انشغالنا بما يخبرنا الله عنه في كتابه. علينا أن نقول في داخلنا ماذا يريد الله أن يقوله لنا فننتبه ونصغي قبل فوات الأوان. إن لله صوتاً مسموعاً على شرط أن يكون لنا آذان تسمع. وعلينا أن نسمع والسرور يملأ قلوبنا. مع أن ناموس الرب يعطينا الفرائض المطلوبة منا. هو كالنير على أعناقنا ولكنه ضروري لسيرنا الروحي لذلك نسرّ به.
أول ما يبدأ التلميذ علمه يتعلم مبادئ العلوم فيستصعبها ولكنه بعد حين كلما حمل نيرها وتعوّد عليه كلما ازداد سروراً وغبطة في تحصيل العلم. وكذلك الحال في الدين كلما تمعنا بكلام الله كلما وجدناه لذيذاً لحياتنا الروحية ولتقدمنا الحقيقي وأصبح طعامنا اليومي نتناوله في فترات منتظمة ولا نستغني عنه.
نلهج به دائماً لأننا نريده. وما يزيده حقاً تلهج به دائماً (مزمور ١١٩: ٩٧). قد نمل من كلام البشر ولكن كلام الله لا يمل منه. هو كالخبز اليومي علينا أن نأكله ولا نمل منه.
(٣) هنا تشبيه جميل للغاية «الشجرة» وهي صديقة الإنسان الأولى فهي قبل الحيوانات الأليفة وكل الدواجن إذ أن الإنسان عاش على ثمار الأشجار والنباتات زمناً طويلاً قبل أن استعان بالحيوانات اللبونة وغيرها.
«٤ لَيْسَ كَذٰلِكَ ٱلأَشْرَارُ، لٰكِنَّهُمْ كَٱلْعُصَافَةِ ٱلَّتِي تُذَرِّيهَا ٱلرِّيحُ. ٥ لِذٰلِكَ لاَ تَقُومُ ٱلأَشْرَارُ فِي ٱلدِّينِ وَلاَ ٱلْخُطَاةُ فِي جَمَاعَةِ ٱلأَبْرَارِ. ٦ لأَنَّ ٱلرَّبَّ يَعْلَمُ طَرِيقَ ٱلأَبْرَارِ، أَمَّا طَرِيقُ ٱلأَشْرَارِ فَتَهْلِكُ».
(٤) هنا يظهر المرنم الفرق الشاسع بين الاثنين. فمن جهة هو شجرة خضراء باسقة ومن الجهة الأخرى فهو العصافة أي التبن بلونه الأصفر تتقاذفه الريح إلى كل مكان. الشجرة تمثل الحياة والنمو والتقدم وأما العصافة فتمثل الموت الروحي وعدم الركون في الحياة بل يذهب الواحد مع كل ريح.
إن التبن يفصل بالتذرية عن القمح «وأما التبن فيحرقونه بالنار». أي القش الذي لا يستعمل لعلف الماشية يخبز عليه.
(٥) وهكذا فإنه يوجد فرق أيضاً في دينونة الواحد بالشر الذي فعله. ولا نستطيع أن نستنتج أن المرنم فهم من هذا الدينونة المسيحية ذاتها أي بعد الموت كما هو مذكور في متّى ٢٥ بل جلّ قصده أن يرينا الفرق العظيم بين نتيجة حياة الصالح بمقابلتها مع حياة الخاطئ الشرير. يوجد فاصل بين الاثنين ويجب أن نميز الواحد عن الآخر إذ لا خلطة بين النور والظلمة.
(٦) وهل يحابي الله في معاملته بين بار وأثيم. حاشا لله أن يفعل ذلك وإنما الأثيم يخطئ أولاً ضد نفسه. وسبب البعد هو منه وليس من الله الذي يدعو الجميع إليه.
(راجع إرميا ١٢: ٣) «وَأَنْتَ يَا رَبُّ عَرَفْتَنِي. رَأَيْتَنِي وَٱخْتَبَرْتَ قَلْبِي...».
ومتّى ٦: ٦ «وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَلَّيْتَ فَٱدْخُلْ إِلَى مِخْدَعِكَ... الخ».
إن مصير الأشرار الأثمة محتوم وسينالون العقاب الذي يستحقونه لذلك إن زها الأشرار وحسبوا أن لا مسؤولية عليهم واستهانوا بوصايا العلي فلسوف يلحقهم القصاص وما بهم من زهوٍ ومجد الآن فسيضمحلان. ولا يمكن أن يثبتا. إذاً فلنقبل هذه النصيحة الثمينة التي يسديها إلينا المرنم ولنقبل على أنفسنا نفحصها جيداً لأنه يجب أن نفترق عن سبل الخطاة ونمشي في سبل الله المستقيمة لأن فيها الخير والتوفيق والهناء.
وقوله على مجري المياه إشارة لما هي العادة في الشرق من سقاية الأراضي من الأنهار رأساً أو بواسطة أقنية تجرّ بها المياه إلى الأمكنة الخاصة.
وكما تزداد الشجرة زهواً واخضراراً كلما نمت وكبرت هكذا البار «الصديق كالنخلة يزهو كالأرز في لبنان ينمو» وهنا إشارة للأشجار الدائمة الاخضرار التي لا يؤثر عليها تغير الفصول بل تظل لابسة حلتها السندسية على مدار السنة.

اَلْمَزْمُورُ ٱلثَّانِي


«١ لِمَاذَا ٱرْتَجَّتِ ٱلأُمَمُ وَتَفَكَّرَ ٱلشُّعُوبُ فِي ٱلْبَاطِلِ؟ ٢ قَامَ مُلُوكُ ٱلأَرْضِ وَتَآمَرَ ٱلرُّؤَسَاءُ مَعاً عَلَى ٱلرَّبِّ وَعَلَى مَسِيحِهِ، قَائِلِينَ: ٣ لِنَقْطَعْ قُيُودَهُمَا، وَلْنَطْرَحْ عَنَّا رُبُطَهُمَا».
لا ندري تماماً العلاقة التاريخية في هذا المزمور وهل هنا إشارة إلى انتقاض ثورة في أيام سليمان أو في أيام الملوك الذين جاؤوا بعده لا ندري تماماً ولا نستطيع أن نعطي تاريخاً مضبوطاً لهذا الأمر. وبعض المفسرين ينكرون أية علاقة للأمور التاريخية ويوجهون الفكر إلى حكم المسيا المنتظر وتكون هذه نبوءة عما احتمله المسيح المخلص من اضطهاد وإهانة وموت الصليب أخيراً.
وينقسم المزمور إلى أربعة أقسام ويستعمل في عيد الفصح بصورة تمثيلية يتناوب الكلام فيه أربعة أشخاص.
العدد ١: ٣ يتكلم المرنم.
ثم ٤ - ٦ يأخذ الملك بالكلام ويرى أنه لا بد من نهاية شريفة لموآمرتهم الفاشلة.
ثم بعد ذلك ٧ - ٩ يعود الملك للكلام فيخبر عن سلطان الله على جميع الشعوب وإنه هو الحاكم وحده في الناس.
وفي ١٠ - ١٢ يأمر هؤلاء المغتصبين أن يندموا قبل فوات الأوان.
«الأمم» أي كل الذين غير يهود.
وتفكرتم في الباطن معناه الثورة والانتقاض على الحكم وهنا يقرن المرنم هذا الأمر ويوجهه كأنه انتقاض على الرب نفسه لأن الملك هو مسيح الرب أي معّين ممسوح منه. فإذاً عدو الملك هو عدو الله أيضاً. وقوله «لنقطع قيودهما» إشارة إلى طلب نزع السلطة والتحرر من ربقة العبودية للملك المعيّن من الله.
يصف مقاومة أهل الشر. ليس فقط الرؤساء والعظماء بل الشعب والعامة. ذلك لأنه يوجد فرق عظيم بين ما يفرضه الله وما يفرضه الإنسان. لأن أساليب الله كلها محبة وحكمة بينما أساليب البشر مملوءة بالظلم والشر والاغتصاب «فَقَدْ أَبْغَضُونِي أَنَا وَأَبِي» (يوحنا ١٥: ٢٤).
«٤ اَلسَّاكِنُ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ يَضْحَكُ. ٱلرَّبُّ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ. ٥ حِينَئِذٍ يَتَكَلَّمُ عَلَيْهِمْ بِغَضَبِهِ وَيَرْجُفُهُمْ بِغَيْظِهِ. ٦ أَمَّا أَنَا فَقَدْ مَسَحْتُ مَلِكِي عَلَى صِهْيَوْنَ جَبَلِ قُدْسِي».
(٤) ثم سكان الأرض وترتيباتهم أرضية محضة لذلك فكل أفعالهم قاصرة وغير ثابتة. ويستهزئ بحالتهم هذه. إذ كيف يستطيعون أن يغيروا ترتيبات العلي. (٥) وإذا الرب يتحول عن الهزء والسخرية بهم فيتكلم ضدهم غاضباً وإذا بهم يرتجفون أمامه خوفاً ورعباً. (٦) ذلك لأن مشيئة الرب هي فوق مشيئتهم وعليهم فقط أن يخضعوا. والإشارة إلى صهيون أي إلى أورشليم عاصمة المملكة ومركز الدولة والملك المدينة المقدسة التي يقيم فيها مسيح الرب.
ويقول إشعياء ٦٤: ١٠ «مُدُنُ قُدْسِكَ صَارَتْ بَرِّيَّةً. صِهْيَوْنُ صَارَتْ بَرِّيَّةً وَأُورُشَلِيمُ مُوحَشَةً». وصهيون وجبل صهيون هو الحد الشرقي للقدس القديمة حيثما كان. حصن داود عزّ المملكة ومجدها.
«٧ إِنِّي أُخْبِرُ مِنْ جِهَةِ قَضَاءِ ٱلرَّبِّ. قَالَ لِي: أَنْتَ ٱبْنِي. أَنَا ٱلْيَوْمَ وَلَدْتُكَ. ٨ اِسْأَلْنِي فَأُعْطِيَكَ ٱلأُمَمَ مِيرَاثاً لَكَ وَأَقَاصِيَ ٱلأَرْضِ مُلْكاً لَكَ. ٩ تُحَطِّمُهُمْ بِقَضِيبٍ مِنْ حَدِيدٍ. مِثْلَ إِنَاءِ خَزَّافٍ تُكَسِّرُهُمْ».
(٧) يعود الملك فيتكلم مستنداً في دعم دعواه على التاريخ والنبوءة (٢صموئيل ٧: ٤ - ١٧) وهنا إشارة إلى ما تنبأ به ناثان النبي لداود ولنسله من بعده. فإذاً بقطع النظر عن شخصية الملك واقتداره فهو ملك ليس بنفسه ولا من نفسه بل من الله. فلا الشعب ولا الرؤساء. حتى ولا الشعوب الخاصة لحكمه تستطيع أن تنقله من حكمه طالما هو معين من الله.
(٨) هو ابن - وفي وقت مسحه ملكاً - قد نال مثل هذه الولادة وهذا التبني (راجع أعمال ١٣: ٣٢ وعبرانيين ١: ٥ و٥: ٥).
(٩) أما قضيب الحديد في العدد العاشر فهو إشارة إلى الشدة والبطش في إعادة هؤلاء الثائرين المقلقين ولو كان إرجاعهم يقتضي أقسى الشدة والقسوة عليهم. ويكون نصيبهم حينئذ الخذلان والدمار.
«١٠ فَٱلآنَ يَا أَيُّهَا ٱلْمُلُوكُ تَعَقَّلُوا. تَأَدَّبُوا يَا قُضَاةَ ٱلأَرْضِ. ١١ ٱعْبُدُوا ٱلرَّبَّ بِخَوْفٍ وَٱهْتِفُوا بِرَعْدَةٍ. ١٢ قَبِّلُوا ٱلٱبْنَ لِئَلاَّ يَغْضَبَ فَتَبِيدُوا مِنَ ٱلطَّرِيقِ. لأَنَّهُ عَنْ قَلِيلٍ يَتَّقِدُ غَضَبُهُ. طُوبَى لِجَمِيعِ ٱلْمُتَّكِلِينَ عَلَيْهِ».
(١٠) وقبلما يصيبكم هذا الشر العظيم عليكم بالحكمة والروية. يخاطب أولاً الملوك لأن بيدهم السلطان الزمني والقوة والحكم. ثم يلتفت إلى القضاة ويطلب منهم أن يتعظوا لأن القاضي يتوجب عليه أن يتعظ هو نفسه قبل أن يصدر حكمه على الغير. عليه أن يصدر حكمه على نفسه أولاً:
«لا تنه عن خلق وتأت بمثله».
(١١) وهنا يقرن العظمة الحقة لله وليس للملك وإذا كان هذا الملك هو مسيح الرب المختار فالأوفق طاعته لأن بذلك طاعة الرب أيضاً.
(١٢) وينصح بتقبيل هذا الابن الملكي عربون التماس الرضا منه والطاعة له والخضوع. وإذا لم يكن كذلك ولم تقبلوا النصح ولم تسترشدوا فيكون طريق الإبادة قريباً وأكيداً. إن الرضا والتساهل إلى حين لئلا يحسب ذلك من قبيل الضعف والمسكنة وهذا ليس من شيم الملوك المختارين من الله.
ثم ينهي المرنم كلمته بتوجيه العظمة لله وحده. فالذين يطيعون ترتيبه ويمشون حسب وصاياه فلهم الطوبى لأنهم يستطيعون حينئذ أن يتكلوا عليه ولا يخيبوا.
يذهب البعض إلى ترجمة الكلمة «قبلوا الابن» بمعنى أخلصوا للابن واخدموه.
وقد يكون «طوبى لجميع...» في العدد ١٢ قد زيدت على المزامير حينما استعمل هذا للعبادة.

اَلْمَزْمُورُ ٱلثَّالِثُ


مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ حِينَمَا هَرَبَ مِنْ وَجْهِ أَبْشَالُومَ ٱبْنِهِ


«١ يَا رَبُّ مَا أَكْثَرَ مُضَايِقِيَّ. كَثِيرُونَ قَائِمُونَ عَلَيَّ. ٢ كَثِيرُونَ يَقُولُونَ لِنَفْسِي: لَيْسَ لَهُ خَلاَصٌ بِإِلٰهِهِ. سِلاَهْ».
المزمور الثالث: إن هذا المزمور يرينا اضطهاد المقاومين لداود. هنا في الوقت ذاته يخبرنا المرنم عن قدرة الله وجودته. وعنوان المزمور يكاد يخبرنا عن فحواه وعن تلك الضيقة التي كان يعانيها صاحب المزمور. ألا وهو وقت هربه من وجه ابنه العاصي عليه والمتمرد الذي أراد أن ينتزع الملك من يد أبيه (راجع ٢صموئيل ١٥) فكان داود حزيناً كئيب النفس ليس بالنسبة للحالة السيئة التي هو فيها بل لأن ابنه هو المسبب لذلك. ولا شيء يكسر خاطر الوالدين مثل عقوق الأولاد وقسوتهم على والديهم لا سيما حينما يتقدمون في السن فيحتاجون للعطف والعناية والمداراة أكثر بكثير من أيام قوتهم وشبابهم.
إن داود يصعد جبل الزيتون وهو يبكي كالطفل بينما يسوع نزل عن جبل الزيتون ليصلب. كان داود يودع إلى حين مملكته التي أسسها وحارب من أجلها بينما يسوع يستقبل هتافات الجماهير الصارخة «أوصنا لابن داود. مبارك الآتي باسم الرب». داود عاد بعد حين إلى مملكته الأرضية أما يسوع فقد رفض من الأرض لكي يملك في السماء ويجلس عن يمين العرش في الأعالي.
كان داود الآن في خطر مبين ويجب أن تقرب المخاطر جماعة المؤمنين الحقيقيين إلى الله ولا تبعدهم عنه. كاد يرى داود أن كل شيء قد ذهب من يده وتبع الشعب ابنه بدلاً منه ولكنه كان مطمئناً متقرباً لله - إن المخاطر والتجارب يجب أن تدفعنا للمثول أمام الله بالتوبة وطلب الغفران.
«سلاه» هذه الكلمة قد وردت ثلاث مرات في هذا المزمور كما أنها وردت مرات عديدة في مختلف المزامير ومعناها غير معروف. وبعض مفسري التوراة يهملونها تماماً ويحذفونها ولكن هذا لا يجوز في تداولنا للكتب المقدسة. الترجمة السبعينية قد اعتبرتها كمقطع موسيقي. أو وقف أو تنوع في اللحن والوزن.
(١) يتوجه داود إلى الله ويشكو من كثرة الأعداء المضايقين القائمين عليه وفي العدد ٢ يشكوهم أمام الله إنه يهزأون ويسخرون ويقولون هل الله يخلص؟
«٣ أَمَّا أَنْتَ يَا رَبُّ فَتُرْسٌ لِي. مَجْدِي وَرَافِعُ رَأْسِي. ٤ بِصَوْتِي إِلَى ٱلرَّبِّ أَصْرُخُ فَيُجِيبُنِي مِنْ جَبَلِ قُدْسِهِ. سِلاَهْ. ٥ أَنَا ٱضْطَجَعْتُ وَنِمْتُ. ٱسْتَيْقَظْتُ لأَنَّ ٱلرَّبَّ يَعْضُدُنِي».
(٣) لقد حاول هؤلاء الأعداء أن يزعزعوا إيمانه ويتكلموا بتجديف على العلي ولكن داود يعرض هذا الأمر على الرب ويفعل كما فعل حزقيا حينما عرض كتاب ربشاقي التجديفي أمام الرب واستنجد بخلاصه. وإذا به يتأكد أن الله ترس ومجن. لا يكتفي بأن يحمينا بل يكرمنا ويمجدنا. فإذا كنا ساقطين ينهضنا وإذا ذهبت هيبتنا يعيدنا إلى المقام الأول والهيئة الكاملة. لقد كان داود بحاجة لمثل هذا الإيمان في هذا الوقت العصيب فكان له بواسطته الراحة والطمأنينة. حينما نكون في مصيبة نطأطئ رؤوسنا ونذبل كما تفعل النبتة حينما تحتاج للماء والنضارة. ولكن الله يرفع رؤوسنا وينتشلنا مما نحن فيه. والسبب هو لأن العمل عمله وليس عملنا في الدرجة الأولى فلا نيأس ولا نقنط. قد تأتي أزمنة الضيق والمصاعب فلنتأكد أن كل الأشياء تعمل معاً للخير للذين يحبون الله.
(٤) يصرخ المرنم ويستنجد ولكن ليس عبثاً. قد تكون الظواهر عدم الاستجابة وعدم المبالاة ولكن حاشا لله أن يكون كذلك. حينما نقابل بين ظلمة الله وبهجة النهار علينا أن نشكر الله من أجل هذه المقابلة.
(٥) هنا نوم الهدوء والسكينة بالرغم من عقوق الابن وخيانة الشعب وابتعاد الصديق وتعيير المعيرين وتضعضع الحالة يضطجع كالطفل الصغير في حضن أمه وينام هادئاً سعيداً ثم بعد ذلك يستيقظ إلى يوم آخر من أيام الحياة. تغرب الشمس ثم تعود فتشرق في الصباح وهكذا تتجدد الحياة ولا شيء يكدر صفوها.
ولا شيء يفرج ضيقنا سوى إيمان كهذا. لأن المصائب لا بد أن تأتينا ولا نستطيع أن نطلب من الله أن لا تكون تجارب بل نصلي «ولا تدخلنا في تجربة» أي إذا أتتنا التجارب لا نسقط فيها ولا ننخذل كالذين لا رجاء لهم.
« ٦ لاَ أَخَافُ مِنْ رَبَوَاتِ ٱلشُّعُوبِ ٱلْمُصْطَفِّينَ عَلَيَّ مِنْ حَوْلِي. ٧ قُمْ يَا رَبُّ. خَلِّصْنِي يَا إِلٰهِي. لأَنَّكَ ضَرَبْتَ كُلَّ أَعْدَائِي عَلَى ٱلْفَكِّ. هَشَّمْتَ أَسْنَانَ ٱلأَشْرَارِ. ٨ لِلرَّبِّ ٱلْخَلاَصُ. عَلَى شَعْبِكَ بَرَكَتُكَ. سِلاَه.
ينام مطمئناً هانئاً غير خائف وهكذا يستيقظ فلا يخاف أيضاً من الجمهور المعادي الذي يصطف ضده. هم حوله لا للسند بل للخصام والانتقام. الربوات عشرات الألوف وهذا يعني عدداً كبيراً ليس إلا.
(٧) يبدأ هذا العدد باقتباسه عن صرخة للحرب كانت معروفة في تلك الأيام. وينتقل إلى ما يصيب الأعداء فإذا بهم يضربون على الفك وتتهشم أسنانهم وهذا منتهى الخجل والعار إذ لم يبق لهم سوى الفرار فإنهم لا يستطيعون المواجهة والحكمة تقضي عليهم أن يهربوا ولكن إلى أين وكيف السبيل؟
إن الله ساهر على أولاده ليخلصهم لقد قصد الفلسطينيون كما قصد شاول أن يقضوا على داود ولكنهم لم يستطيعوا وكان نصيبهم الفشل والخذلان.
وداود ينظر للحاضر وينظر للمستقبل أيضاً ويتأكد أن الله عونه الدائم. لم يكن أحد في حالة خطر من حالته ومع ذلك لم يكن أحد ذا شعور بالطمأنينة كشعوره العميق الفياض بذكر مراحم الله وإحساناته. ولا يغرب عن البال إن التسليم لله هو الذي يجعلنا نكتفي به ولا نخاف أي شر.
(٨) وأخيراً يزداد اتكاله حتى يصبح ظافراً بعد أن كان صابراً فقط. فبعد أن بدأ مزموره بذكر قوة أعدائه والقائمين عليه إذا به يتحول الآن إلى أن القوة وحدها لله وهو متكله ومتكل جميع أقاصي الأرض ويختم بحقيقتين:
الأولى: الخلاص من الرب فهو الذي يعده ويعيّن وقته وسبيله. ولا خلاص من إنسان مهما كان كبيراً وعظيماً ولذلك فليس على المتكلين إلا أن يصبروا.
الثانية: بركة الرب تغني كل إنسان ولا سيما شعبه. قد لا نراها بل بعض الأحيان نعد الويلات وننسى الحسنات. وإذا أردنا أن نعيش بسعادة حقة علينا أن نتحقق بركة الرب الدائمة علينا نراها يوماً بعد يوم وفي كل الحالات.


اَلْمَزْمُورُ ٱلرَّابِعُ


لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ عَلَى ذَوَاتِ اَلأَوْتَارِ. مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ


«١ عِنْدَ دُعَائِيَ ٱسْتَجِبْ لِي يَا إِلٰهَ بِرِّي. فِي ٱلضِّيقِ رَحَّبْتَ لِي. تَرَاءَفْ عَلَيَّ وَٱسْمَعْ صَلاَتِي. ٢ يَا بَنِي ٱلْبَشَرِ، حَتَّى مَتَى يَكُونُ مَجْدِي عَاراً! حَتَّى مَتَى تُحِبُّونَ ٱلْبَاطِلَ وَتَبْتَغُونَ ٱلْكَذِبَ! سِلاَهْ. ٣ فَٱعْلَمُوا أَنَّ ٱلرَّبَّ قَدْ مَيَّزَ تَقِيَّهُ. ٱلرَّبُّ يَسْمَعُ عِنْدَ مَا أَدْعُوهُ».
(١) عند الدعاء تستجيب وعند الضيق ترحب. لذلك فالتماسي هو أن ترحم وترأف وتسمع الصلاة.
لا دليل لنا في هذا المزمور أنه كتب في ظرف خاص أو لغاية خاصة بل هو مزمور عام وُضع للتعليم والإرشاد وبوجه عام أيضاً.
هنا يخاطب الله أولاً. ثم في العدد الثاني يخاطب بني البشر. واختبارنا أن الله فرجنا في الضيق وشجعنا في المخاوف وعضدنا في الاضطراب لهو شيء حقيقي.
(٢) والتفاته للبشر هنا يقصد به أن يحوّلهم إلى الله ويريهم أن عدم التقوى هو حماقة لا شك فيها. «يا بني البشر» عليكم أن تبرهنوا عن الإنسانية وحب البشرية التي فيكم. ولأن الإنسان مخلوق على صورة الله فإن تدنيس البشرية هو تدنيس للصورة الإلهية التي فيه (انظروا رومية ١: ٢٣) «وَأَبْدَلُوا مَجْدَ ٱللّٰهِ ٱلَّذِي لاَ يَفْنَى...».
(٣) قد يشير في كلمة «ميّز» إلى أنه المنتخب من الله ليكون ملكاً ولذلك فلا يجوز للأعداء أن يشمتوا به أو يعيروه. وكذلك يحذر الخطاة المنشقين عنه والمبتعدين أنهم سوف يندمون. لأن الله يسمع الدعاء فيندمون على ما فرط منهم من تسرّع وتهوّر.
«٤ اِرْتَعِدُوا وَلاَ تُخْطِئُوا. تَكَلَّمُوا فِي قُلُوبِكُمْ عَلَى مَضَاجِعِكُمْ وَٱسْكُتُوا. سِلاَهْ. ٥ اِذْبَحُوا ذَبَائِحَ ٱلْبِرِّ وَتَوَكَّلُوا عَلَى ٱلرَّبِّ. ٦ كَثِيرُونَ يَقُولُونَ: مَنْ يُرِينَا خَيْراً؟ ٱرْفَعْ عَلَيْنَا نُورَ وَجْهِكَ يَا رَبُّ».
(٤) «ارتعدوا» أو تهيبوا أو اسخطوا وقد تكون أفسس ٤: ٢٦ «اغضبوا ولا تخطئوا» اقتباسة عن هذه. وهنا يقصد التروي في الأمور قبل التسرع لأن هذا خطأ ويجب إصلاحه بسرعة قبل فوات الفرصة. ويجوز أن يتكلموا في قلوبهم على مضاجعهم سراً ولكن لا يجوز أن يجاهروا بأغلاطهم هذه. إن السكوت دليل الاتزان وحسن التروي.
(٥) «ذبائح البر» (انظر تثنية ٣٣: ١٩).
وهنا دليل السرور والغبطة بعد الارتعاد ثم التوكل على الرب لأن به الراحة والطمأنينة والسلام. وفي عرفه يجب أن يسبق التوكل ذبائح البر أي نعترف بجميل الله ونشكره ثم نثق تماماً بجميع مواعيده.
(٦) هنا يتساءل بلسان الحمقى «من يرينا خيراً» كأنهم لا يرون الخير ولا يعترفون بوجوده ذلك لأنهم يعيشون ووجه الرب لا يشرق عليهم. هم الجالسون في الظلمة وظلال الموت.
«يرفع الرب وجهه عليكم» تعبير قديم يقصد به عناية الله والتفاته. وحينما ندير ظهرنا للأمور كأنما نتركها جانباً ولا نعيرها اهتمامنا اللازم.
«٧ جَعَلْتَ سُرُوراً فِي قَلْبِي أَعْظَمَ مِنْ سُرُورِهِمْ إِذْ كَثُرَتْ حِنْطَتُهُمْ وَخَمْرُهُمْ. ٨ بِسَلاَمَةٍ أَضْطَجِعُ بَلْ أَيْضاً أَنَامُ، لأَنَّكَ أَنْتَ يَا رَبُّ مُنْفَرِداً فِي طُمَأْنِينَةٍ تُسَكِّنُنِي».
(٧) كان سروره بخلاص إلهه لسبب روحي تقوي لا لشيء مادي فقط. وهنا يقابل سروره بسرور الناس الآخرين. الحنطة دليل الخير والخمر دليل السعة والبحبوحة. فقد كانوا مسرورين لوجود الحنطة والخمر بكثرة عندهم أما سروره فكان أعظم من ذلك لأن بالله غذاؤه كما وبالله غبطته وسلامه.
(٨) هنا يختم المرنم كلامه بتسليمه التام لمشيئة إلهه وكما يفعل الطفل الصغير حينما يكون محاطاً بعناية أبيه أو أمه فيترك همومه جانباً ويطمئن بالحنان الوالدي. بل يفعل أكثر من ذلك إذ يشعر بالسلام يملأ قلبه فيسلم نفسه لحكم النوم ويرتاح.
ولو كنت منفرداً وحيداً فاني بك في جماعة عظيمة.


اَلْمَزْمُورُ ٱلْخَامِسُ


لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ عَلَى ذَوَاتِ اَلنَّفْخِ. مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ
«١ لِكَلِمَاتِي أَصْغِ يَا رَبُّ. تَأَمَّلْ صُرَاخِي. ٢ ٱسْتَمِعْ لِصَوْتِ دُعَائِي يَا مَلِكِي وَإِلٰهِي، لأَنِّي إِلَيْكَ أُصَلِّي. ٣ يَا رَبُّ، بِٱلْغَدَاةِ تَسْمَعُ صَوْتِي. بِٱلْغَدَاةِ أُوَجِّهُ صَلاَتِي نَحْوَكَ وَأَنْتَظِرُ».
(١) هذا المزمور هو صلاة حينما كان المرنم في حالة الضيق والشدة وقد مرت على داود حالات كهذه كثيرة. ويطلب أيضاً أن الله يتأمل ويتمعن بما يصليه. ذلك لأنه هو نفسه كان يصلي منصرفاً إلى التأمل العميق. والأرجح أنه مزمور للصباح يصليه المتعبد لله قبل أن يقدم الذبيحة.
(٢ و٣) إن الله إذا كنا نصلي إليه لا يستخف بنا بل يصغي ويسمع. إن داود حينما كان يصلي كان ينصرف بالتأملات الروحية العميقة. وقوله «ملكي وإلهي» يحوي الشيء الكثير من المعاني فإن الله هو الملك الحقيقي وداود عبده وهو في الوقت ذاته ممسوح من قبل الله ليكون ملكاً على شعبه نائباً عنه فقط. هنا المرنم يعد الله أربعة مواعيد:

  • إنه يديم الصلاة والتضرع. ولا ينفك يفعل ذلك حتى يستجيب الله له.
  • يصلي بالغداة أي عند الصباح فينصرف لله قبل أن ينصرف لأي إنسان.
  • يوجه صلاته للعرش عن قصد وتصميم وكل كلماته لها أعمق المعاني.
  • وإنه ينتظر فليس الصلاة معناها فقط أن نتكلم مع الله بل أن نصغي إليه.


كم من المرات نفقد قيمة الصلاة لأننا لا ننتظر كفاية. فنحن نفقد الصبر ونستبق الأمور ونستعجل النتائج بينما الله يطلب منها أن ننتظر مراحمه ونثق بمواعيده ونتكل عليه.
إن الترنيمة المسائية السابقة يتبعها في هذا المزمور ترنيمة صباحية ثانية وإن تكن حالة داود تختلف الآن عما كانت عليه عندئذ فقد كان هارباً أما الآن فهو في أورشليم. قوله «ملكي وإلهي» تحوي الكثير من المعاني فإن الملك الحق هو الله وما داود الممسوح من الله سوى نائب عنه. فعليه كما على كل تقي أن يخضع للملك الحق الواحد. المزمور ينقسم لستة أبيات وفيه عناية عظيمة بالألفاظ بينما المعاني بسيطة.
«٤ لأَنَّكَ أَنْتَ لَسْتَ إِلٰهاً يُسَرُّ بِٱلشَّرِّ، لاَ يُسَاكِنُكَ ٱلشِّرِّيرُ. ٥ لاَ يَقِفُ ٱلْمُفْتَخِرُونَ قُدَّامَ عَيْنَيْكَ. أَبْغَضْتَ كُلَّ فَاعِلِي ٱلإِثْمِ. ٦ تُهْلِكُ ٱلْمُتَكَلِّمِينَ بِٱلْكَذِبِ. رَجُلُ ٱلدِّمَاءِ وَٱلْغِشِّ يَكْرَهُهُ ٱلرَّبُّ».
(٤) هنا تصريح هام إن الله إله البر وليس إله الشر وقد يكون المرنم ملفتاً النظر إلى حقيقتين:
الأولى: أن ينبه نفسه والذين يتعبدون إلى وجوب نقاوة الضمير والتمسك بالخير قبل الإقدام على العبادة.
الثانية: يتشجع بأن الله لا يرضى على الشرير لذلك فأعداؤه الأشرار هم أعداء الله أيضاً.
هنا بحث لطيف من أن الله هو مصدر كل خير ولذلك لا يستطيع التغاضي عن أي الشرور مهما كانت صغيرة.
(٥) ثم يذكر المفتخرين أي الذين لا يبالون بصيتهم يهمهم قضاء مآربهم الشخصية. هم الحمقى الذين يبيعون الآجل بالعاجل. هم فاعلو الإثم الذي يقترفون الذنوب ولا يهمهم أن يعترفوا بها ولا يتركوها مصلحين ذواتهم.
(٦) كذلك فإن سبيل المنافقين هو للهلاك والدمار. والذين يسفكون الدماء أو يغشون إخوانهم ويحتالون عليهم هم مكروهون جداً.
يصف داود أعداءه بهذه الكلمات ويؤكد أنهم أعداء الله أيضاً بل هم أعداء أنفسهم لأن نصيبهم سيكون أخيراً للهلاك. ويقسمهم إلى نوعين:
(١) المنافقين الغشاشين.
(٢) القساة الظالمين وأهل الدماء.
«٧ أَمَّا أَنَا فَبِكَثْرَةِ رَحْمَتِكَ أَدْخُلُ بَيْتَكَ. أَسْجُدُ فِي هَيْكَلِ قُدْسِكَ بِخَوْفِكَ. ٨ يَا رَبُّ، ٱهْدِنِي إِلَى بِرِّكَ بِسَبَبِ أَعْدَائِي. سَهِّلْ قُدَّامِي طَرِيقَكَ. ٩ لأَنَّهُ لَيْسَ فِي أَفْوَاهِهِمْ صِدْقٌ. جَوْفُهُمْ هُوَّةٌ. حَلْقُهُمْ قَبْرٌ مَفْتُوحٌ. أَلْسِنَتُهُمْ صَقَلُوهَا. ١٠ دِنْهُمْ يَا اَللّٰهُ. لِيَسْقُطُوا مِنْ مُؤَامَرَاتِهِمْ بِكَثْرَةِ ذُنُوبِهِمْ. طَوِّحْ بِهِمْ لأَنَّهُمْ تَمَرَّدُوا عَلَيْكَ».
(٧) الخطاة يبتعدون عن بيت الله ولا يحبون الدخول إليه وبالعكس داود وأمثاله فهم يفرحون بدخولهم إليه. لذته وشجاعته هو بأن يسجد في الهيكل بخوف الرب وطاعته.
(٨) وهو يرجو أن يتمم عبادته على أحسن وجه بسبب الأعداء الذين يسببون له البعد عن الله والكفر برحمته وإحسانه. فيحتار أي طريق يسلك ويضيع ثم يطلب الهداية وأن تتسهل الطريق أمامه لئلا يعثر ويزلق ويسقط. وفي هذه الطريقة لقد خدمه أعداؤه فقد طلب الهداية والرشاد من الله. ولذلك فقد أصابه الخير بدل الشر ونجا من المصائب والأحابيل التي وضعوها في سبيله وطلب إرشاد الله ونجاته من كل المخاطر. إن الله قد أوضح لنا الطريق أمامنا وعلينا أن نمشي فيها «هذه هي الطريق اسلكوا فيها». علينا أن نؤمن برحمة الله بعد ونثق بمواعيده فهو لا يتخلى عن أولاده.
(٩) هنا وصف تام لأخلاق هؤلاء الأعداء فهم لا يعرفون الصدق. وفي الوقت ذاته متمدنون يقولون ولا يعنون يصاحبون ولا يخلصون. جوفهم هوة لكي يسقطوا الناس فيها وهم لا يبالون بسوى مصالحهم الخاصة. وهم أيضاً قصاة القلب طماعون لا يشبعون كالقبر الذي مهما وضعنا فيه من جثث يظل طالباً المزيد. ومع ذلك فليس من السهل اكتشافهم فهم قد صقلوا ألسنتهم وتظاهروا بالمودة.
(١٠) يطلب من الله أن يدانوا ويحكم عليهم على نسبة ما هم فيه من رذائل «ليسقطوا من مؤامرتهم» اي لتكن تلك الأحابيل التي وضعوها عائدة عليهم بالوبال «لأن من حفر حفرة لأخيه وقع فيها». وهم يستحقون هذا القصاص العادل لأنهم قد تمردوا على الله فلم يكتفوا بالشر مع الإنسان بل تطاولوا وتمردوا وعصوا أوامره تعالى.
«١١ وَيَفْرَحُ جَمِيعُ ٱلْمُتَّكِلِينَ عَلَيْكَ. إِلَى ٱلأَبَدِ يَهْتِفُونَ، وَتُظَلِّلُهُمْ. وَيَبْتَهِجُ بِكَ مُحِبُّو ٱسْمِكَ. ١٢ لأَنَّكَ أَنْتَ تُبَارِكُ ٱلصِّدِّيقَ يَا رَبُّ. كَأَنَّهُ بِتُرْسٍ تُحِيطُهُ بِٱلرِّضَا».

اَلْمَزْمُورُ ٱلسَّادِسُ


لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ عَلَى ذَوَاتِ اَلأَوْتَارِ عَلَى ٱلْقَرَارِ. مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ


«١ يَا رَبُّ، لاَ تُوَبِّخْنِي بِغَضَبِكَ وَلاَ تُؤَدِّبْنِي بِغَيْظِكَ. ٢ ٱرْحَمْنِي يَا رَبُّ لأَنِّي ضَعِيفٌ. ٱشْفِنِي يَا رَبُّ لأَنَّ عِظَامِي قَدْ رَجَفَتْ، ٣ وَنَفْسِي قَدِ ٱرْتَاعَتْ جِدّاً. وَأَنْتَ يَا رَبُّ، فَحَتَّى مَتَى!».
(١) كان داود كإرميا نبياً يبكي ويتألم كان اختباره عميقاً وحقيقياً وهنا في هذا المزمور يصور حالته وهو مريض متعب الجسم والفكر يطلب قوة وشفاء.
فكما أن الأب الحكيم لا يربي أولاده بغضبه أو بغيظه بل ينتظر إلى أن يهدأ وتذهب سورة غضبه فكم بالأحرى الآب السماوي الذي يشفق على أولاده ويرحمهم. إن غايته هو التأديب ورجوع الابن الضال عن شروره.
(٢) يظهر أن النبي كان مريضاً على الأرجح إذ يطلب الشفاء والقوة من مرضه ومن ضعفه. ولكنه يهتم بالعزاء الروحي أكثر مما يهتم بصحة الجسد لذلك يرجو رحمة الله ورضاه. إنه لا يطلب عدم التوبيخ أو التأديب ولكنه يلتمس ذلك بلطف الله فقط.
(٣) حتى متى؟ هنا تساؤل الابن المنتظر من أبيه أشياء كثيرة. كلام عتاب المودة بين رجل مؤمن والرب العظيم ولكنه قريب لجميع أولاده. وأسلوب توسله هو أن يعدد ما به من مصائب وهكذا يود أن يرحمه الله برحمته الغزيرة ويغفر له ذنوبه ويشفيه من أمراضه. «نفسي ارتاعت» لذلك لأنه بعد أن وجد ذاته في هذه الحالة الصعبة كان خوفه عظيماً جداً.
«٤ عُدْ يَا رَبُّ. نَجِّ نَفْسِي. خَلِّصْنِي مِنْ أَجْلِ رَحْمَتِكَ. ٥ لأَنَّهُ لَيْسَ فِي ٱلْمَوْتِ ذِكْرُكَ. فِي ٱلْهَاوِيَةِ مَنْ يَحْمَدُكَ؟ ٦ تَعِبْتُ فِي تَنَهُّدِي. أُعَوِّمُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ سَرِيرِي بِدُمُوعِي. أُذَوِّبُ فِرَاشِي. ٧ سَاخَتْ مِنَ ٱلْغَمِّ عَيْنِي. شَاخَتْ مِنْ كُلِّ مُضَايِقِيَّ».
(٤) يكرر هنا الطلب بأكثر لجاجة فلا يعود يذكر حاجته ومرضه وضعفه بل يستنجد برحمة الله. لأن استحقاقه ليس بالنسبة لما هو فيه بل بالنسبة لما يرجوه من الله الذي يريد له تمام الخير. إن الشجاعة التي نأخذها هي بالأولى حينما نواجه المصاعب ونتغلب عليها واثقين برحمة الله.
(٥) هنا وصف مؤثر لحالة المرنم إذ يقضي أوقاته بالحسرات والتنهدات. يبكي كثيراً حتى أن دموعه تملأ فراشه وتكاد تفيض بالماء بسبب ذلك. ثم يصف عينيه فإذا هي مريضة قد قرحتها ساعات السهاد وأوجعتها الدموع. لقد كان داود شديد العاطفة سريع الانفعال فكم تكون حالته في وقت مرضه وضعفه فإنه يزداد عندئذ حدة في العاطفة واندفاعاً في سبيل تحقيقها.
(٧) علينا حينما نقرأ هذا الوصف أن نخاف من غضب الرب فهو مروع ومخيف ولا صحة في جسمنا أو روحنا بدونه. علينا أن نتضع أمام الله تعالى ونلتمس منه العفو والغفران وحينئذ في أعظم ضيقاتنا هو حاضر أن يعين وينجي.
«٨ اُبْعُدُوا عَنِّي يَا جَمِيعَ فَاعِلِي ٱلإِثْمِ، لأَنَّ ٱلرَّبَّ قَدْ سَمِعَ صَوْتَ بُكَائِي. ٩ سَمِعَ ٱلرَّبُّ تَضَرُّعِي. ٱلرَّبُّ يَقْبَلُ صَلاَتِي. ١٠ جَمِيعُ أَعْدَائِي يُخْزَوْنَ وَيَرْتَاعُونَ جِدّاً. يَعُودُونَ وَيُخْزَوْنَ بَغْتَةً».
(٨) هنا انتقال بديع لطيف من حالة سيئة إلى حالة حسنة. إن الله قد سمع الدعاء واستجاب الصلاة. لقد شكا وبكى وتعذب وانتحب ولكن لم يذهب ذلك عبثاً فقد سمع الله واستجاب. لذلك يطلب من الخطاة وفعلة الإثم أن يبتعدوا عنه فقد ذهبت شماتتهم به ضياعاً. عليه الآن بتجنبهم وهم يسخرون به ويهزأون. لقد مر زمان كانوا فيه الظافرين والآن هو الذي يظفر. وظفره كان بالصبر وطول الأناة ليس إلا. ربما قالوا له قبلاً قول الجهلة أن يترك الله ويسلك مسلكهم. يريدهم أن يذهبوا عنه ولا يجربوه بعد فهو ثابت في وجههم مهما تقلبت الأحوال. يسوع يقول في لوقا ١٣: ٢٧ «تَبَاعَدُوا عَنِّي يَا جَمِيعَ فَاعِلِي ٱلظُّلْمِ».
(٩) إن ثقته بالله عظيمة ويتأكد أنه يسمع التضرع ويقبله. هنا أساس التدين الصحيح أن نعرف بأن الله يسمع ويصغي. قد يمر وقت يظهر أن صلواتنا لا تُستجاب وأن دعاءنا بلا مصغٍ ولكن هذا امتحان الإيمان.
(١٠) ثم يرتد على هؤلاء الأعداء ويوبخهم ويكون الخوف والروعة لهم وليس له. الأثمة لهم زمان يزهرون فيه كالعشب ولكنهم ييبسون. إن الباطل إلى حين مهما عز أنصاره ومهم اختلفت وجوهه وأشكاله. وكذلك فإن الحق وأنصاره هم وحدهم الذين يربحون أخيراً وعلينا إذاً أن نكون شكورين ونتأكد بأن النهاية هي لا شك في صالحنا إذا كنا حقيقة من أولئك الناس المؤمنين الفاضلين.


اَلْمَزْمُورُ ٱلسَّابِعُ


شَجَوِيَّةٌ لِدَاوُدَ، غَنَّاهَا لِلرَّبِّ بِسَبَبِ كَلاَمِ كُوشَ ٱلْبِنْيَامِينِيِّ


«١ يَا رَبُّ إِلٰهِي عَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ. خَلِّصْنِي مِنْ كُلِّ ٱلَّذِينَ يَطْرُدُونَنِي وَنَجِّنِي، ٢ لِئَلاَّ يَفْتَرِسَ كَأَسَدٍ نَفْسِي هَاشِماً إِيَّاهَا وَلاَ مُنْقِذَ. ٣ يَا رَبُّ إِلٰهِي، إِنْ كُنْتُ قَدْ فَعَلْتُ هٰذَا. إِنْ وُجِدَ ظُلْمٌ فِي يَدَيَّ. ٤ إِنْ كَافَأْتُ مُسَالِمِي شَرّاً، وَسَلَبْتُ مُضَايِقِي بِلاَ سَبَبٍ، ٥ فَلْيُطَارِدْ عَدُوٌّ نَفْسِي وَلْيُدْرِكْهَا، وَلْيَدُسْ إِلَى ٱلأَرْضِ حَيَاتِي، وَلْيَحُطَّ إِلَى ٱلتُّرَابِ مَجْدِي. سِلاَهْ».
(١) لا يعلم تماماً من هو كوش هذا (راجع ١صموئيل ٢٢: ٧ و٨). و «شجوبة» ذكرت في (حبقوق ٣: ١). قد يكون كوش هو نفس شاول أو أحد أنسبائه ولا علاقة لبلاد كوش أي الحبشة فيه. هنا يتلجئ إلى الله لأنه عونه ومنقذه.
(٢) يعترف أن عدوه هو كالأسد من حيث الشدة والبطش كذلك شاول فكما ذاك هو ملك الغابة والوحوش كذلك هو ملك إسرائيل ولأنه اعتمد بالأحرى على البطش الجسدي والقوة العضلية لذلك فكان أقرب لامتياز الحيوان منه لامتيازات الإنسان.
(٣ و٤) هنا جملتان شرطيتان يحاول فيهما داود أن يرفع عن نفسه أية تهمة ويبرأ نفسه من كل ما نسب إليه. يطرح نفسه أمام الله الذي يفحص القلوب ويختبر الكلى ويطلب منه تعالى أن يدينه إذا كان فيه شيء من الشر أو من أضمر الشر من قبل. لذلك فهو لا يستحق مثل هذه المعاملة التي تجعله لا يستقر في مكان بل يظل شارداً مطروداً لا أمان على حياته. وقوله «سلبت» قد تكون إشارة إلى (١صموئيل ٢٤: ٧ و١٠ و١١).
(٥) فإذا كان لم يفعل شيئاً من ذلك فلا مبرر لعدوه شاول أن يطارده هذه المطاردة ويحرمه لذة العيش والمنام. وإن كان يفعل فحيئنذ يكون مبرر لأن يطارده ويدوسه إلى الأرض ويسحقه سحقاً. يود داود أن يظهر براءته ولأنه كذلك فهو محفوظ ومحروس ومجده سيزداد ارتفاعاً ولمعاناً كلما مرت الأيام.
«٦ قُمْ يَا رَبُّ بِغَضَبِكَ. ٱرْتَفِعْ عَلَى سَخَطِ مُضَايِقِيَّ وَٱنْتَبِهْ لِي. بِٱلْحَقِّ أَوْصَيْتَ. ٧ وَمَجْمَعُ ٱلْقَبَائِلِ يُحِيطُ بِكَ، فَعُدْ فَوْقَهَا إِلَى ٱلْعُلَى. ٨ ٱلرَّبُّ يَدِينُ ٱلشُّعُوبَ. ٱقْضِ لِي يَا رَبُّ كَحَقِّي وَمِثْلَ كَمَالِي ٱلَّذِي فِيَّ. ٩ لِيَنْتَهِ شَرُّ ٱلأَشْرَارِ وَثَبِّتِ ٱلصِّدِّيقَ. فَإِنَّ فَاحِصَ ٱلْقُلُوبِ وَٱلْكُلَى ٱللّٰهُ ٱلْبَارُّ. ١٠ تُرْسِي عِنْدَ ٱللّٰهِ مُخَلِّصِ مُسْتَقِيمِي ٱلْقُلُوبِ».
(٦) يطلب من الرب أن يغضب كغضب أعدائه فإٍن كان هؤلاء لأجل الظلم فغضب الله لأجل إحقاق الحق وإجراء العدالة. إن الرب يرتفع فوق الجميع لذلك يستطيع أن يرى الجميع ويجازي كل واحد عما فعل. يلتمس أن ينتبه إليه لأنه يتبع الحق والرب إله حق ولا ظلم فيه البتة. ما أسمى هذا الفكر فإن الله يغضب ولكنه يرتفع بغضبه ويسمو بسخطه لأنه يجازي المسيء لكي يرجع عن إساءته ويقاص المذنب لكي يتوب عن ذنبه.
(٧) كإنما يريد أن يجمع إلى نفسه العديد من القبائل لكي يشهدوا على ما يفعل وهنا بذرة لفكرة الدينونة حينما يجتمع الناس يوم الدين كما هو مذكور في (متّى ٢٥) ويكون الجزاء علانية أمام الجميع وبعد أن ينهي مهمته معهم يعود إلى حيث أتى.
(٨) هنا المرنم لا يخاف من عاقبة الدينونة بل يتأكد أن الله يحبه. وهو لا يطلب أكثر من حقه ولا يلتمس مكافأة إلا على نسبة الكمال الذي فيه. ثم في العدد (٩) يريد من الله أن ينهي شر الأشرار ولا يبقى سوى الصديقين وما يقدمونه وما يفعلونه. لأن الأشرار هم كالعصافة التي تطير وتذريها الريح وأما الأبرار فهم ذوو وزن وثابتون يقاومون الريح ويقفون في وجهها.
إن الله يعرف الخفايا ويفحص كل شيء ولا يمكن أن يدوم تسيطر الأشرار كل الوقت.
(١٠) إن الله ترس به نتقي سهام الأعداء وضرباتهم القاسية. نحن بدون وقايته وحمايته نسقط ونتحطم أما بمساعدة الله فلا خوف علينا. هو الذي يدافع عنا ويقينا ويسندنا لدى العثار وينشلنا. ذلك لأنه يريد أن تتم إرادته في العالم فقد يخالف الناس هذه الإرادة ويعصون مشيئته ولكن ليس في كل وقت.
«١١ اَللّٰهُ قَاضٍ عَادِلٌ وَإِلٰهٌ يَسْخَطُ فِي كُلِّ يَوْمٍ. ١٢ إِنْ لَمْ يَرْجِعْ يُحَدِّدْ سَيْفَهُ. مَدَّ قَوْسَهُ وَهَيَّأَهَا، ١٣ وَسَدَّدَ نَحْوَهُ آلَةَ ٱلْمَوْتِ. يَجْعَلُ سِهَامَهُ مُلْتَهِبَةً. ١٤ هُوَذَا يَمْخَضُ بِٱلإِثْمِ. حَمَلَ تَعَباً وَوَلَدَ كَذِباً. ١٥ كَرَا جُبّاً. حَفَرَهُ، فَسَقَطَ فِي ٱلْهُوَّةِ ٱلَّتِي صَنَعَ. ١٦ يَرْجِعُ تَعَبُهُ عَلَى رَأْسِهِ وَعَلَى هَامَتِهِ يَهْبِطُ ظُلْمُهُ. ١٧ أَحْمَدُ ٱلرَّبَّ حَسَبَ بِرِّهِ. وَأُرَنِّمُ لٱسْمِ ٱلرَّبِّ ٱلْعَلِيِّ».
(١١) بالطبع لا يتنافى العدل مع السخط قط فإنه كثير الأحيان يجب أن نسخط ونغضب وعلينا أن نفعل ذلك على نسبة الشر الذي يحيط بنا. علينا أن نسخط على الشر ولكن نخلص الشرير منه ولا نخلط بين الأمرين. هو إله عادل لذلك يجازي كل إنسان بما صنع.
(١٢) ويشبه الله بأنه متسلح بسيف محدد ماض مستعد دائماً أن يضرب به. وهو أيضاً قد مد قوسه وهيأها للرمي حتى يصيب بنبالها كل شيء.
(١٣) وإذا به يسدد الرماية وإذا بسهامه كإنما ألسنة من نار ملتهبة تذهب بعيداً وتحرق كل من تصيبه.
إذاً فهو لا يغار من الشرير ولا يحسده لأن نهايته محتومة وطريقه معروفة ولأنه يسلكها فهو سيصل إلى الهلاك أخيراً.
(١٤) إن تعبه هو كتعب الوالدة في المخاض أما هذه فلكي تلد حياة وأما ذاك فيلد إثماً ويكثر شراً على الأرض. ثم يكرر الاستعارة ويرينا أنه بعد حمله وما نواه في قلبه إذا به كذب وبهتان كل مقاصده.
(١٥) ولكن هذا الشر الذي يضمره هو كحافر الحفرة لأخيه هو أول من يسقط فيها. قصد أن يسقط غيره فسقط هو أولاً لذلك فعلى الأشرار أن يتأكدوا أن مصيرهم سيعود عليهم وضررهم سليحقهم قبل أي إنسان يقصدونه.
(١٦) وإذا بالويل الذي يقصده ويحمله يرجع عليه أولاً ويسقط على هامته ويتحطم تحطيماً.
والظالم لا شك سيبلى بأظلم. إلا فليعتبر أولو الشر ومحبذوه وليخافوا وليرجعوا إلى الله بالتوبة وطلب الغفران قبل أن يأتي وقت الدين.
(١٧) ثم ينهي هذا المزمور بالحمد والتسبيح فهو قد اتكل على الرب ولا يخيب بل سوف ينتظر خيراً. فقد افتتح المزمور بالاتكال على الرب وطلب حمايته والرب قد حماه وأعطاه اليقين بعاقبة اتكاله هذا وما عليه الآن إلا أن يرنم ويسبح لاسمه القدوس العلي.


اَلْمَزْمُورُ ٱلثَّامِنُ


لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ عَلَى ٱلْجَتِّيَّةِ. مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ


«١ أَيُّهَا ٱلرَّبُّ سَيِّدُنَا، مَا أَمْجَدَ ٱسْمَكَ فِي كُلِّ ٱلأَرْضِ، حَيْثُ جَعَلْتَ جَلاَلَكَ فَوْقَ ٱلسَّمَاوَاتِ! ٢ مِنْ أَفْوَاهِ ٱلأَطْفَالِ وَٱلرُّضَّعِ أَسَّسْتَ حَمْداً بِسَبَبِ أَضْدَادِكَ، لِتَسْكِيتِ عَدُوٍّ وَمُنْتَقِمٍ. ٣ إِذَا أَرَى سَمَاوَاتِكَ عَمَلَ أَصَابِعِكَ، ٱلْقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ ٱلَّتِي كَوَّنْتَهَا»
(١) هذا المزمور مقتبس منه جداً في العهد الجديد حتى أن الرب يسوع ذاته قد استشهد أكثر من مرة. يبدأ هذا المزمور بتمجيد اسم الرب وكذلك ينتهي. واسمه ممجد في كل الأرض وفي كل المخلوقات. فهو الخالق وهو المعتني بجميع مخلوقاته هو مصدر الكون والسلطان والكمال. وهو الحاكم المطلق والمدير الحكيم ولا مرد لأحكامه. وجلاله فوق السموات حيث الملائكة والمقدسون يمجدونه في الليل والنهار على صورة هي فوق إدراكنا البشري.
(٢) إن الله يصغي لأصوات الأطفال الصغار الذين يسبحون لاسمه (راجع متّى ٢١: ١٦) وكذلك من جهة روحية فإن الله يستخدم البسطاء والجهلاء لكي ينشر بواسطتهم أنوار معرفته وخلاصه. وكلمة حمد هنا يمكن إبدالها بعز أو قوة أي إن الله يستطيع أن يظهر قوته بأضعف مخلوقاته وهم الأطفال الصغار الذين يحتاجون للعناية الحنونة التامة حتى ينموا ويكبروا ولكن هؤلاء الأطفال أنفسهم سيكونون أساساً صالحاً للمستقبل. والمرنم وهو ينظر للقمر والنجوم تسبح الله كذلك يرى الأطفال والرضع يفعلون ذلك لإظهار مجد الله العظيم.
(راجع أيضاً ١كورنثوس ١٠: ٢٧) فإن الله قد قصد أن يجعل من الأمور الاعتيادية أشياء غير عادية وذلك لغرض تسكيت العدو والمنتقم.
(٣) ثم يمدّ المرنم بصره نحو السماء. فيرى القمر بشعاعه الأبيض اللطيف والنجوم الزهر اللامعة السابحة في الفضاء القريب والبعيد. هذه السماء الصافية الأديم عادة في فلسطين أكثر أشهر السنة هي ذاتها يراها الشاعر القديم فيندهش من عظم وجلال هذا الكون بل من عظمة الخالق الذي أوجد هذا الكون المدهش العجيب والمرنم هنا بدلاً من أن يقع في تجربة عبادة الأجرام السماوية كما فعل الكلدان الأقدمون نجده يتخذ هذه السموات اللامعة بنجومها دليلاً على عظمة الخالق وهكذا ينصرف للخشوع والتعبد وتعظيم اسم الله كلما ازداد تمعناً وتفكيراً ويكون ذلك سبب ورع قلبي حقيقي.
«٤ فَمَنْ هُوَ ٱلإِنْسَانُ حَتَّى تَذْكُرَهُ وَٱبْنُ آدَمَ حَتَّى تَفْتَقِدَهُ! ٥ وَتَنْقُصَهُ قَلِيلاً عَنِ ٱلْمَلاَئِكَةِ، وَبِمَجْدٍ وَبَهَاءٍ تُكَلِّلُهُ. ٦ تُسَلِّطُهُ عَلَى أَعْمَالِ يَدَيْكَ. جَعَلْتَ كُلَّ شَيْءٍ تَحْتَ قَدَمَيْهِ. ٧ ٱلْغَنَمَ وَٱلْبَقَرَ جَمِيعاً، وَبَهَائِمَ ٱلْبَرِّ أَيْضاً».
(٤) من هو الإنسان؟ لا يستعمل ابن آدم المخلوق على صورة الله بل الإنسان وتأتي الكلمة العبرانية بمعنى الضعيف المتقلب. ثم يقول ابن آدم أي ذلك المخلوق على صورة خالقه. هذا الإنسان ما هو؟ وما هو مقامه في هذا الوجود الشامل العظيم؟
(٥) والملائكة هنا «إلوهيم» أي نفس كلمة الله أي تنقصه قليلاً عن درجة الألوهية. وتزيد عليه بأن تكلله بالمجد والبهاء. والحق يقال أنه لم يكن تمييز كبير بين الآلهة ورسل الآلهة الذين هم الملائكة وفكرة الروح ومتعلقاتها كان لها تاريخ طويل في التطور. فقد حسب كاتب سفر التكوين أن الله يمشي في جنة عدن ويتكلم مع آدم وحواء ثم مع إبراهيم وبعد ذلك نجد الفكر تتطور حينما يصعد موسى على جبل سيناء وإذا به إله بعيد مخوف إله برق ورعد حتى خاف الناس أن يقتربوا أو يمسوا الجبل. والمرنم قد افتكر أن الملائكة هم خدام الله وهم لا شك في صورة الله ولذلك فالإنسان ينقص عنهم قليلاً لأنه في الجسد بينما أولئك في الروح. فهو أوطى منهم لأنه مصنوع من تراب ومن مادة ليس إلا بالعكس عن أولئك.
(٦) يكلله بالمجد والبهاء. ويسلطه على أعمال يديه. إن شارة السلطة في الإكليل يجب أن يعقبها الممارسة ووضعها موضع العمل والتنفيذ. إن الإنسان هو سيد المخلوقات ولكن على شرط أن يتصرف كالسيد لا العبد وعليه أن يخضع الأشياء لنفسه ولا يخضع نفسه للأشياء وإلا كان أدنى منها وأقل قيمة وهو قد وجد ليكون أعظم منها بما لا يقاس. يذكر أيوب ٢٥: ٦ «فَكَمْ بِٱلْحَرِيِّ ٱلإِنْسَانُ ٱلرِّمَّةُ وَٱبْنُ آدَمَ ٱلدُّودُ».
ولكن هذا الإنسان نفسه في عمانوئيل يصبح ذا قيمة عظيمة بالخلاص الذي أعده الله للفداء بابنه الوحيد. والإنسان ملك ومملكته هذه الدنيا التي أوجدها الله. يتصرف بها كما يشاء على شرط أن لا يضر بنفسه ولا بأخيه الإنسان وإلا يكون قد أعطى ملكاً ولم يحسن سياسته.
(٧) هنا يبدأ بوصف مدى سلطة هذا الإنسان فيذكر الغنم والبقر وكافة الحيوانات ووحوش البرية. ثم يذكر السمك كما يذكر طيور السماء ويختم المزمور كما افتتحه بتمجيد اسم الله وتسبيحه.
«٨ وَطُيُورَ ٱلسَّمَاءِ، وَسَمَكَ ٱلْبَحْرِ ٱلسَّالِكَ فِي سُبُلِ ٱلْمِيَاهِ. ٩ أَيُّهَا ٱلرَّبُّ سَيِّدُنَا، مَا أَمْجَدَ ٱسْمَكَ فِي كُلِّ ٱلأَرْضِ!».


اَلْمَزْمُورُ ٱلتَّاسِعُ


لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ. عَلَى «مَوْتِ ٱلٱبْنِ». مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ ولكن ديلتش يقول: ترنيمة للقاضي البار بعد انكسار الشعوب المعادية. ولايوجد ذكر لموت ابن قط.


«١ أَحْمَدُ ٱلرَّبَّ بِكُلِّ قَلْبِي. أُحَدِّثُ بِجَمِيعِ عَجَائِبِكَ. ٢ أَفْرَحُ وَأَبْتَهِجُ بِكَ. أُرَنِّمُ لٱسْمِكَ أَيُّهَا ٱلْعَلِيُّ. ٣ عِنْدَ رُجُوعِ أَعْدَائِي إِلَى خَلْفٍ يَسْقُطُونَ وَيَهْلِكُونَ مِنْ قُدَّامِ وَجْهِكَ، ٤ لأَنَّكَ أَقَمْتَ حَقِّي وَدَعْوَايَ. جَلَسْتَ عَلَى ٱلْكُرْسِيِّ قَاضِياً عَادِلاً».
(١) إن العنوان «موت الابن» لا يدل قط على موضوع المزمور بل الأرجح هنا إشارة للحن ليس إلا. إذ المزمور يتناول موضوع تمجيد الرب لانتصاره على أعدائه.
الأرجح أنه مزمور وضع للابتهاج بانتصار أحرزه داود على أعداء الله وأعدائه. ويبدأ كل قسم من العددين الأولين بهمزة الوصل. يود المرنم أن يبتهج بكل جوارحه بهذا الحمد الذي يتلوه بل يود أن يحدث بجميع العجائب التي أجراها الرب وتممها.
(٢) قد يكون نظمه بمناسبة الحادثة المذكورة (٢صموئيل ٦: ٨). وقوله العلي هو نعت لاسم الله وليس كما ذهب البعض اسم علم للعزة الإلهية.
(٣) حينما نذكر حادثة رحمة جرت لنا في الوقت الحاضر علينا أن نذكر أيضاً مراحم كثيرة سابقة لأنه الله يديم مراحمه علينا ولا ينسانا.
(٤) يعطي المجد لله في الانتصار على الأعداء فالفضل بذلك كله لله. هو القاضي والحاكم بين البشر ما يشاؤه يكون وما لا يشاؤه فهو باطل من أساسه. علينا أن نعتمد على قضاء الله وعدله في الأحكام إذ نحن لا نستطيع أن نفهم أعماله كلها وعلينا أن نكتفي بالخضوع والطاعة فقط. قد ينسى المُساء إليه ولكن لا ينسى الله فهو بنفسه يقيم الدعوى على المسيء ويحكم عليه ويؤدبه على نسبة أفعاله الرديئة وهو قد يبطئ ولكنه أكيد سيأتي وسيفعل كل شيء في حينه.
«٥ ٱنْتَهَرْتَ ٱلأُمَمَ. أَهْلَكْتَ ٱلشِّرِّيرَ. مَحَوْتَ ٱسْمَهُمْ إِلَى ٱلدَّهْرِ وَٱلأَبَدِ. ٦ اَلْعَدُوُّ تَمَّ خَرَابُهُ إِلَى ٱلأَبَدِ. وَهَدَمْتَ مُدُناً. بَادَ ذِكْرُهُ نَفْسُهُ. ٧ أَمَّا ٱلرَّبُّ فَإِلَى ٱلدَّهْرِ يَجْلِسُ. ثَبَّتَ لِلْقَضَاءِ كُرْسِيَّهُ، ٨ وَهُوَ يَقْضِي لِلْمَسْكُونَةِ بِٱلْعَدْلِ. يَدِينُ ٱلشُّعُوبَ بِٱلٱسْتِقَامَةِ».
(٥) يشير المرنم على ما يظهر إلى حادثة خلاص خاصة كتلك المذكورة في (٢صموئيل ٢٢). إن الله قد رفض شاول وأخذ لنفسه داود ورفعه إلى عرش إسرائيل بعد أن باد كل سلالة شاول تقريباً. وهكذا كان داود وسيلة للانتصار على الأمم المجاورة التي حاربها وانتصر عليها. وتم على يده إخضاع كل عدو خرب مدن إسرائيل أو حاول تخريبها. وقد كان عمل داود الحربي موفقاً إلى درجة بعيدة حتى انمحت هذه الأمم عن بكرة أبيها ولم يبق سوى ذكر ضئيل. كالعمونيين والعمالقة (١صموئيل ٨: ١٢).
(٦) كذلك في العدد السادس يوجد توكيد لما ورد في العدد الخامس السابق. وأعداء الله هم أعداء داود كما أن أعداء داود يحسبهم أعداء الله. وهكذا فإن أولئك الملوك العظام مع أمم شهيرة قد هدمت مدنهم وأصبح كل شيء خراباً بل أن السكان أنفسهم قد بادوا. وقد كان يسمح في شريعة الحرب في تلك الأيام أن يحرموا السكان حتى النساء والأطفال وهذا من الفظاعة والهول بمكان عظيم. ويظهر أن التاريخ يعيد نفسه اليوم وقد أصبحت الحروب الحديثة بما فيه من طائرات وقاذفات وقنابل ذرية تتناول المدنيين كما تتناول العسكريين على السواء.
(٧ و٨) وما أجمل المقابلة هنا فالعدو يذهب ولكن الله يبقى الأمم تمحى وتباد ولكن الله يجلس ويثبت كرسيه إلى الدهر. ولنا من هذا بعض الأفكار:

  • إن الله أبدي الأيام.
  • وله السلطة والقضاء على كل شيء.
  • وهو العادل البار وكل تدبيراته هي بملء الحكمة ولا استثناء في ذلك البتة.
  • ويتضمن القول عناية خاصة بشعبه المختار.


إن مجد الأمم وملوكها زائل لا محالة حتى أعظم الفاتحين والغزاة هم كالعشب يظهر قليلاً ثم يضمحل. ولكن الله الساكن في صهيون هو وحده يبقى متسربلاً بالمجد والجلال ويجلس حسب فكر المرنم في كرسي الرحمة فوق تابوت العهد في الهيكل. وهكذا فإن الخطاة من شعبه يستطيعون أن يقبلوا إليه بتقديم فروض العبادة والذبائح المختلفة وهو يقبلهم لأنه يعطي الخلاص وحينئذ عليهم أن يقدموا له المديح والثناء ويتعلموا أن يطلبوا وجهه ويخدموه.
«٩ وَيَكُونُ ٱلرَّبُّ مَلْجَأً لِلْمُنْسَحِقِ. مَلْجَأً فِي أَزْمِنَةِ ٱلضِّيقِ. ١٠ وَيَتَّكِلُ عَلَيْكَ ٱلْعَارِفُونَ ٱسْمَكَ. لأَنَّكَ لَمْ تَتْرُكْ طَالِبِيكَ يَا رَبُّ. ١١ رَنِّمُوا لِلرَّبِّ ٱلسَّاكِنِ فِي صِهْيَوْنَ. أَخْبِرُوا بَيْنَ ٱلشُّعُوبِ بِأَفْعَالِهِ. ١٢ لأَنَّهُ مُطَالِبٌ بِٱلدِّمَاءِ. ذَكَرَهُمْ. لَمْ يَنْسَ صُرَاخَ ٱلْمَسَاكِينِ».
(٩) كلمة ملجأ العبرانية «משגכ» تفيد معنى مكان مرتفع حصين. لا يزداد المعنى جمالاً بقوله هو ملجأ المنسحق الذي لا ملجأ له ولا معين. قد لا يظهر الله بعض الأحيان أنه مخلّص شعبه من كل ضيقاتهم ولا يظهر كأنه ينتقم لهم من أعدائهم. ولكن هنا مجال الإيمان يجب أن نؤمن بذلك ونتيقنه مهما ادلهمت الأحوال حولنا وتكاثرت الضيقات وحينئذ نشعر بتلك الطمأنينة المسكنة للنفوس.
(١٠) ولا يكفي أن نلتجئ إلى الله هاربين من الأعداء حولنا بل علينا أن نتكل عليه أيضاً. فليس المهم أن نختبئ بصورة سلمية بل أن نفعل بصورة إيجابية. وقوله العارفون اسمك أي المعترفون به جهاراً لا يخجلون من إذاعة فضله ونشر عوارفه المتواصلة لنا أجمعين. وهؤلاء المتكلون يصوّرهم أنهم يطلبون الله ويسيرون وراءه يفتشون عنه ويقرأون أسرار محبته وعظمته في كل ظواهر الحياة حولهم. إن فضل الله عميم ونعمته شاملة فمن جهته تعالى هو ذات الشيء للجميع ولكن يتوقف تمتعنا بنعمته على مقدار ما نأخذ منا. لا ذنب للشمس إذا لم تصل أشعتها للغرفة طالما الأبواب والنوافذ مقفلة علينا أن نفتحها لتدخل إلينا بنورها المحيي وحرارتها المنعشة. كلما اتكلنا على الرب كلما وجدنا أن اتكالنا كان في محله فهو الآب الأبدي الذي لا يتخلى عن أولاده المتكلين عليه والراجين رحمته.
(١١) هنا يمتلئ قلب المرنم بالشعور العميق ويشرع بالترنيم بل يطلب من الآخرين أن يرنموا أيضاً. هو شيء طبيعي إنه حينما نكون متأثرين بأية العواطف إن في الفرح أو الحزن إن في الفرج أو الضيق فإننا نحس بالموسيقى تنعشنا والترنيم يقلل همومنا. ولا يكفي أن نترنم سراً في صهيون حيثما الرب يسكن بل أن نرفع صوتنا عالياً ونخبر بما فعله الرب لنا من عظائم. كثيرون ينالون الفضل ولكن قلما يذكرون فلا يكن ذلك في المؤمنين علينا أن نخبر ونعيش شاكرين.
(١٢) لا بد للديان العادل من أن يدين العالمين. هو يطالب الحق الذي ديس والدم المراق والإثم الذي اقترف. منذ الخليقة حينما قال الله لقايين «أَيْنَ هَابِيلُ أَخُوكَ؟ صَوْتُ دَمِ أَخِيكَ صَارِخٌ إِلَيَّ مِنَ ٱلأَرْضِ» (راجع تكوين ٤: ٨ وأيضاً تثنية ٣٢: ٤٣ وأيضاً إشعياء ٢٦: ٢١ وأيضاً إرميا ٥١: ٣٥).ٍ إن الحياة كلها والروحية منها بالأخص مرتبطة بنظام لا تتعداه فكل من يخالفه يعاقب.
«١٣ اِرْحَمْنِي يَا رَبُّ. ٱنْظُرْ مَذَلَّتِي مِنْ مُبْغِضِيَّ، يَا رَافِعِي مِنْ أَبْوَابِ ٱلْمَوْتِ. ١٤ لِكَيْ أُحَدِّثَ بِكُلِّ تَسَابِيحِكَ فِي أَبْوَابِ ٱبْنَةِ صِهْيَوْنَ، مُبْتَهِجاً بِخَلاَصِكَ. ١٥ تَوَرَّطَتِ ٱلأُمَمُ فِي ٱلْحُفْرَةِ ٱلَّتِي عَمِلُوهَا. فِي ٱلشَّبَكَةِ ٱلَّتِي أَخْفَوْهَا ٱنْتَشَبَتْ أَرْجُلُهُمْ. ١٦ مَعْرُوفٌ هُوَ ٱلرَّبُّ. قَضَاءً أَمْضَى. ٱلشِّرِّيرُ يَعْلَقُ بِعَمَلِ يَدَيْهِ. (ضَرْبُ ٱلأَوْتَارِ). سِلاَهْ».
(١٣ و١٤) هنا ينصرف المرنم للصلاة وينتظر الرحمة من الله. أما ديلتش فلا يرى في هذين العددين صلاة بل متابعة طبيعية للموضوع ذاته. على كلٍّ فإن المرنم يلتمس أن ينقذ من لجة الموت أو هاويته ويرفع قبل أن تطبق عليه ويبتلع. لقد كانت الكنيسة في تاريخها مرات كثيرة مشرفة على أبواب الموت ولكن شكراً للمخلص الذي قال «وأبواب الجحيم لن تقوى عليها». وفي العدد الرابع عشر يذكر المرنم الغرض من هذا الخلاص وهو أن يحدث بمراحم الله ويذكر إحساناته العميقة. يطلب أن يرفع من أبواب الموت لكي يقف في أبواب أورشليم وشتان بين وقوف ووقوف. كان ساقطاً في الحفرة السفلى وإذا به يلتمس أن يرتفع للعلى. وذكر الأبواب هنا لأنها أول ما يرى ولا تزال العادة في بلاد المشرق أن يجلس الشيوخ على أبواب المدينة للحديث والمسامرات. والقصد أن الله يرفعه من ذلك ووحدته إلى الابتهاج والاجتماع مع جمهور الناس فرحاً بالخلاص. وهنا يطلب المرنم مجد الله وليس مجد نفسه إذ قصده أن يسبّح مبتهجاً بخلاص الرب.
(١٥) هؤلاء الأمم عملوا حفرة ولكنهم سقطوا فيها على حد المثل «من حفر حفرة لأخيه وقع فيها». قال الدكتور كلارك «لا شيء يفعله الشرير وهو ليس ضد نفسه». إن الشر يصيب الشرير أولاً مهما حاول التهرب منه. يظهر أحياناً أن الشرير كإنما يستطيع أن يتغلب على مقاصد الله فيسرح ويمرح غير حاسب لشيء حساباً. ولكن هل هذا صحيح الآن؟ وهل سيبقى كذلك دائماً. يصوّر المرنم أن الشرير سقط في حفرته وكذلك نشبت رجله في الشبكة نفسها التي نصبها لغيره. فبدلاً من أن يصيد أصبح فريسة.
(١٦) ذلك لأن الرب سيقضي القضاء العادل على كل إنسان. وهو معروف أو معرّف نفسه (قابل حزقيال ٣٨: ٢٣) وإن الشرير ينال الجزاء الذي جنته يداه فهو فكر وارد في (أيوب ٣٤: ١١ وكذلك إشعياء ١: ٣١).
وينتهي العدد بموسيقى ضرب أوتار ثم سلاه.
«١٧ اَلأَشْرَارُ يَرْجِعُونَ إِلَى ٱلْهَاوِيَةِ، كُلُّ ٱلأُمَمِ ٱلنَّاسِينَ ٱللّٰهَ. ١٨ لأَنَّهُ لاَ يُنْسَى ٱلْمِسْكِينُ إِلَى ٱلأَبَدِ. رَجَاءُ ٱلْبَائِسِينَ لاَ يَخِيبُ إِلَى ٱلدَّهْرِ. ١٩ قُمْ يَا رَبُّ. لاَ يَعْتَزَّ ٱلإِنْسَانُ. لِتُحَاكَمِ ٱلأُمَمُ قُدَّامَكَ. ٢٠ يَا رَبُّ ٱجْعَلْ عَلَيْهِمْ رُعْباً، لِيُعْلَمَ ٱلأُمَمُ أَنَّهُمْ بَشَرٌ. سِلاَهْ».
(١٧ و١٨) هنا تكرار وتوكيد للمعنى الوارد في العدد السابع وما يليه. فالأشرار نصيبهم الموت أو الرجوع للهاوية والتراب (انظر تكوين ٣: ١٩) هم ينسون الله ويعيشون بدونه بينما في العدد الثامن عشر فالله لا ينسى الراجع إليه بل هو رجاء ثابت أكيد (انظر إشعياء ١٩: ٢٢).
يشجع المرنم شعب الله أن ينتظروا الرب أكثر وأن يصبروا له ولا يتذمروا من حالة هم فيها على رجاء حالة أفضل سيكونون فيها في المستقبل.
(١٩) يطلب أن تكون العزة لله وليس للإنسان مهما شمخ وتكبر وعظم. يود المرنم أن يرى الله يظهر قوته وجبروته فلا يسود الأشرار بل يخضعون لله العلي. لأنه إذا اعتز الإنسان أذل أخاه الإنسان واستعبده ولكن إذا اعتز الله في قلوب الناس أصبحوا أسياداً على أنفسهم بالحق وأحراراً. إن خير البشرية يتوقف على مقدار ما تستطيع أن تتذلل به أمام الله وبالعكس فإن الشر كله حينما ننسى الله. وقوله «قم يا رب» مأخوذة عن موسى (راجع عدد ١٠: ٣٥).
(٢٠) كذلك فالمرنم يطلب من الله أن يرعبهم ويخيفهم. إذا عاشوا بدون هيبة الله وسلطته عاثوا في الأرض فساداً ليس إلا. والإنسان يجب أن يعيش لا يعيث. وهنا بذور فكرة أن الله هو ديان العالمين. فالرعب هو الخوف الشديد (انظر ملاخي ٢: ٥) والقصد هو أن يعلموا أنهم بشر لا أكثر ولا أقل. إن كثيراً من الويلات مسببة لأن الناس يحسبون أنفسهم أكثر من عامة البشر أو أقل منهم. وهكذا نجد التفرقات العرقية والجنسية ومحاولة التفاوت وبسط السيادة باسم قومية أعلى من أخرى. ولكن الله واحد وقد خلق البشر من أبوين أولين والفروقات بين البشر طفيفة جداً وعليهم أن يشعروا بالأخوة البشرية ويعملوا في سبيلها وإلا يلقى عليهم رعب الديان العادل الذي سيطالهم ولو بعد حين.


اَلْمَزْمُورُ ٱلْعَاشِرُ


«١ يَا رَبُّ، لِمَاذَا تَقِفُ بَعِيداً؟ لِمَاذَا تَخْتَفِي فِي أَزْمِنَةِ ٱلضِّيقِ؟ ٢ فِي كِبْرِيَاءِ ٱلشِّرِّيرِ يَحْتَرِقُ ٱلْمِسْكِينُ. يُؤْخَذُونَ بِٱلْمُؤَامَرَةِ ٱلَّتِي فَكَّرُوا بِهَا. ٣ لأَنَّ ٱلشِّرِّيرَ يَفْتَخِرُ بِشَهَوَاتِ نَفْسِهِ، وَٱلْخَاطِفُ يُجَدِّفُ. يُهِينُ ٱلرَّبَّ. ٤ ٱلشِّرِّيرُ حَسَبَ تَشَامُخِ أَنْفِهِ يَقُولُ: لاَ يُطَالِبُ. كُلُّ أَفْكَارِهِ أَنَّهُ لاَ إِلٰهَ».
(١) إن الترجمة السبعينية تضم هذا المزمور مع المزمور التاسع وتجعلهما واحداً. أما التوراة العبرانية فتترك كل واحد على حدة ولا شك أن موضوع وتركيب الواحد يختلف عن الآخر اختلافاً كبيراً. يتساءل المرنم بعاطفة عظيمة لماذا يحجب الله نفسه في الشدائد كإنما يقف بعيداً ولا يلتفت للمسكين ولا يسمع صراخه. وهكذا فهو يعبّر عن تعلق شديد بالله الذي تفقده في كل حين ولا سيما في أزمنة الضيقات. ولكن هل الله بعيد؟ أم نحن الذين نبتعد عنه ليس إلا إذ نحن الذين نفقده بعدم إيماننا ثم ندعي أن الله يبتعد عنا.
(٢) لا شيء كالكبرياء تجعل الشرير يتوغل في شره ولا يحيد عنه إذ يفسد القلب ويتحجر الضمير. فالمتكبر الشرير يحسب أنه لا يحتاج لله وبالتالي لا يحتاج للتدين لأنه يعتقد بأن ذلك يحط من قدره كإنسان. فهو يتوغل في شره حتى يحرق الشرير به ولكن لا بد أن ما دبره من مكائد سوف يسقط فيها.
(٣) بل إن هذا الشرير يفتخر بما هو فيه بدلاً من أن يندم عليه ويتوب. هو لا يحسب شره كشيء يجب الرجوع عنه لأنه لا يعترف به أبداً ومما يساعد على ذلك هو وجود المتملقين حوله الذين يغشون أنفسهم بقبوله في جماعة الكرام الصالحين وقد يكون لهم مصالح شخصية معه حتى يتساهلون هكذا. وأما الخاطف فهو ذاك الذي يأخذ ما لغيره قسراً أو بالخداع بدون حق البتة لذلك فهو يهين خالقه بتعديه الصريح هكذا.
(٤) ويستمر هكذا على أفعاله المنكرة ويظل متشامخاً لأنه يحسب أن الله لا يطالب فهو يستفيد من حلم الله عليه ازدياداً في الغواية والفساد حتى أنه أخيراً يكفر بوجود الله الذي عصا أوامره من قبل. وهذه نتيجة لا شك فيها يصلها مثل هذا الإنسان الشرير.
«٥ تَثْبُتُ سُبُلُهُ فِي كُلِّ حِينٍ. عَالِيَةٌ أَحْكَامُكَ فَوْقَهُ. كُلُّ أَعْدَائِهِ يَنْفُثُ فِيهِمْ. ٦ قَالَ فِي قَلْبِهِ: لاَ أَتَزَعْزَعُ. مِنْ دَوْرٍ إِلَى دَوْرٍ بِلاَ سُوءٍ. ٧ فَمُهُ مَمْلُوءٌ لَعْنَةً وَغِشّاً وَظُلْماً. تَحْتَ لِسَانِهِ مَشَقَّةٌ وَإِثْمٌ. ٨ يَجْلِسُ فِي مَكْمَنِ ٱلدِّيَارِ، فِي ٱلْمُخْتَفَيَاتِ يَقْتُلُ ٱلْبَرِيءَ. عَيْنَاهُ تُرَاقِبَانِ ٱلْمِسْكِينَ».
(٥) في هذه الآية رأيت اختلافاً كبيراً في ترجمتها فيقول ديلتش «أكيدة هي كل سبله دائماً». وحسب الترجمة السبعينية وبالتالي اليسوعية «تنجح مساعيه في كل حين» وأما الترجمة الإنكليزية فتقول «كل سبله محزنه دائماً» ولدى المقابلة يصعب التوفيق بين هذه كلها ولكني أميل لترجمة ديلتش فإن الله لا يثبت سبل الشرير بل ذاك يحسبها ثابتة وأكيدة ليس إلا وقد يكون ذلك من قبيل الاعتداد بالنفس والغرور ولكن يعود فيقول المرنم إن أحكام الرب فوقه بعد لأنه هو وحده العالي فوق كل عالٍ. وإن يكن هذا الشرير إلى حين ينفث في أعدائه سماً كما يفعل الثعبان.
(٦) وفي هذا العدد تثبيت لمثل هذا المعنى إذ هذا الشرير يقول عن نفسه إنه لا يتزعزع فهو من فرط كبريائه أعمى ويدعي أن المصائب لا تطاله بسوء فهو يحسب أن يعيش مع ذريته من دور لدور خالياً عن كل أنواع الضيقات والمصائب.
(٧) ثم يصفه بأنه يلعن ويغش ويظلم ويفعل ذلك وهو يتظاهر بلسان حلو ولكن تحته سم قتال. لذلك فضرره غير ظاهر للعيان كل شيء عنده مبطن حتى حقده قد يظهر بقالب المحبة والصداقة (راجع أمثال ٢٦: ٢٦) وإذا وضع هدفاً يريد الوصول إليه لا يهمه عندئذ كم عهداً يخون أو كذباً يقترف أو شراً يرتكب.
(٨) في هذا العدد يصوره كالوحش المفترس الذي يكمن لفريسته. فهو يقصد الضرر ولكن لا يتظاهر به دائماً. فقد يكون قاطع طريق أو لصاً يهمه السلب والنهب ولا يسأل ممن فقد يكون الذي يقع به بريئاً تماماً لم يتعرف به من قبل. وهو يفعل ذلك ليس بدافع الانتقام بل يقترف هذه الجرائم غير مبال بأحد. ولا قيمة للحياة البشرية في عينيه كما أنه لا قيمة لمال الآخرين أو أرزاقهم يهمه أن يختلس ويغتصب غير حاسب لأيّ حساباً.
«٩ يَكْمُنُ فِي ٱلْمُخْتَفَى كَأَسَدٍ فِي عِرِّيسِهِ. يَكْمُنُ لِيَخْطُفَ ٱلْمِسْكِينَ. يَخْطُفُ ٱلْمِسْكِينَ بِجَذْبِهِ فِي شَبَكَتِهِ، ١٠ فَتَنْسَحِقُ وَتَنْحَنِي وَتَسْقُطُ ٱلْمَسَاكِينُ بِبَرَاثِنِهِ. ١١ قَالَ فِي قَلْبِهِ: إِنَّ ٱللّٰهَ قَدْ نَسِيَ. حَجَبَ وَجْهَهُ. لاَ يَرَى إِلَى ٱلأَبَدِ. ١٢ قُمْ يَا رَبُّ. يَا اَللّٰهُ ٱرْفَعْ يَدَكَ. لاَ تَنْسَ ٱلْمَسَاكِينَ. ١٣ لِمَاذَا أَهَانَ ٱلشِّرِّيرُ ٱللّٰهَ؟ لِمَاذَا قَالَ فِي قَلْبِهِ: لاَ تُطَالِبُ؟».
(٩) وفي هذا العدد توكيد لما ورد في العدد السابق ليس إلا. إذ يزيد المعنى في التشابه. فالأسد يهمه الفريسة وهذا الشرير يهمه أن يربح مالاً لا فرق من أي السبل جاء هذا المال وعادة يغتصبه بالحرام لأن الحرام والحلال عنده سيان كالوحش الكاسر.
(١٠) وهنا يتمم الصورة الفكرية التي بدأها فإن هذا الوحش يظل كامناً في مكانه إلى أن يقضي على فريسته قضاء تاماً وهكذا تسقط المساكين ببراثنه الممزقة الفتاكة وبين أشداقه القوية. وهؤلاء الأشرار عادة لايتورعون عن شيء في سبيل ما يريدونه فهم يتساهلون فقط على نسبة ما يضعونه أمامهم من ضرر يريدون إيقاعه بالآخرين: وهم يتسترون كثير الأحيان بالعطف والدعة إلى أن ينالوا مرامهم.
(١١) ويستمر في غوايته هذه إلى أبعد حدودها. فلا الهيئة الاجتماعية تطاله بسوء وكذلك يحسب أن الله ذاته لن يصله لأنه لا يؤمن به بل يحسب أن الله قد نسي وحجب وجهه حتى لا يرى ماذا يفعل وهكذا استمرت الحالة طويلاً حتى حسبها أنها للأبد. وهنا تجديف منه صريح على الله لأنه يرى وسوف يدينه لا محالة. وجيد لنا أن نعطف على المظلومين ونحتقر الظالمين ونقف في وجوههم قبل أن يستفحل شرهم كثيراً.
(١٢) هنا يلتفت إلى الرب ويستنهضه للدفاع عن حق مهضوم وعن بريء يُفترى عليه. فإن طول أناة الرب قد يجعل الظالم أكثر ظلماً ويجعل المظلوم أكثر تظلماً من حالة سيئة هو فيها لذلك يلتمس من الله أن ينصف ويوقف قسطاس العدل على الاثنين معاً ويرفع يده ويضرب ويبطش ولا ينسى. إنما على المؤمن أن يتكل على إلهه فإن الله أدرى متى ينتقم «لي النقمة أنا أجازي يقول الرب».
(١٣) وهنا تكرار لمعنى سابق ويتساءل المرنم كيف يسمح الله أن يتجاسر الشرير ويستهين بالعلي كإنما يحسب أنه لن يطالب. إذاً فالحياة فوضى ولا نظام أدبياً فيها بل الحق للقوة الغاشمة وكما يفعل السمك القوي يأكل الضعيف والحيوانات الكاسرة تفترس فرائسها فهل كذلك يكون الإنسان؟ ولكن شكراً لله ليس الأمر كذلك بل هنالك يوم الدين.
«١٤ قَدْ رَأَيْتَ. لأَنَّكَ تُبْصِرُ ٱلْمَشَقَّةَ وَٱلْغَمَّ لِتُجَازِيَ بِيَدِكَ. إِلَيْكَ يُسَلِّمُ ٱلْمِسْكِينُ أَمْرَهُ. أَنْتَ صِرْتَ مُعِينَ ٱلْيَتِيمِ. ١٥ اِحْطِمْ ذِرَاعَ ٱلْفَاجِرِ. وَٱلشِّرِّيرُ تَطْلُبُ شَرَّهُ وَلاَ تَجِدُهُ. ١٦ ٱلرَّبُّ مَلِكٌ إِلَى ٱلدَّهْرِ وَٱلأَبَدِ. بَادَتِ ٱلأُمَمُ مِنْ أَرْضِهِ. ١٧ تَأَوُّهَ ٱلْوُدَعَاءِ قَدْ سَمِعْتَ يَا رَبُّ. تُثَبِّتُ قُلُوبَهُمْ. تُمِيلُ أُذُنَكَ ١٨ لِحَقِّ ٱلْيَتِيمِ وَٱلْمُنْسَحِقِ، لِكَيْ لاَ يَعُودَ أَيْضاً يُرْعِبُهُمْ إِنْسَانٌ مِنَ ٱلأَرْضِ».
(١٤) يؤمن بأن الله يرى «يهوه يرأه». والحق يقال أن المؤمنين يعانون آلاماً نفسية عظيمة من فكرة تجاسر الأشرار وتماديهم فهم يريدون الحق أن يمشي ويريدونه حالاً كإنما يفرضون ذلك على الله وهذا خطأ إذ له وحده جل جلاله الحق في إدانة الأشرار في الوقت الذي يريده هو. وعلينا أن نسلم ذواتنا تسليماً تاماً لله فهو معين أشقى الناس وأتعسهم «اليتيم» فهو عادة مهضوم الحق بل هو أيضاً محروم الحنان الوالدي ولكن الله يحتضنه كأب حنون.
(١٥) هنا اختلاف في الترجمة فيقول ديلتش «والشرير تقاص شره حتى يذهب هذا الشر من أمامك». وأظن هذا أقرب لقصد المرنم فهو يطلب من الرب أن يتداخل بالفعل في أمره. وقد كان اختبار المؤمنين حقيقياً كلما اتكلوا على الإله الحي فهو الحاكم أخيراً على البشر وعلى جميع ما يفعلونه.
(١٦) فليتمجد اسم الرب إذن لأنه وحده الملك وجميع البشر هم عبيد ولا يستطيعون أن يعصوا أوامره ويسلموا للأبد. هوذا الأفراد يقومون ويسقطون وهكذا الدول والأمم وأغلبها أصبحت في حكم التاريخ. لقد بادت الأمم ولكن إله الأمم يبقى.
(١٧) يتحول المرنم عن كلمة المسكين إلى الودعاء وفي هذا حكمة لأن صبر هؤلاء المؤمنين يجب أن يكون عن وداعة حقيقية أي أن يتكلوا على الله ولا يتذمروا قط وهو يفعل في حينه وحسب مشيئته السرمدية. فهو يقضي حق اليتيم والمسكين والبريء. ولا يترك دمهم يذهب هدراً كإنما هذا الوجود لا يحكمه سوى القوة الغاشمة العمياء. بل قد سمع الله.
(١٨) وعلينا أن لا نحكم متسرعين بأن نجاح الأشرار معناه أنهم على صواب فيما يفعلون. وابن آدم مهما عظم وتجبر فسيعود للتراب الذي منه أخذ. وهكذا يلتمس المرنم في الختام أن يثبت أن الحق على الأرض التي هي ملك لله حتى لا يعود هذا الإنسان الشرير فيسبب رعباً وتعاسة وويلاً وإن يكن إلى حين معين. وهكذا حينما نرى أن الدين وأنصاره في حالة الاضطهاد والضيق نطلب من الله أن يجري حكمه العادل فيعود الحق إلى نصابه.

اَلْمَزْمُورُ ٱلْحَادِي عَشَرَ


لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ. لِدَاوُدَ


«١ عَلَى ٱلرَّبِّ تَوَكَّلْتُ. كَيْفَ تَقُولُونَ لِنَفْسِي: ٱهْرُبُوا إِلَى جِبَالِكُمْ كَعُصْفُورٍ؟ ٢ لأَنَّهُ هُوَذَا ٱلأَشْرَارُ يَمُدُّونَ ٱلْقَوْسَ. فَوَّقُوا ٱلسَّهْمَ فِي ٱلْوَتَرِ لِيَرْمُوا فِي ٱلدُّجَى مُسْتَقِيمِي ٱلْقُلُوبِ. ٣ إِذَا ٱنْقَلَبَتِ ٱلأَعْمِدَةُ، فَٱلصِّدِّيقُ مَاذَا يَفْعَلُ؟»
(١) يظن أن هذا المزمور كتب حينما شعر داود بغضب شاول عليه وقد رماه بالرمح مرة بعد مرة. وهكذا كانت له النصيحة أن يهرب إلى وطنه وينجو بنفسه. ويظن البعض أنه كتب حينما قامت الثورة في وجه داود بسبب ابنه أبشالوم وبكلا الاحتمالين تفسير مقبول.
يقول داود أنه لا يقبل مثل هذه النصيحة ويهرب من وجه أي عدو لأنه قد جعل الرب متكله. ولنا من هذا بعض أمور حرية بالتأمل:
١) تصميم داود وعزمه فهو كله بالله وليس بنفسه. قد يكون أن الأعداء قد وجهوا إليه أن يترك إلهه الذي لا ينجيه وعليه أن يعتمد على نفسه فقط لأجل النجاة.
٢) غيظه من الذين دعوه للهرب كأنه عصفور صغير من وجه الصياد يلحقه من مكان لآخر فلا يقر له قرار إلا بالبعد في الجبال. وهنا محك مزدوج فهو كجندي شجاع لا يسمح لنفسه بالهرب والجبن من المعركة وكمؤمن لا يسمح لنفسه أن يكفر بنعمة الله ورحمته.
مع أن الخطر موجود والأشرار يستعملون ضده أهم السلاح المعروف عندئذ. فهم يستعملون السهم الذي يطير بعيداً وفي جنح الظلام لأن هؤلاء الأعداء ماكرون غادرون لا يرعون حرمة فهم على كامل استعدادهم أن يرموا ويهلكوا الأبرياء الذين لم يسيئوا إليهم. ويظهر أن هؤلاء الأعداء ينوون الأذية وليس فقط أنهم يتظاهرون بها لأنهم سفاكون للدماء حتى دماء الأبرياء.
(٣) قد تكون الأعمدة هنا إشارة إلى بناء بيته الملكي فهو في خطر الهدم والزوال. وقد تكون الأعمدة بمعنى روحي أي إنه إذا تزعزعت أركان حياتنا ومجدنا فماذا يفعل؟ قد يكون للشرير مهرب من مأزق كهذا فإنه يقابل الإساءة والضرر بمثله ولكن ماذا يفعل الصديق المؤمن؟ والجواب هو في العدد الأول على الرب توكلت! هو رجاؤهم الوحيد ومتكلهم والمنتقم لهم فلا ينتقمون لأنفسهم ولا يهابون شيئاً ولا يجزعون. إن الله قد مسح داود ملكاً على شعبه وهذه مسؤولية كبرى وواجب موضوع عليه فلا يستطيع النكوص عنه ولا الرجوع.
«٤ اَلرَّبُّ فِي هَيْكَلِ قُدْسِهِ. ٱلرَّبُّ فِي ٱلسَّمَاءِ كُرْسِيُّهُ. عَيْنَاهُ تَنْظُرَانِ. أَجْفَانُهُ تَمْتَحِنُ بَنِي آدَمَ. ٥ ٱلرَّبُّ يَمْتَحِنُ ٱلصِّدِّيقَ. أَمَّا ٱلشِّرِّيرُ وَمُحِبُّ ٱلظُّلْمِ فَتُبْغِضُهُ نَفْسُهُ. ٦ يُمْطِرُ عَلَى ٱلأَشْرَارِ فِخَاخاً، نَاراً وَكِبْرِيتاً وَرِيحَ ٱلسَّمُومِ نَصِيبَ كَأْسِهِمْ. ٧ لأَنَّ ٱلرَّبَّ عَادِلٌ وَيُحِبُّ ٱلْعَدْلَ. ٱلْمُسْتَقِيمُ يُبْصِرُ وَجْهَهُ».
(٤) هنا تتجلى للمرنم رؤيا الرب (انظر إشعياء ٦) ويتأكد حضوره معه لكي يطرد من باله كل ما يثبط عزيمته بإلهه. يراه في الهيكل منعكساً بجلاله عن كرسيه في السماء يؤكد لنفسه ولسامعيه أنه إذا كان الله موجوداً فهو لا شك ينظر ويراقب ويمتحن كل إنسان. وذكر الأجفان هنا من قبيل التفرس فإنها تساعد العين على ذلك. إن الله في عهد دائم مع شعبه فلا يتركهم ولكنهم هم الذين يتركونه. هو قريب إلينا وهو فوقنا لأن عرشه في العلى يستطيع النظر الدائم لبني البشر.
(٥) الرب لا يتخلى عن الصديقين قط وإذا ظهر كأنه تخلى فذلك لأجل امتحان الإيمان. ولكن علاقته ليست كذلك مع الشرير والظالم. ففي نظر المرنم الرب يبغضهما. وهنا لا يميز قط بين الشرير وشره ولا بين الظالم وظلمه لأن الرب في نظره يريد أن يتخلص من الشرير بتاتاً. والذين يسببون الشر يسببون الهلاك لأنفسهم أيضاً (أمثال ٨: ٣٦) وقصاصهم محتوم لا بد منه.
(٦) يهلكهم الرب كما أهلك أهل سدوم وعمورة. يوقعهم في فخاخ هم نصبوها لأنفسهم وبعد ذلك يمطرهم بوابل من النار والكبريت دليل حمو غضبه عليهم اقتصاصاً منهم لما اقترفوه من ذنوب. وكذلك ريح السموم المهلكة التي تهب عليهم من الصحراء كأنها تحرقهم حرقاً. وهذه عليهم كأس يجب أن يشربوها لأنها نصيبهم بالنسبة لسوء أفعالهم وشرورهم.
(٧) ذلك هو عدل الله ولا يرى المرنم أي بأس في معاملة صارمة كهذه. فكما يحتمل الأبرار والمستقيمون الاضطهاد والتعذيب فالأشرار سينالون الجزاء إن عاجلاً أم آجلاً. وهنيئاً للصديق عندئذ لأنه سيشرق عليه مجد الرب ويرى وجهه.
إن رؤية الرب مستطاعة متى كان يصحبها الرضا الإلهي وبغير ذلك فلا يستطيع العيش بأن يراه.


اَلْمَزْمُورُ ٱلثَّانِي عَشَرَ


لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ عَلَى «ٱلْقَرَارِ». مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ


«١ خَلِّصْ يَا رَبُّ لأَنَّهُ قَدِ ٱنْقَرَضَ ٱلتَّقِيُّ، لأَنَّهُ قَدِ ٱنْقَطَعَ ٱلأُمَنَاءُ مِنْ بَنِي ٱلْبَشَرِ. ٢ يَتَكَلَّمُونَ بِٱلْكَذِبِ كُلُّ وَاحِدٍ مَعَ صَاحِبِهِ، بِشِفَاهٍ مَلِقَةٍ، بِقَلْبٍ فَقَلْبٍ يَتَكَلَّمُونَ. ٣ يَقْطَعُ ٱلرَّبُّ جَمِيعَ ٱلشِّفَاهِ ٱلْمَلِقَةِ وَٱللِّسَانَ ٱلْمُتَكَلِّمَ بِٱلْعَظَائِمِ، ٤ ٱلَّذِينَ قَالُوا: بِأَلْسِنَتِنَا نَتَجَبَّرُ. شِفَاهُنَا مَعَنَا. مَنْ هُوَ سَيِّدٌ عَلَيْنَا؟».
(١) إن هذا المزمور يتبع الحادي عشر بصورة مناسبة للغاية فهو صلاة لأجل تخليص المساكين والمتضايقين في زمن انتشرت فيه روح الكبرياء والتمرد على العلي كما انتشرت الفوضى الأخلاقية وانحطت الآداب وهو مزمور موضوع على غرار سابقه وكانت قد ترقت الموسيقى إلى درجة بعيدة في عصر داود كما كانت الأخلاق بعيدة عن الكمال. فكان المؤمنون يعيشون كشهداء في وسط جيل معوج وملتوٍ.
(٢) هنا يرى المرنم الكذب منتشراً بين الناس والشفاه ملقة والقلب غير مخلص (بقلب فقلب) كإنما بقلبين وليس بقلب واحد. وقال السيد المسيح من فضلة القلب يتكلم الفم فإذاً عدم الإخلاص يبدأ بالقلب أولاً. وأعظم هذه الأكاذيب هي في الصداقة إذ إن الواحد يدعي الأخوة للآخر وهو بعيد عنها (راجع ٢تيموثاوس ٣: ١) فإن الأيام الشريرة ليست بالنسبة لقلة الدراهم وكساد التجارة بل بالنسبة للانحطاط الأخلاقي.
(٣) وقوله العظائم فإن الأفضل أن تترجم «الكبائر» أي الذنوب الكبيرة التي نقترفها ضد اسم الله. وفي قوله يقطع هنا تهديد صارم وتوبيخ لكي يرعوي الجاهل عن جهله ويعود الشرير عن شره وهكذا ينال الخلاص.
والشفاء ثم قوله اللسان من قبيل الترادف والتوكيد وهو كثير في العبرانية كما نلاحظ.
(٤) إن اللسان يستطيع أن يدعي كل شيء ويصبح خارجاً عن المعقول لدرجة أنه يكفر بالله تعالى. فلا يكتفي الأشرار أن يكذبوا بل هم يفتخرون بكذبهم كأنهم لم يفعلوا شيئاً يستحقون عليه التوبيخ وهذا منتهى الوقاحة.
هنا ادعاء فارغ بالذات وتعظم على العلي الذي بيده كل شيء. ولو عقلوا قليلاً لكانوا يتساءلون ومن صنع الفم واللسان أليس الله؟ إذاً فعلى اللسان أن يسبح لاسمه العظيم. لقد قال هؤلاء الأشرار كما قال فرعون قديماً (خروج ٥: ٣). يدعي الشرير أنه يملك لسانه وهذا باطل إذ الحق أن لسانه يملكه.
«٥ مِنِ ٱغْتِصَابِ ٱلْمَسَاكِينِ، مِنْ صَرْخَةِ ٱلْبَائِسِينَ، ٱلآنَ أَقُومُ يَقُولُ ٱلرَّبُّ. أَجْعَلُ فِي وُسْعٍ ٱلَّذِي يُنْفَثُ فِيهِ. ٦ كَلاَمُ ٱلرَّبِّ كَلاَمٌ نَقِيٌّ، كَفِضَّةٍ مُصَفَّاةٍ فِي بُوطَةٍ فِي ٱلأَرْضِ، مَمْحُوصَةٍ سَبْعَ مَرَّاتٍ. ٧ أَنْتَ يَا رَبُّ تَحْفَظُهُمْ. تَحْرُسُهُمْ مِنْ هٰذَا ٱلْجِيلِ إِلَى ٱلدَّهْرِ. ٨ ٱلأَشْرَارُ يَتَمَشُّونَ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ عِنْدَ ٱرْتِفَاعِ ٱلأَرْذَالِ بَيْنَ ٱلنَّاسِ».
(٥) إن الله يقوم للنجدة. فهو سامع لصراخ البائسين ولا يتركهم من رحمته قط. وقوله «من» هنا ضعيفة جداً والأفضل أن تترجم «لأجل» فإن قيام الرب هو لهذا السبيل. والله يجعل من العسر سعة للذين يؤمنون. فلا يترك الشرير ينفخ أو ينتفخ أو ينفث من شره ولا من يحاسبه لأنه الله سيقوم ويسمع ويحاسب إلى التمام.
(٦) هؤلاء الأنقياء الأمناء إذ أن تقواهم يجب أن تطبق عملياً في الحياة اليومية. هؤلاء يرون كلام الله أنه نقي طاهر يشبه ببياضه الفضة المصفاة والمكررة بتصفيتها مرات عديدة لأنه بلا زغل البتة. والفضة هي المعدن الأساسي قديماً للتعامل فهو قبل الذهب وشائع أكثر منه لأنه أرخص. وقوله سبع مرات دليل العدد الكامل أي أنه مصفى إلى التمام.
(٧) الرب يحفظ هؤلاء الأنقياء فلا يصيبهم أخيراً أي مكروه. بل هو يسهر عليهم ويحرسهم على الدوام. وهنا يعود لبدء المزمور فهو لا يتخلى عن أولاده طالما كلامه حق وطاهر لذلك فهو يحفظ ويحرس الأتقياء الطاهرين ولا يتركهم لرحمة مضطهديهم والقائمين عليهم للكيد والمضرة. وهو يطلب الحراسة من هذا الجيل الشرير وإلى الأجيال التي تليه.
(٨) هنا «ارتفاع» تتناول أنهم يصبحون ذوي السلطة والنفوذ. وقوله يتمشون من كل ناحية أي يكثرون وتكثر حركتهم ويمتد عملهم كإنما كل شيء لهم ولا يحسبون لأحد حساباً (راجع أمثال ٣٠: ١١ - ١٤) حيثما يصف الحكيم بكلام مؤثر حالة الأمة المنحطة التي تسير نحو الدمار والاضمحلال.
الأشرار لا يستطعيون السيادة والذهاب والإياب كما يشاؤون إلا بعد أن يسندهم الأراذل الذين يصلون إلى كراسي الحكم ولا يستطيعون البقاء فيها ربما إلا بعد أن يدعمهم مثل هؤلاء.
ربما كان استطاع المرنم أن ينهي المزمور بالعدد السابع ولكنه يعود فيؤكد ما ابتدأ به من شرّ هؤلاء الأشرار فترك صورتهم القبيحة ظاهرة للآخر.


اَلْمَزْمُورُ ٱلثَّالِثُ عَشَرَ


لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ. مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ


«١ إِلَى مَتَى يَا رَبُّ تَنْسَانِي كُلَّ ٱلنِّسْيَانِ! إِلَى مَتَى تَحْجُبُ وَجْهَكَ عَنِّي! ٢ إِلَى مَتَى أَجْعَلُ هُمُوماً فِي نَفْسِي وَحُزْناً فِي قَلْبِي كُلَّ يَوْمٍ! إِلَى مَتَى يَرْتَفِعُ عَدُوِّي عَلَيَّ! ٣ ٱنْظُرْ وَٱسْتَجِبْ لِي يَا رَبُّ إِلٰهِي. أَنِرْ عَيْنَيَّ لِئَلاَّ أَنَامَ نَوْمَ ٱلْمَوْتِ، ٤ لِئَلاَّ يَقُولَ عَدُوِّي: قَدْ قَوِيتُ عَلَيْهِ. لِئَلاَّ يَهْتِفَ مُضَايِقِيَّ بِأَنِّي تَزَعْزَعْتُ. ٥ أَمَّا أَنَا فَعَلَى رَحْمَتِكَ تَوَكَّلْتُ. يَبْتَهِجُ قَلْبِي بِخَلاَصِكَ. ٦ أُغَنِّي لِلرَّبِّ لأَنَّهُ أَحْسَنَ إِلَيَّ».
(١) إن أحد المفسرين يضع تاريخ هذا المزمور حينما وضع شاول بعض المراقبين على داود يتعقبونه من مكان لآخر يطلبون نفسه. وداود يصبر على الضيق الذي كان فيه ولا يرى له خلاصاً بسوى تسليمه الكامل لله. ويشعر المطالع وهو يقرأ المزمور أنه يبدأ بأمواج تتلاطم في نفسه وإذا بها تصغر ويخفت صوتها إلى أن تضمحل تماماً بالسكون الشامل. إن هذا التساؤل إلى متى كما يقول لوثيروس «هو حينما ييأس الرجاء ذاته ويسبب الشعور بغضب الله وفي الوقت نفسه يبدأ اليائس أن يترجى».
(٢) وفي هذا العدد أيضاً يستمر التساؤل ويلتفت إلى نفسه ويبحث عن همومه فيرى الأحزان تكتنفه من كل جانب وبصورة يومية. بل يرى أن العدو يتكبر ويتجبر عليه ولا يجد لنفسه مناصاً من جبروته هذا. ويردد داود «إلى متى» ثلاث مرات وكل واحدة ترتفع على الأخرى أي يكون له هموم متتابعة فأولاً إن الله نسيه وثانياً شعوره بالغم والكدر يملأ قلبه وثالثاً ذله على يد العدو.
(٣) ثم إذا به يتشدد ويتشجع ويقول للرب انظر إليّ. انظر لحالي ولا تتخلّ عني.. ويطلب أيضاً أن يكون صوته مسموعاً ويصغي إليه ثم يطلب أن يعطي نوراً ويقظة لئلا ينام ويغفل عما هو فيه. يطلب الأرجح نور النهار لأن في الليل تكثر الهواجس والهموم ولذلك فالليل طويل عادة وكئيب. لا شيء يظلم العين كالهم ولا شيء يفتحها كالنور المفرح.
(٤) لا يريد قط أن عدوه يتغلب عليه فيدعي أن له القوة والسيطرة على المؤمن. بل إن هذا سيزداد فرحاً ويهتف قائلاً بإني تزعزعت وذهب كل الإيمان.
(٥ و٦) هنا ختام بهيج لمزمور يبدأ بالشكوى ويأخذ بالصلاة والتضرع ثم ينتهي بالابتهاج والترنم. يرى رحمة الله ويتكل عليها. وهكذا ينال الهدوء والسلام ولا يعود في قلبه أي انشغال بال. وهنا كإنما وصف لطيف لإنسان كان مريضاً فشفي أي كان في خطر فاطمأن أو في ضيقة فانفرج. هو مزمور مختصر ولكنه دقيق الوصف فياض بالشعور ويصور حالة المرنم النفسية بكامل وجوهها.


اَلْمَزْمُورُ ٱلرَّابِعُ عَشَرَ


لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ. لِدَاوُدَ


يظهر هذا المزمور بمعناه في المزمور الثالث والخمسين ولكن الفرق بينهما هو أنه يستعمل كلمة الرب بينما ذاك يستعمل كلمة الله.
«١ قَالَ ٱلْجَاهِلُ فِي قَلْبِهِ: لَيْسَ إِلٰهٌ. فَسَدُوا وَرَجِسُوا بِأَفْعَالِهِمْ. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحاً. ٢ اَلرَّبُّ مِنَ ٱلسَّمَاءِ أَشْرَفَ عَلَى بَنِي ٱلْبَشَرِ، لِيَنْظُرَ: هَلْ مِنْ فَاهِمٍ طَالِبِ ٱللّٰهِ؟ ٣ ٱلْكُلُّ قَدْ زَاغُوا مَعاً، فَسَدُوا. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحاً، لَيْسَ وَلاَ وَاحِدٌ».
(١) لا يعلم تماماً ما هو الظرف الذي كتب فيه المزمور وقد لا يكون لغير ظرف بل يقصد به وصف الطبيعة البشرية الساقطة التي يحوجها الخلاص. ونرى في (رومية ٣: ١٠ و١٩) بعض الفقرات منه قد اقتبسها الرسول بولس لكي يبرهن أن كلا اليهود والأمم هم في حالة تتطلب الخلاص الذي أعده الله للجميع. نجد في المزامير من الثالث إلى هذا المزمور ما عدا الثامن تذمراً واضحاً عن حالة الأشرار. الخطيئة هي مرض البشرية المتأصل فيها وهنا المرنم يصور أمرين:
الأول: إن الجاهل يكفر بالله وبوجوده. قد لا يتجاسر بعض الأحيان أن يبوح به للناس فيهمس بذلك في قلبه. الثاني أن الخطأة قد فقدوا النعمة وهكذا قد فسدت طبيعتهم ورجست أفعالهم وعملوا الشر بدل الصلاح.
(٢) والله يعرف هذه الحالة السيئة المشار إليها لأنه يشرف على جميع البشر ويختبر سرائرهم. إن الله شاهد بذلك بل شاهد عيان يرى ويتألم لهذه الحالة السيئة. إن الشر يسري في البشر كالعدوى وهم يميلون إليه ويمارسونه بسرعة أكثر جداً مما لو دعوا للخير والإحسان.
(٣) وهنا يذكر ما شاهده فيهم فوجد أولاً الزيغان عن الوصايا فوق فساد الطبيعة وبالتالي فهم لا يستطيعون أن يعملوا صلاحاً لأن ذلك مخالف لطبيعتهم التي هم فيها. إن الزيغان معناه الضلال عن طريق الحق والصواب إذاً هو يتناول السيرة أكثر مما يتناول الطبيعة وأما الفساد فيتناول الطبيعة ذاتها. وهكذا فإن عدم عملهم الصلاح هو بسبب انعدام الحياة الروحية فيهم.
وسيعرف حالة كل إنسان حينما يقف لدى الديان ليقدم الحساب الأخير (انظر ١كورنثوس ٤: ٣ - ٥).
«٤ أَلَمْ يَعْلَمْ كُلُّ فَاعِلِي ٱلإِثْمِ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ شَعْبِي كَمَا يَأْكُلُونَ ٱلْخُبْزَ، وَٱلرَّبَّ لَمْ يَدْعُوا. ٥ هُنَاكَ خَافُوا خَوْفاً لأَنَّ ٱللّٰهَ فِي ٱلْجِيلِ ٱلْبَارِّ. ٦ رَأْيَ ٱلْمِسْكِينِ نَاقَضْتُمْ لأَنَّ ٱلرَّبَّ مَلْجَأُهُ. ٧ لَيْتَ مِنْ صِهْيَوْنَ خَلاَصَ إِسْرَائِيلَ. عِنْدَ رَدِّ ٱلرَّبِّ سَبْيَ شَعْبِهِ يَهْتِفُ يَعْقُوبُ وَيَفْرَحُ إِسْرَائِيلُ».
(٤) إن فاعلي الإثم هنا ليس ضرورياً أنهم خارج بني إسرائيل فهم يضطهدون إخوانهم ويظلمونهم ويسلبون حقوقهم كأنهم يأكلون الخبز ولا يزال التعبير العامي للآن (يأكولون حقوق غيرهم) وكان الأجدر بالإسرائيليين الذين لهم الناموس والشرائع والأنبياء أن يمتازوا عن غيرهم ولكن هي طبيعة البشر الفاسدة (انظر إشعياء ٣: ١٣ - ١٥) فإن حاكم الأرض كلها يخاطب رؤساء إسرائيل بنوع خاص. ونلاحظ أن الكلام هنا بشكل سؤال ألم يعلموا؟ بينما الجواب هو في العدد الخامس بشكل إيجابي حازم.
وقد يكون المعنى أن هؤلاء الأشرار أصبحوا يقترفون شرورهم كأمر عادي كما يأكلون الخبز ولا يحسبون حساباً لذلك (انظر ميخا ٣: ١ - ٣).
(٥) هنا الله يخيفهم فقد أطال أناته عليهم فلم يرتدعوا والآن ينالون الجزاء. والله ينظر إلى شعبه البار الذين يحفظون وصاياه ويتممون مشيئته.
(٦) ليس فقط ناقض بل قاوم وهزأ به وجعله يخجل من نفسه. فكما أن الناس الصالحين الذين يحاولون عمل مشيئة الرب يصادفون اضطهاداً من الأشرار وسخرية. هم أبناء العالم وأبناء إبليس فلا عجب أن يكونوا كذلك. ولكن جميع مساعيهم هي بلا جدوى لأن الله ملجأ الصالحين. يكفي هؤلاء المساكين أن يشعروا بحضور الله فيما بينهم ليكونوا مطمئنين غير خائفين.
(٧) من هذا العدد نستنتج أن هذا المزمور قد يكون بعد السبي أو إن هذا العدد نفسه قد زيد عليه على مرور السنين. فلم يكن للإسرائيليين من أمل بالرجوع إلا إلى صهيون. بل أن أورشليم هي قبلة أنظارهم (راجع دانيال ٦: ١١). وحيئنذ يكون الفرح والهتاف بهذا الخلاص الذي أعده الله لشعبه.


اَلْمَزْمُورُ ٱلْخَامِسُ عَشَرَ


مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ


«١ يَا رَبُّ، مَنْ يَنْزِلُ فِي مَسْكَنِكَ؟ مَنْ يَسْكُنُ فِي جَبَلِ قُدْسِكَ؟ ٢ ٱلسَّالِكُ بِٱلْكَمَالِ، وَٱلْعَامِلُ ٱلْحَقَّ، وَٱلْمُتَكَلِّمُ بِٱلصِّدْقِ فِي قَلْبِهِ. ٣ ٱلَّذِي لاَ يَشِي بِلِسَانِهِ، وَلاَ يَصْنَعُ شَرّاً بِصَاحِبِهِ، وَلاَ يَحْمِلُ تَعْيِيراً عَلَى قَرِيبِهِ. ٤ وَٱلرَّذِيلُ مُحْتَقَرٌ فِي عَيْنَيْهِ، وَيُكْرِمُ خَائِفِي ٱلرَّبِّ. يَحْلِفُ لِلضَّرَرِ وَلاَ يُغَيِّرُ. ٥ فِضَّتُهُ لاَ يُعْطِيهَا بِٱلرِّبَا، وَلاَ يَأْخُذُ ٱلرَّشْوَةَ عَلَى ٱلْبَرِيءِ. ٱلَّذِي يَصْنَعُ هٰذَا لاَ يَتَزَعْزَعُ إِلَى ٱلدَّهْرِ».
(١) في هذا المزمور وصف لطيف لسجايا الإنسان المتقي الله. ويفتتح بسؤال وجيه يجدر بكل إنسان أن يسأله لنفسه. ونذكر أن المزمور السابق يتكلم عن «الجيل البار» وهنا يود المرنم أن يعرفنا ماذا يعني بذلك. وجبل القدس «جبل سوريا» أي صهيون حيثما بني الهيكل وفيه تابوت عهد الله ولنا في (إشعياء ٣٣: ١٣ - ١٦) زيادة إيضاح. ويمكن ترجمة العدد يا رب يا من يجاور مسكنك؟ وهنا تكرار الترادف من قبيل التوكيد لسس إلا.
(٢) السالك بالكمال (راجع أمثال ٢٨: ١٨) والتعبير لطيف لأن الكمال هو سلوك وسيرة في هذه الحياة (راجع أيضاً إشعياء ٣٣: ١٥). أي طريقه مستقيم لا عوج فيه ولا التواء. ثم يصفه بأنه يعمل الحق أي يمارسه في حياته اليومية فديانته ديانة العمل لا الكلام فقط. ولكنه لا يقلل من قيمة الكلام فيصف كلامه بالصدق أيضاً. إن إيمان التقي وعلاقته مع الله يجب أن تعقبها علاقته بنفسه ومع الآخرين أيضاً. ولا يتكلم الصدق بلسانه فقط بل بقلبه أيضاً أي أنه مخلص سليم النية والطوية. وهكذا فهو ذو سلوك لا يعاب ويمارس عقيدته ويخلص فيها.
(٣) هنا المرنم يتناول زيادة الإيضاح بالوصف السلبي. وفي العبرانية التعبير أقوى فهو يفيد أن ليست الوشاية على لسانه فيستمر بها كعادة لا يستطيع التغلب عليها بسهولة. ثم ينتقل إلى العمل فهو لا يصنع شراً ولا سيما بالصاحب الذي يدعي الخلوص له. ثم ينتقل للقريب فهو يحمّله التعيير ولا يرميه به فقط.
(٤) يحتقر الرذيل لأنه فاضل ويحترم الفضلاء. ويكرم خائفي الرب مهما خفض مقامهم الاجتماعي كما أنه يحتقر الأراذل مهما سما مقامهم وتعظم. إن ميزانه للناس ليس بما يحوونه من أمور مادية أو جاه أو نفوذ بل بالنسبة للقيمة الروحية. وهو بذلك شجاع لا يهاب أحداً ومميّز للناس الحقيقيين.
(٥) هنا المرنم يضع الناموس الإلهي أمامه كما في (لاويين ٢٥: ٣٧ وخروج ٢٢: ٢٤ وتثنية ٢٣: ٢٠ وحزقيال ١٨: ٨). من جهة الربا. وكذلك من جهة الرشوة كما في (حزقيال ٢٣: ٨ وتثنية ١٦: ١٩) وبالأخص على البريء (راجع تثنية ٢٧: ٢٥).
ولا يختم المرنم كإنما يجيب على السؤال الذي افتتح به فكنا ننتظر أن يقول هذا سينزل في مسكن الله. بل نراه يقول إنه لا يتزعزع فلم يعد السكن والنزول كافيين بل هو ثابت راسخ لا يتزعزع إلى الأبد. فلا شيء من ويلات الحياة أو تجاربها تستطيع أن تغيّره.


اَلْمَزْمُورُ ٱلسَّادِسُ عَشَرَ


مُذَهَّبَةٌ لِدَاوُدَ


«١ اِحْفَظْنِي يَا اَللّٰهُ لأَنِّي عَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ. ٢ قُلْتُ لِلرَّبِّ: أَنْتَ سَيِّدِي. خَيْرِي لاَ شَيْءَ غَيْرُكَ. ٣ ٱلْقِدِّيسُونَ ٱلَّذِينَ فِي ٱلأَرْضِ وَٱلأَفَاضِلُ كُلُّ مَسَرَّتِي بِهِمْ. ٤ تَكْثُرُ أَوْجَاعُهُمُ ٱلَّذِينَ أَسْرَعُوا وَرَاءَ آخَرَ. لاَ أَسْكُبُ سَكَائِبَهُمْ مِنْ دَمٍ، وَلاَ أَذْكُرُ أَسْمَاءَهُمْ بِشَفَتَيَّ. ٥ ٱلرَّبُّ نَصِيبُ قِسْمَتِي وَكَأْسِي. أَنْتَ قَابِضُ قُرْعَتِي. ٦ حِبَالٌ وَقَعَتْ لِي فِي ٱلنُّعَمَاءِ، فَٱلْمِيرَاثُ حَسَنٌ عِنْدِي».
(١) مذهبة واردة في المزامير ٥٦ - ٦٠ فهي ذات معنى موسيقي وضعي. وقد لاحظ بعض المفسرين أن هذا المزمور وأمثاله «المذهبات» يتقدمها كلمات قلت وأقول الخ. وكذلك يكون فيها قرار يكثر ترديده مثل «فلا أخاف ماذا يفعل بي الإنسان». وكاتب هذا المزمور هو في خطر الموت. وهو صديق لله. وليس في هذا المزمور أي تشك أو تذمر بل يوجد تسليم كامل لمشيئة الله. لذلك نجد هدوءاً وسكينة من أوله إلى آخره.
(٢) هنا تصريح واضح بالخلوص للرب خلوصاً تاماً. وبأنه هو مصدر كل خير وبدونه لا خير البتة. ليس إنه سيد فقط بل هو سيدي. ولأنه كذلك فهو مصدر «خيري» وليس فقط مصدر الخير بصورة عامة. ما أسمى هذا الانصراف لله والاعتراف بسيادته علينا لذلك هو كل الخير لنا.
(٣) ويمكن ترجمتها «هم الأفاضل وكل مسرتي بهم». وقوله الذين في الأرض لكي يلتفت عن الرب الذي في السماء وهو سيده بينما هؤلاء هم سروره. إذاً فهو يحب الله ويحب قديسيه. والقديسون هم الذين يتممون مشيئة الرب ووصاياه (انظر حزقيال ١٩: ٦ وتثنية ٧: ٦) ويوجد قديسون في السماء (راجع مزمور ٨٩: ٦).
(٤) أما الذين تركوا وارتدوا لآخر فهو لا يمشي مشيتهم بل يأنف عن أن يذكر أسماءهم بشفة. فهو لا يقدم تقدمة شراب كما يقدمون لأنهم يقدمون بأيدٍ ملطخة بالدم.
(٥) الرب قسمتي وهذه الكلمة ذاتها تستعمل في (عدد ١٨: ٢٠) حينما يذكر أن لاوي نصيبه أو قسمته الرب فليس لهم أشياء مادية تخص الدنيا بل نصيبهم روحي وقسمتهم في السماء. وفي ترجمة أخرى «أنت توسع قرعتي». أي توسع مكان سكناي وترحبه لي. هذا النصيب الذي ملكته سيكون رحيباً.
(٦) كان نصيبه في وقت سعيد (انظر أيوب ٣٦: ١٢) أو في مكان موفق. لذلك فما ورثه مقبول وحسن لديه. وحيث أن المعطي قد باركه بهذه العطية وهذا الميراث لذلك يشير أنه في فردوس من النعيم. واستعماله للجبال هو أنها تدل على الحدود في الأرض التي كانت نصيبه. ولأن الرب نصيبه لا الأرض لذلك يسعد بالميراث.
«٧ أُبَارِكُ ٱلرَّبَّ ٱلَّذِي نَصَحَنِي، وَأَيْضاً بِٱللَّيْلِ تُنْذِرُنِي كُلْيَتَايَ. ٨ جَعَلْتُ ٱلرَّبَّ أَمَامِي فِي كُلِّ حِينٍ. لأَنَّهُ عَنْ يَمِينِي فَلاَ أَتَزَعْزَعُ. ٩ لِذٰلِكَ فَرِحَ قَلْبِي وَٱبْتَهَجَتْ رُوحِي. جَسَدِي أَيْضاً يَسْكُنُ مُطْمَئِنّاً. ١٠ لأَنَّكَ لَنْ تَتْرُكَ نَفْسِي فِي ٱلْهَاوِيَةِ. لَنْ تَدَعَ تَقِيَّكَ يَرَى فَسَاداً. ١١ تُعَرِّفُنِي سَبِيلَ ٱلْحَيَاةِ. أَمَامَكَ شَبَعُ سُرُورٍ. فِي يَمِينِكَ نِعَمٌ إِلَى ٱلأَبَدِ».
(٧) إن الإنسان بدون نصيحة إلهه وبدون إرشاد روحه لا يستطيع الخلاص وإذا تركنا لأنفسنا فإننا نختار الأردأ وليس الأفضل. وكانت الكلي في ذلك الزمان تحسب مركزاً للضمير في الإنسان. لقد نصحني الله أن أختار سبيل الحياة فإذا لم أفعل ذلك هلكت. وأما قوله «بالليل تنذرني...» أي إنه بتأملاته الروحية التي قد يتأملها ليلاً وانصرافه لله يرى أخيراً كيف يسير.
(٨) وحينما واصل تفكره هذا وصلاته شعر أن الله قريب إليه عن يمينه وهذا دليل قربه إليه وكذلك دليل أهمية مركزه في قلبه فهو ليس عن اليسار كأنه في محل ثانوي بل هو في أحسن محل وأسمى مقام.
(٩) هو فرحان لأن أعظم الآمال أصبحت أمامه وهو يقابل الموت الآن والابتسامة على محياه حتى أن جسده يستطيع أن يستقبل الموت بكل اطمئنان. ينظر الموت وجهاً لوجه بكل هدوء وسكنية غير مهتم بشيء (انظر تثنية ٣٣: ١٢ و٢٨ وأمثال ٣: ٢٤).
(١٠) إي أنه لا يتركه يصل بحالته لحالة أهل القبور (راجع مزمور ٨٩: ٤٩) وهذا العدد مقتبس (لوقا ٢: ٢٦ ويوحنا ٨: ٥١). معلوم أنه في الحالات الطبيعية متى مات الجسد فإنه يعتريه الفساد ويضمحل. لذلك فنظر المرنم هو بعدم الموت أي للبقاء والخلود مع الله. ويعني بقوله «تقيك» أي هو نفسه.
(١١) في هذا العدد لا يكتفي بعبارات التقي بأنه لا يضمحل. بل يجعله يحيا (انظر تثنية ٣٠: ١٥) أي الحياة مع الله وبالله. لأن بدون ذلك يكون الموت الأبدي. ثم يذكر أنه يرى الله ولذلك فهو في سرور مقيم. يشبع من السرور. بل يتناول نعماً من يمين الله ذاته فلم يكون في ما بعد أي كدر أو انزعاج. إن الله دائما يعطي خيرات عظيمة ولا يفرغ ما لديه قط.
في (سفر الأعمال ٢: ٢٩ - ٣٢ و١٣: ٣٥ - ٣٧) حينما يقتبس هذا المزمور يرى الكاتب أن إتمام النبوة لم يكن بدواد بل بالمسيح.


اَلْمَزْمُورُ ٱلسَّابِعُ عَشَرَ


صَلاَةٌ لِدَاوُدَ


«١ اِسْمَعْ يَا رَبُّ لِلْحَقِّ. اُنْصُتْ إِلَى صُرَاخِي. أَصْغِ إِلَى صَلاَتِي مِنْ شَفَتَيْنِ بِلاَ غِشٍّ. ٢ مِنْ قُدَّامِكَ يَخْرُجُ قَضَائِي. عَيْنَاكَ تَنْظُرَانِ ٱلْمُسْتَقِيمَاتِ. ٣ جَرَّبْتَ قَلْبِي. تَعَهَّدْتَهُ لَيْلاً. مَحَّصْتَنِي. لاَ تَجِدُ فِيَّ ذُمُوماً. لاَ يَتَعَدَّى فَمِي. ٤ مِنْ جِهَةِ أَعْمَالِ ٱلنَّاسِ فَبِكَلاَمِ شَفَتَيْكَ أَنَا تَحَفَّظْتُ مِنْ طُرُقِ ٱلْمُعْتَنِفِ. ٥ تَمَسَّكَتْ خُطُوَاتِي بِآثَارِكَ فَمَا زَلَّتْ قَدَمَايَ».
(١) يلمس المطالع بهذا المزمور اضطراب العاطفة حتى لا يستطيع المرنم أن يعبر عن كل ما يكنه قلبه. يشبه هذا المزمور سابقه بذكر الله في الليل. قابل العدد الثالث هنا مع العدد السابع من المزمور السابق. وعادةً مزامير داود هي سهلة التعبير تجري كالنهر الهادئ في صفائه ولكن هنا نجد عدم نعومة في كثير من التعابير لا سيما حينما يصف حالة أعدائه فهو يصفهم بألقاب التحقير (راجع المزمور ٥٩: ١٢ - ١٤ و٥٦: ٨ و٣١: ١٠ - ١٣ و١٤٠: ١٠ و٥٨: ٧) يرجو الله إلهه أن يصغي لدعواه التي هي حق وأن ينصت لصراخه ويسمع صلاته فهو لا يطلب ملكاً لنفسه كما يدعي شاول عدوه وحينما يقول هذا لا غش في كلامه قط.
(٢) فهو يلتمس أن ينال حكم القضاء عليه ليس من العدوّ بل من الله الذي هو ديّان الجميع. إن الإنسان عادة لا يستطيع أن يرى مستقيمات الآخر فكم بالأحرى إذا كان ذلك الإنسان شريراً بعيداً عن الله فحكمه ظالم وجائر للغاية (راجع ١صموئيل ٢٤: ١٢).
(٣) إن عدل الله يطمئن الأبرار وفي الوقت ذاته يرعب الأشرار ويزعجهم. هنا يذكر ثلاثة أمور فإن الله قد جرّب قلبه ثم قد حفظه في الليل لئلا يصيبه أي ضرر ثم نقاه من كل زغل ومحّصه كما يفعل الصائغ في بوتقته وكانت النتيجة أنه كان أعلى من أي عار أو مذمة وكان فمه صادقاً أميناً لا يتعدى على أحد. وقد تكون الترجمة بدلاً من «لا تجد فيّ ذموماً الخ...» إذا تفكرت بالشر فلا يتعدّى فمي.
(٤) أعمال الناس هنا تصرفاتهم. وإذا كنا نحاسبهم عليها نعيش بتعاسة وشقاء. ولكنه يتحفظ من جهتهم ولا يتكلم كل ما يخطر بباله بل يتكلم بكلام الرب فقط. والمعتنف هو الذي يفعل الضرر عن سابق تصميم وبصورة عنيفة صارمة. وكإنما هؤلاء الأشرار يأتون عليه من طرق مختلفة فيتجنبهم على قدر طاقته وكان سبيل خلاصه هو الاستعانة بناموس الله.
(٥) ثم يتابع التعبير ذاته فلأنه طلب أن يتحفظ من صرامة الأشرار لذلك يتبع استمرار الخطوات التي تنجي وتخلّص. فهو يتبين الأثر ويتبعه وحينئذ لا يزل ولا يسقط بل يبقى ثابتاً يسير باستقامة إلى الهدف الذي يقصده (انظر أيوب ٢: ٤٠ وأمثال ١٧: ١٢ والجامعة ٤: ٢).
«٦ أَنَا دَعَوْتُكَ لأَنَّكَ تَسْتَجِيبُ لِي يَا اَللّٰهُ. أَمِلْ أُذُنَيْكَ إِلَيَّ. ٱسْمَعْ كَلاَمِي. ٧ مَيِّزْ مَرَاحِمَكَ يَا مُخَلِّصَ ٱلْمُتَّكِلِينَ عَلَيْكَ بِيَمِينِكَ مِنَ ٱلْمُقَاوِمِينَ. ٨ ٱحْفَظْنِي مِثْلَ حَدَقَةِ ٱلْعَيْنِ. بِظِلِّ جَنَاحَيْكَ ٱسْتُرْنِي ٩ مِنْ وَجْهِ ٱلأَشْرَارِ ٱلَّذِينَ يُخْرِبُونَنِي، أَعْدَائِي بِٱلنَّفْسِ ٱلَّذِينَ يَكْتَنِفُونَنِي. ١٠ قَلْبَهُمُ ٱلسَّمِينَ قَدْ أَغْلَقُوا. بِأَفْوَاهِهِمْ قَدْ تَكَلَّمُوا بِٱلْكِبْرِيَاءِ».
(٦) إن المخاطر التي تعترض سبيله عظيمة ولكن رحمة الله أعظم. إن الله قادر أن يساعد ودائماً مستعد أن يفعل ذلك مع الذين يدعونه. يطلب إلى الله أن يحفظه من الشرير (انظر ١يوحنا ٥: ١٨) فلا يسقطه بالتجربة ولا يتحمل بعد ذلك أهوال الخطيئة. يجب أن يستلفت نظرنا كثرة تكراره أن يسمع الله ويصغي إليه.
(٧) وأرى ترجمتها «أظهر رحمتك مخلصاً المعتصمين من المقاومين بيمينك». ولا شك أن هذا العدد في الأصل العبراني في حالة الغموض. والفكرة على ما اعتقد أنه يطلب عون يمين العلي لأنه يتكل على الرب ضد أولئك المقاومين لاسمه بل المحاربين يمينه. يطلب أن تكون هذه المراحم ممتازة منظورة تقنع جميع الناس حتى غير المؤمنين.
(٨) إن الله بعنايته العظيمة حفظ العين من الضرر فوضعها في مكان حصين جداً فإذا جاءتها لطمة أصابت العظام حولها ولم تصبها هي وهكذا يطلب المرنم من الله أن يحفظه على هذه الصورة أي في مكان حصين لا تطاله التجارب والويلات ولا مكايد الأعداء. ثم يتابع التشبيه إلى شيء أخر فهو يطلب الحماية كما يفعل النسر بفراخه فيضعها تحت جناحيه (انظر تثنية ٣٢: ١١) وأما تشبيه الدجاجة المذكور (متّى ٢٣: ٣٧) فهو غريب عن مألوف العهد القديم. وأجنحة الرب هي الأذرع الأبدية الممدودة بالرحمة والإحسان تحتضن كل اللاجئين إليه.
(٩) هذه الترجمة حرفية أكثر من اللازم والأفضل أن نقول «من الأشرار الذين يخربونني من أعدائي الألداء الذين يحيطون بي». وهؤلاء الأعداء المحاصرون كادوا يصلون لغايتهم فهم في الأعقاب يكادون يمسكوننا. هم ينالون بغيتهم منا ويحتجون أنهم ينظرون لبعيد غير مبالين بنا مع أنهم يريدون مسكنا وتحطيمنا.
(١٠) هم متكبرون وقحون يتكلمون دائماً بتعظم ولا سيما لأعدائهم. وفي الوقت ذاته لا يخافون الله ولا يهتمون بأوامره ووصاياه ذلك لأنهم يحسبون ما هم عليه من رفعة شأن وكبر يجعلهم مغترين بذواتهم لا يحسبون لشيء حساباً. وإغلاق القلب جعله أن لا يعي ولا ينتبه ولا يسمع لشيء (انظر مزمور ٧٣: ٧ وقابله مع أيوب ١٥: ٢٧). هم منغمسون باللذات يؤكدون أن الغد لهم ولا يعرفون أن يفتدوا الوقت ولا يحسبون الأيام شريرة (راجع رؤيا ١٣: ٥ و٦). ويستعملون بنوع خاص أفواههم التي لا تخاف الله ولا تهاب إنساناً. قلبهم سمين لأن أفواههم سمينة على نسبة ما شبعوا من المسمنات.
« ١١ فِي خُطُوَاتِنَا ٱلآنَ قَدْ أَحَاطُوا بِنَا. نَصَبُوا أَعْيُنَهُمْ لِيُزْلِقُونَا إِلَى ٱلأَرْضِ. ١٢ مَثَلُهُ مَثَلُ ٱلأَسَدِ ٱلْقَرِمِ إِلَى ٱلٱفْتِرَاسِ، وَكَالشِّبْلِ ٱلْكَامِنِ فِي عِرِّيسِهِ. ١٣ قُمْ يَا رَبُّ. تَقَدَّمْهُ. اِصْرَعْهُ. نَجِّ نَفْسِي مِنَ ٱلشِّرِّيرِ بِسَيْفِكَ، ١٤ مِنَ ٱلنَّاسِ بِيَدِكَ يَا رَبُّ، مِنْ أَهْلِ ٱلدُّنْيَا. نَصِيبُهُمْ فِي حَيَاتِهِمْ. بِذَخَائِرِكَ تَمْلأُ بُطُونَهُمْ. يَشْبَعُونَ أَوْلاَداً وَيَتْرُكُونَ فُضَالَتَهُمْ لأَطْفَالِهِمْ. ١٥ أَمَّا أَنَا فَبِٱلْبِرِّ أَنْظُرُ وَجْهَكَ. أَشْبَعُ إِذَا ٱسْتَيْقَظْتُ بِشَبَهِكَ».
(١١) يتابع نفس الفكرة ويؤكدها. هم يتبعون آثارنا كما تفعل كلاب الصيد بكل دقة ومهارة. وقد اشتهر عن الأقدمين ولا سيما العرب انهم كانوا يكشفون الضائع من إنسان أو حيوان باتباع آثاره وقد مهر البعض في ذلك إلى درجة بعيدة. وقد توصل بعضهم أن يعرف صفات الحيوان وعيوبه وعاداته من آثاره التي يتركها في الأرض. وغاية هؤلاء الأعداء أن يرمونا لأن ذلك أهون عليهم حتى يتغلبوا علينا.
(١٢) حتى الآن له عادة أن يتبع فريسته ورأسه ملاصق للارض لكي لا تفوته حركاتها فيهجم عليها وهي لا تشعر بوجوده. وكذلك حينما يهاجم الجاموس أو سرب منه بعض الأعداء يخفضون رؤوسهم للأرض ويركضون بسرعة وشجاعة نادرتين. معروف أن اللبوة وهي تربي أشبالها تضعهم في محل أمين جداً لا يمكن أن يطالهم أحد وهي عندئذ أشد بطشاً وفروسية من الأسد نفسه. والأسد هو مثال البطش منذ قديم الزمان حينما يستعمل قواه المدهشة للفتك. هكذا هؤلاء الأعداء اللاحقون به. فلا شيء يثنيهم ولا يهابون أحداً.
(١٣) ولكنه يستنجد ويستصرخ الله ويطلب إليه أن يستعمل سيفه وهو أمضى سلاح فتاك عندئذ (انظر إشعياء ١٠: ٥ و١٥ و١٣: ٥ وحبقوق ١: ١٢ وأعمال ٤: ٢٨) يطلب إليه أن يلاقي هذا العدو المهاجم بدلاً منه. وأن يتغلب عليه لكي يخلّص نفسه ولا يهلكها. يقرّ المرنم أنه لا يستطيع أن يخلّص نفسه بنفسه لذلك يطلب سلاحاً أمضى ويتكل على الله وما أجمل أننا نهرع إليه عند نفاد حيلتنا.
(١٤) الناس يقصد بهم الذين يعيشون لهذه الدنيا وفي سبيلها فقط ولا ينظرون للآخرة وما فيها من دينونة. قد يكون المعنى إن هؤلاء الناس لهم كل خيرات الدنيا يتمتعون بها أنفسهم ولهم أولاد كثيرون يورثونهم إياها حينما ينقلون من هذه الدنيا فهم أناس ماديون بكل معنى الكلمة آلهتهم بطونهم ولا يعرفون غيرها ومع ذلك لا يهتمون لما يأتي به المستقبل لأنهم يحسبون أن كل شيء هو لهم فما يفضل عنهم يتركونه لأولادهم. يعيشون بخير الله وينكرون فضله.
(١٥) إذا كان أولئك الأشرار منكري جميل الله لهم شبعهم من هذه الدنيا فالمرنم ليس كذلك لأن شبعه أن ينظر وجه الرب (راجع عدد ١٢: ٨ وأيضاً خروج ٣٣: ٢٠) وهو يستيقظ كإنما يرى شبه الرب في الرؤيا فتنكشف أمامه رحمة الرب ويتحقق نعمته في حياته وحينئذ يطمئن به كل الاطمئنان أحداً.


اَلْمَزْمُورُ ٱلثَّامِنُ عَشَرَ


لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ. لِعَبْدِ ٱلرَّبِّ دَاوُدَ ٱلَّذِي كَلَّمَ ٱلرَّبَّ بِكَلاَمِ هٰذَا ٱلنَّشِيدِ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلَّذِي أَنْقَذَهُ فِيهِ ٱلرَّبُّ مِنْ أَيْدِي كُلِّ أَعْدَائِهِ وَمِنْ يَدِ شَاوُلَ. فَقَالَ:


«١ أُحِبُّكَ يَا رَبُّ يَا قُوَّتِي. ٢ ٱلرَّبُّ صَخْرَتِي وَحِصْنِي وَمُنْقِذِي. إِلٰهِي صَخْرَتِي بِهِ أَحْتَمِي. تُرْسِي وَقَرْنُ خَلاَصِي وَمَلْجَإِي. ٣ أَدْعُو ٱلرَّبَّ ٱلْحَمِيدَ فَأَتَخَلَّصُ مِنْ أَعْدَائِي. ٤ اِكْتَنَفَتْنِي حِبَالُ ٱلْمَوْتِ، وَسُيُولُ ٱلْهَلاَكِ أَفْزَعَتْنِي. ٥ حِبَالُ ٱلْهَاوِيَةِ حَاقَتْ بِي. أَشْرَاكُ ٱلْمَوْتِ ٱنْتَشَبَتْ بِي».
هذا المزمور موجود بكامل نصه حرفياً على وجه التقريب في (٢صموئيل ٢٢) وفي كلا الموضعين ينسب إلى داود. وليس سوى الذي يشكك في كل شيء يمكنه أن يشكك في هذه النسبة بل يسلم دون أي جدل أنها صحيحة تماماً. وهذا مزمور شكر لله لأجل نجاته كما يذكر العنوان في أوله. والقالب الشعري جميل للغاية والأفكار سامية مملوءة بالإيمان والورع والاتكال الكامل على عنايته تعالى. (١) يكاد يكون العدد الأول بمثابة موضوع المزمور كله وهو يحب الله ويعترف بجميله. فإن اختبار المرنم الطويل عن محبة الله جعله أن يصرخ في الافتتاح ويقول أحبك يا رب. محبة عميقة شديدة بالنسبة للإنسان هي تناسب مع فضل الله وإحسانه نحو الجميع.
(٢) الرب صخرة في ثباتها والركون إليها والاعتماد عليها ثم يقول أنها مجتمعة مع صخور أخرى لتؤلف حصناً ثم إذا بها يقطنها منقذ يمد يده بالخلاص. هو إلهي والتكرار هنا للتوكيد ولزيادة كلمات التعبد والخشوع أمام الله. وكذلك الكلمات التي لي فيصف الله أنه ترس. بل هو يذيع الخلاص ويتممه لأن القرن ينفخ فيه للانتصار ثم يعود يؤكد ما بدأ به كلامه فهو ملجأ أمين.
(٣) هذا هو الرب الذي يليق به الحمد لذلك أدعوه وألتجئ إليه وتكون النتيجة أنني أنال الخلاص من هؤلاء الأعداء الذين يريدون نفسي. إن الله لحميد لأنه بالاختبار قد استحق هذا التعظيم اللائق باسمه (انظر أعمال ٢: ٢١).
(٤) كلما زادت المخاطر أمامنا كلما كانت النجاة أعظم وأثمن. يصور الموت كأن له حبالاً يمسك بها الناس بأشراكه. وينتقل إلى صورة سيول جارفة تفزعه وتحرمه لذيذ المنام.
(٥) وفي هذا العدد أيضاً يكرر المعنى ذاته ويعظم الضيقة التي هو فيها. ويبدل فقط كلمة الموت بالهاوية. وهذان العددان (٤ و٥) هما في حقيقة الأمر بمعنى واحد. ويخبرنا المرنم أنه كان في خطر مداهم كل دقيقة من حياته عندئذ بل كاد يهلك تماماً لولا رحمة الله التي أدركته ونجته (انظر مزمور ١١٦: ٣).
«٦ فِي ضِيقِي دَعَوْتُ ٱلرَّبَّ وَإِلَى إِلٰهِي صَرَخْتُ، فَسَمِعَ مِنْ هَيْكَلِهِ صَوْتِي، وَصُرَاخِي قُدَّامَهُ دَخَلَ أُذُنَيْهِ. ٧ فَٱرْتَجَّتِ ٱلأَرْضُ وَٱرْتَعَشَتْ أُسُسُ ٱلْجِبَالِ. ٱرْتَعَدَتْ وَٱرْتَجَّتْ لأَنَّهُ غَضِبَ. ٨ صَعِدَ دُخَانٌ مِنْ أَنْفِهِ، وَنَارٌ مِنْ فَمِهِ أَكَلَتْ. جَمْرٌ ٱشْتَعَلَتْ مِنْهُ. ٩ طَأْطَأَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَنَزَلَ وَضَبَابٌ تَحْتَ رِجْلَيْهِ. ١٠ رَكِبَ عَلَى كَرُوبٍ وَطَارَ، وَهَفَّ عَلَى أَجْنِحَةِ ٱلرِّيَاحِ».
(٦) في هذه الحالة الصعبة يلتفت المرنم إلى قوة علوية خارجة عنه هي فوقه فلا يدركها ولكنها حقيقية وحنونة فيستنجد بها ويعتمد عليها. إن الله يلبي النداء ولا يتخلى عن أولاده. يسمع من هيكله لأنه موجود فيه بصورة خاصة وهكذا سمع الصراخ أيضاً.
(٧) يعود بالصورة هنا إلى جبل الله سيناء حينما خاف بنو إسرائيل وارتعبوا ولم يستطيعوا أن يسمعوا (انظر مزمور ١٩). وهذه الكلمات تشبه ما ورد في (حبقوق ٣ و٢تسالونيكي ١: ٧ الخ). والأرض وأسس جبالها ترتج وترتعش كإنما من نفسها لهول المنظر ورهبته.
(٨) إن الدخان كإنما هو نفس النار يتصاعد كما يتصاعد تنفس الإنسان. وهنا يؤكد وجود النار والجمر المشتعل. فغضب الله عامل فتاك يحرق ويبيد ولذلك فالخاطئ يجب أن يخاف ويرتعب ولا يستطيع أن يستمر على حالته بدون مبالاة. تعطي النار تحذيراً بوجود الدخان وتنتهي بوجود الجمر الذي هو كمال الاشتعال.
(٩) وهكذا فإن السموات التي هي كرسي الله تطأطئ وكإنما تنزل وهنا خيال للشاعر رحيب فإنه طالما رأى الغيوم تسوقها الرياح وتذهب بها أنى شاءت. والضباب لا يكون عالياً كالسحاب لذلك فهو يناسب أن يكون في مكان رجليه فقط. والحق يقال أنه لمنظر آخاذ ووصف بديع للغاية.
(١٠) نلاحظ كرب على كروب أي على ملاك أو ملائكة هي خدامه وإذا قلبنا الحروف قليلاً «ركوب» أو مركبة وهنا تأتي الكلمة بشكل اسم مفعول. والكروب ذكر أولاً في (تكوين ٣: ٢٤) الذي وضع حارساً على باب الفردوس. وهو مركبة الله التي يأتي بها ظاهراً للناس بجلاله العظيم. فالكروب بالأحرى هو مظهر الله لشكله الناري حينما يواجه هذا العالم لا سيما بحالة غضب وعدم رضا. وكان لنزوله صوت يهف كإنما هي الرياح تصفق بأجنحتها وتنبئ بوجود قوة تحركها وتسيّرها.
«١١ جَعَلَ ٱلظُّلْمَةَ سِتْرَهُ. حَوْلَهُ مَظَلَّتَهُ ضَبَابَ ٱلْمِيَاهِ وَظَلاَمَ ٱلْغَمَامِ. ١٢ مِنَ ٱلشُّعَاعِ قُدَّامَهُ عَبَرَتْ سُحُبُهُ. بَرَدٌ وَجَمْرُ نَارٍ. ١٣ أَرْعَدَ ٱلرَّبُّ مِنَ ٱلسَّمَاوَاتِ، وَٱلْعَلِيُّ أَعْطَى صَوْتَهُ بَرَداً وَجَمْرَ نَارٍ. ١٤ أَرْسَلَ سِهَامَهُ فَشَتَّتَهُمْ وَبُرُوقاً كَثِيرَةً فَأَزْعَجَهُمْ، ١٥ فَظَهَرَتْ أَعْمَاقُ ٱلْمِيَاهِ، وَٱنْكَشَفَتْ أُسُسُ ٱلْمَسْكُونَةِ مِنْ زَجْرِكَ يَا رَبُّ، مِنْ نَسَمَةِ رِيحِ أَنْفِكَ».
(١١) يصور هنا حالة الضباب الكثيف كإنما في غابة (غبو) كما في العبرانية (راجع خروج ١٩: ٩ وقابل مع إرميا ٤: ٢٩) وفي هذه المناسبة يرسل غضبه من هذه الغيوم.
(١٢) وإذا البروق تملأ الفضاء حتى تعبر الغيوم هذه من مكان لآخر كإنما هي سيف لامع يضرب كبد الظلماء. وبعد ذلك يأتي برد وصواعق ويظهر أنه برد ثقيل مخرّب. وكإنما يصور لنا أن هذا الضباب من شدة لمعان برق الله عليه يتحول إلى برد يتساقط بقوة عظيمة.
(١٣) وصوت الرب كان برعده القاصف الذي ملأ الأجواء البعيدة. وهذه كلها مشتركة تصوّر لنا تلك العاصفة التي كثيراً ما تحدث بصورة مفاجئة فتفزع وترعب حتى أشجع الناس.
(١٤) وقد يكون أن نزلت صاعقة فكان أن جعلتهم يهربون لا يلوون على شيء. واستمرت البروق اللامعة في الفضاء فكانت سبب إزعاج لم يستطيعوا معها المضي في ملاحقتهم لطريدتهم التي هو داود ذاته. والإزعاج هنا يتناول أنه هيجهم وبلبلهم وجعلهم لا يعلمون ماذا يفعلون. وهنا يظهر صوت الرب في الزوبعة.
(١٥) هنا صورة أرضية لما حدث أثناء هذه الزوبعة (راجع متّى ٧: ٢٧). وأعماق المياه تعني مجاري المياه والأنهار فإن هذه السيول الموقتة قد تتعاظم بسبب كثرة الأمطار إلى درجة هائلة. وظهر كإنما أعماق كل شيء قد بان لعين الناظر. وهذا ينسبه كله من غضب الرب على هؤلاء الأعداء فهو بعد أن يفزعهم برعوده وبروقه يكاد يغرقهم بسيوله المتدفقة المتكاثرة.
أما نسمة ريح أنفه فإن ذلك مصحوب بالرياح الشديدة التي تهب من كل ناحية وتتقاذف الأمطار والبرد وتحملها إلى كل جانب كإنما تسد عليه سبل الهرب والنجاة.
«١٦ أَرْسَلَ مِنَ ٱلْعُلَى فَأَخَذَنِي. نَشَلَنِي مِنْ مِيَاهٍ كَثِيرَةٍ. ١٧ أَنْقَذَنِي مِنْ عَدُوِّي ٱلْقَوِيِّ، وَمِنْ مُبْغِضِيَّ لأَنَّهُمْ أَقْوَى مِنِّي. ١٨ أَصَابُونِي فِي يَوْمِ بَلِيَّتِي، وَكَانَ ٱلرَّبُّ سَنَدِي. ١٩ أَخْرَجَنِي إِلَى ٱلرُّحْبِ. خَلَّصَنِي لأَنَّهُ سُرَّ بِي. ٢٠ يُكَافِئُنِي ٱلرَّبُّ حَسَبَ بِرِّي. حَسَبَ طَهَارَةِ يَدَيَّ يَرُدُّ لِي».
(١٦) ولكن الرب مد يده فنشله من الغرق لأن العاصفة شديدة والمياه جارفة والهوة سحيقة. وكلمة نشل (مشا) العبرانية الأرجح مأخوذة من المصرية وهي مذكورة في (خروج ٢: ١٠) تفسر كلمة موسى بأنه المنشول من الماء. وكإنما المرنم يريد أن يقول أنه جعل منه موسى آخر ذاك الذي نشل من النيل ومن غضب فرعون وهذا الذي خلصه الله من يد عدوه الشديد العاتي.
(١٧) يقرّ ويعترف المرنم أن هذا العدو قوي وهذا المبغض شديد لا يستطيع أن يقابله وجهاً لوجه ولكنه يستطيع أن يتكل على الله لأجل خلاصه. في العددين (١٦ و١٧) ينتهي المرنم من وصفه المؤثر البديع لكي يبدأ بعد ذلك في استنتاجاته الروحية التي ترفع النفس وتسمو بالأفكار إلى العلى. ولا يتأخر أن ينسب كل الفضل والإحسان لله فهو الذي خلّصه وأعانه ونجاه من تلك التهلكة العظمى.
(١٨) كادوا يصلون إليه ويمسكونه وينتهي أمره إلى البوار ولكن إذا بالرب يستده ويقويه فلا يقع في أيديهم. فهو العصا والعكاز وإن يكن في وادي ظل الموت.
(١٩) كان في محل ضيق علاوة على حالته الروحية والعقلية الضيقة والآن هو في مكان رحب يستطيع أن يسرح ويمرح فيه غير هياب من أحد.، كان الله مخلصه وذلك لأنه نال رضاه تعالى. هو الممسوح ملكاً حقيقياً على شعبه. ورويداً رويداً يتغلب على شاول في الصيت والكرامة حتى يعتلي أسمى مركز في إسرائيل.
(٢٠) هذا جزاء الصالحين الأبرار لهم مكافأة ولا يمكن أن يتخلى الرب عنهم بل سيذكرهم بخيره ويرحمهم برحمته. فإن مد يده لي بالعون فقد مددت له يدي من قبل بطهارة الأعمال الصالحة التي أتممتها. يرى المرنم هذه الأشياء دالة على عدل الله وبره إذ كيف يتخلى من أتقيائه الراجين رحمته؟
«٢١ لأَنِّي حَفِظْتُ طُرُقَ ٱلرَّبِّ وَلَمْ أَعْصِ إِلٰهِي. ٢٢ لأَنَّ جَمِيعَ أَحْكَامِهِ أَمَامِي، وَفَرَائِضَهُ لَمْ أُبْعِدْهَا عَنْ نَفْسِي. ٢٣ وَأَكُونُ كَامِلاً مَعَهُ وَأَتَحَفَّظُ مِنْ إِثْمِي. ٢٤ فَيَرُدُّ ٱلرَّبُّ لِي كَبِرِّي وَكَطَهَارَةِ يَدَيَّ أَمَامَ عَيْنَيْهِ».
(٢١) يتابع المرنم أفكاره ويشرح مفصلاً علاقته بالله فهو يمشي بطرق الرب ويطيع أوامره.
(٢٢) ثم هوذا ما حكم به الله عليه أو على غيره هي ماثلة أمام عينيه يذكرها ويراجعها لنفسه ويتعظ بها فيرى الصلاح لكي يمشي عل منواله ويرى عاقبة الأشرار وجزاءهم العادل فيبعد عنهم. بل يرى أن من واجبه أن يتمم كل فروض العبادة والانصراف لله (قابل تثنية ١٨: ٣٠ مع ٢صموئيل ٢٣: ٥).
(٢٣) لذلك فهو يرى كماله أي عدم ارتكابه لأي إثم وهنا الكلمة تعود إلى الغواية فهو لا يغوي ولا يغش بل يثبت في الله ويتكمل.
(٢٤) وهكذا فإن الرب إذا جازاني فهو يفعل بالمقابلة براً ببر ويداً بيد لأنه يتأكد طهارة حياتي وكمالها.
«٢٥ مَعَ ٱلرَّحِيمِ تَكُونُ رَحِيماً. مَعَ ٱلرَّجُلِ ٱلْكَامِلِ تَكُونُ كَامِلاً. ٢٦ مَعَ ٱلطَّاهِرِ تَكُونُ طَاهِراً. وَمَعَ ٱلأَعْوَجِ تَكُونُ مُلْتَوِياً. ٢٧ لأَنَّكَ أَنْتَ تُخَلِّصُ ٱلشَّعْبَ ٱلْبَائِسَ، وَٱلأَعْيُنُ ٱلْمُرْتَفِعَةُ تَضَعُهَا. ٢٨ لأَنَّكَ أَنْتَ تُضِيءُ سِرَاجِي. ٱلرَّبُّ إِلٰهِي يُنِيرُ ظُلْمَتِي. ٢٩ لأَنِّي بِكَ ٱقْتَحَمْتُ جَيْشاً، وَبِإِلٰهِي تَسَوَّرْتُ أَسْوَاراً. ٣٠ اَللّٰهُ طَرِيقُهُ كَامِلٌ. قَوْلُ ٱلرَّبِّ نَقِيٌّ. تُرْسٌ هُوَ لِجَمِيعِ ٱلْمُحْتَمِينَ بِهِ».
(٢٥) الرحيم هو صديق الله والإنسان ولذلك فسلوكه يتناول جانبين البشري والإلهي. والكامل هو المتصف بالأدب الرفيع والتدين والخلوص لله (انظر رومية ١: ٢٨).
(٢٦) والطاهر أي الذي ينقي ويطهر نفسه (١يوحنا ٣: ٣) من المعايب ويسعى في إصلاح كل خلل فيه. أما الأعوج فضد المستقيم. أي الذي يحيد عن طريق الآداب العالمية والمبادئ الصحيحة. ومن السهل أن نرى سذاجة هذا المعنى فإن المرنم يرى تطبيق شريعة عين بعين وسن بسن حتى في الله جل وعلا. ولم تكن قد سمت الأفكار الدينية حتى مجيء المسيح الذي قال «يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى ٱلأَشْرَارِ...» (متّى ٥: ٤٥).
(٢٧) والبائس هنا ليس الفقير أو المعدم بل كما يقال بالدارج حتى اليوم (مسكين الله) أي لين الجانب متدين ورع يخشى الله بالعكس عن ذاك المتشامخ ذي العين المرتفعة. فالله يعضد مثل هذا البائس وبالعكس فإنه يضع ذلك المتكبر المتجبر على الله القاسي القلب والمتحجر الضمير (انظر إشعياء ٢٩: ١٤ ولاويين ٢٦: ٢٣). ولا أعتقد أن معنى المرنم هو فقط أن الله هو كما يتصوره الإنسان فنفس الإنسان هي مرآته (انظر ١صموئيل ٢: ٣٠ و١٥: ٢٣).
(٢٨ و٢٩) الرب ضوء سراجه ونوره في الظلمة وفي العدد التالي فهو شجاعته وبأسه وبه يستطيع أن يقتحم الأسوار (٢صموئيل ٢١: ١٧).
(٣٠) «الله» هنا ليس إلوهيم في العبرانية بل الإله الذي سار مع شعبه وقواهم ونجاهم. طريقه كامل أي من سار به لا يضل السبيل وقوله طاهر لأنه يعلّم ألسنتنا الصدق وقول الحق دائماً ثم في النهاية يعود فيكرر القول عن حمايته تعالى لكل اللاجئين إليه والمحتمين به فلا يتركهم أبداً.
«٣١ لأَنَّهُ مَنْ هُوَ إِلٰهٌ غَيْرُ ٱلرَّبِّ! وَمَنْ هُوَ صَخْرَةٌ سِوَى إِلٰهِنَا! ٣٢ ٱلإِلٰهُ ٱلَّذِي يُمَنْطِقُنِي بِٱلْقُوَّةِ وَيُصَيِّرُ طَرِيقِي كَامِلاً. ٣٣ ٱلَّذِي يَجْعَلُ رِجْلَيَّ كَٱلإِيَّلِ، وَعَلَى مُرْتَفِعَاتِي يُقِيمُنِي. ٣٤ ٱلَّذِي يُعَلِّمُ يَدَيَّ ٱلْقِتَالَ فَتُحْنَى بِذِرَاعَيَّ قَوْسٌ مِنْ نُحَاسٍ. ٣٥ وَتَجْعَلُ لِي تُرْسَ خَلاَصِكَ، وَيَمِينُكَ تَعْضُدُنِي، وَلُطْفُكَ يُعَظِّمُنِي».
(٣١) في هذا العدد وما يليه شكر قلبي لجود الله وإحساناته العميمة. وهنا تكرار للمعنى المتقدم فلا إله سواه ولا صخرة يمكن الاحتماء بكنفها سوى الرب العظيم.
(٣٢) هذا الإله القوي الذي يعطي القوة لكل ملتمسيها. وهو الذي يجعل طريقنا مستقيماً كاملاً. أي لا عثرات فيه ولا سقطات للذين يسلكونه. ذلك لأنه طريق يؤدي إلى هدف معين لا نستطيع أن نحيد عنه قيد شعرة ونسلم (انظر أيوب ٢٢: ٣).
(٣٣) الإيل يضرب به المثل بالسرعة فالله قد أعطاه النجاة وجعله سريعاً بها لأن بهذه السرعة استطاع أن يسلم من يد شاول عدوه. بعد أن يسلم من الخطر إذا به يقيم في المكان العالي. كان مختبئاً من قبل أما الآن فيظهر. كان يسير في الأودية والمنعطفات أما الآن ففي أرفع الأمكنة غير هياب ولا وجل. والحرب كرّ وفرّ.
(٣٤) وبعد أن نجاه من التهلكة لم يتركه بطالاً بلا عمل بل نجده يدربه كيف ينجي نفسه مرة ثانية ولا سيما فإن المهمة شاقة أمامه والعمل صعب عليه أن يخلص شعب الله من جميع الأعداء حولهم. ويصبح بارعاً وقوياً بهذا المقدار حتى يستطيع أن يستخدم أشد الأسلحة فتكاً. ولا يخفى ما كان عليه القوس ولا سيما إن كان من نحاس من أهمية في تلك الأيام القديمة (انظر أيوب ٢٠: ٢٤).
(٣٥) وهنا يلتفت ليؤكد أن الخلاص ليس بيده بل من يد الله لأنه هو الذي يعطي ترس الخلاص ويحميه. ولم يعطه الله هذا الترس فقط بل أعطاه يمينه عضداً وسنداً وليس هذا فقط بل كان لطفه سبب تعظيم ورفع.
«٣٦ تُوَسِّعُ خُطُوَاتِي تَحْتِي فَلَمْ تَتَقَلْقَلْ عَقِبَايَ. ٣٧ أَتْبَعُ أَعْدَائِي فَأُدْرِكُهُمْ وَلاَ أَرْجِعُ حَتَّى أُفْنِيَهُمْ. ٣٨ أَسْحَقُهُمْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ ٱلْقِيَامَ. يَسْقُطُونَ تَحْتَ رِجْلَيَّ. ٣٩ تُمَنْطِقُنِي بِقُوَّةٍ لِلْقِتَالِ. تَصْرَعُ تَحْتِي ٱلْقَائِمِينَ عَلَيَّ. ٤٠ وَتُعْطِينِي أَقْفِيَةَ أَعْدَائِي وَمُبْغِضِيَّ أُفْنِيهِمْ».
(٣٦) توسيع الخطوات أي عدم ضيقها فيستطيع الحركة والعمل برحب (انظر أمثال ٤: ١٢) فإن الرب قد مهّد السبل أمامه وسنده فيها وهكذا لم يتعثر ولم تزل به القدم.
(٣٧ و٣٨) وهكذا في هذا العدد يصبح الضعيف قوياً حتى يستطيع أن يطارد أعداءه ويدركهم ولا يرجع عنهم حتى الظفر التام. هنا منظر القتال الذي لا هوادة فيه ولا لين فأما أن تكون القاتل أو تكون القتيل. ولكنه لا ينسب القوة لنفسه بل يرجعها لله الذي يعطيه إياها. وهنا يصور انخذال الأعداء التام فهم منسحقون تحت رجليه لا يستطيعون الدفاع حتى ولا النهوض.
(٣٩) يجعل القوة منطقته ويشد نفسه بها كما تشد المنطقة جسده فيصبح أخف حركة وأسرع جرياً في مطاردة أعدائه وإحراز النصر. وصرع الأعداء لا فضل له فيه بل كل الفضل يعود لله الذي يقويه.
(٤٠) وإعطاؤه قفا الأعداء دليل هربهم فلا يستطيعون المجابهة والظهور وجهاً لوجه (انظر خروج ٢٣: ٢٧). وهكذا قد نال ظفراً حاسماً وكان حظ المبغضين الفناء التام (انظر تثنية ٣٣: ١١).
«٤١ يَصْرُخُونَ وَلاَ مُخَلِّصَ. إِلَى ٱلرَّبِّ فَلاَ يَسْتَجِيبُ لَهُمْ. ٤٢ فَأَسْحَقُهُمْ كَٱلْغُبَارِ قُدَّامَ ٱلرِّيحِ. مِثْلَ طِينِ ٱلأَسْوَاقِ أَطْرَحُهُمْ. ٤٣ تُنْقِذُنِي مِنْ مُخَاصَمَاتِ ٱلشَّعْبِ. تَجْعَلُنِي رَأْساً لِلأُمَمِ. شَعْبٌ لَمْ أَعْرِفْهُ يَتَعَبَّدُ لِي. ٤٤ مِنْ سَمَاعِ ٱلأُذُنِ يَسْمَعُونَ لِي. بَنُو ٱلْغُرَبَاءِ يَتَذَلَّلُونَ لِي. ٤٥ بَنُو ٱلْغُرَبَاءِ يَبْلُونَ وَيَزْحَفُونَ مِنْ حُصُونِهِمْ».
(٤١) استنجدوا بإلههم فلم ينجد بل طلبوا من الرب فلم يصغ لصوتهم. إن الرب لا يستجيب على حسب هوى الإنسان ومتى أراد بل على نسبة مشيئته ومتى هو يريد إتمامها.
(٤٢) لقد أصبحوا في أسوأ حالة وإلى أبعد درجة من الاضمحلال إلى تراب «إلى تراب تعود» فتتقاذفه الريح إلى كل جهة كما تفعل بالعصافة. بل يحقرهم إلى أبعد درجة فهم الوحل المرمي في الأسواق سبب أوساخ للمارة وتعب ومشقة للسائرين فيه.
(٤٣) «من مخاصمات الشعب» قد يعود إلى شعب إسرائيل مثلاً ينشقون بين أنفسهم ولا يتخاصمون وداود يكون رأساً لهذا الشعب بل لأمم كثيرة حتى الذين لا يعرفونه ولا علاقة لهم سابقة بهم يلتمسون خاطرهم ويقدمون الخضوع.
(٤٤) وهؤلاء الأمم لأنهم سمعوا بانتصارات داود أصبح واجب الحماية يقضي عليهم أن يلتمسوا رضاه. فهم يذلون أنفسهم لكي يسلموا.
(٤٥) ثم يضمحلون ويفنون ولا يمكنهم أن يسيروا بعد كالبشر بل يزحفون زحفاً كأحقر الأحياء. وقوله من حصونهم يجعل الصورة أتم وأكمل أي إنهم يأتون أذلاء من أعز وأمنع الأشياء عندهم وهي الحصون.
«٤٦ حَيٌّ هُوَ ٱلرَّبُّ وَمُبَارَكٌ صَخْرَتِي وَمُرْتَفِعٌ إِلٰهُ خَلاَصِي، ٤٧ اَلإِلٰهُ ٱلْمُنْتَقِمُ لِي، وَٱلَّذِي يُخْضِعُ ٱلشُّعُوبَ تَحْتِي. ٤٨ مُنَجِّيَّ مِنْ أَعْدَائِي. رَافِعِي أَيْضاً فَوْقَ ٱلْقَائِمِينَ عَلَيَّ. مِنَ ٱلرَّجُلِ ٱلظَّالِمِ تُنْقِذُنِي. ٤٩ لِذٰلِكَ أَحْمَدُكَ يَا رَبُّ فِي ٱلأُمَمِ وَأُرَنِّمُ لٱسْمِكَ. ٥٠ بُرْجُ خَلاَصٍ لِمَلِكِهِ، وَٱلصَّانِعُ رَحْمَةً لِمَسِيحِهِ، لِدَاوُدَ وَنَسْلِهِ إِلَى ٱلأَبَدِ».
(٤٦) وهنا يبدأ المرنم بالختام فيقدّم الحمد والتسبيح ويؤكد أولاً أن الله حي موجود. فهو صخرة الحماية مبارك وممجد إلى الأبد. وهو مرتفع لكي تتجه إليه كل أنظار السائرين في طريق الموت فينجيهم.
(٤٧) وهو منتقم من الذين سببوا هذا الإزعاج فطارد عنهم الذين طردوه وأخضع الذين حاولوا إخضاعه.
(٤٨) وهو سبب النجاة ولا يتركنا نسقط بل يقيمنا ولا يكتفي بذلك بل يرفعنا فوق هؤلاء الأعداء الظالمين يكرر المعنى بكلمات مترادفة لزيادة التأثير في النفس.
(٤٩) هذا العدد قد نقله الرسول بولس (رومية ١٥: ٩) كما أخذ (تثنية ٣٢: ٤٤ ومزمور ١١٧: ١) وهنا بدء فكرة المسيا المذكورة (٢صموئيل ٧: ١٢ - ١٦).
(٥٠) ويختم بتكرار فكرة الخلاص للملك بل الذي يرحم من مسحه ملكاً على شعبه وبالأخص لداود عبده وللذين يخلفونه من ذريته في مستقبل الأيام.


اَلْمَزْمُورُ ٱلتَّاسِعُ عَشَرَ


لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ. مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ


«١ اَلسَّمَاوَاتُ تُحَدِّثُ بِمَجْدِ ٱللّٰهِ، وَٱلْفَلَكُ يُخْبِرُ بِعَمَلِ يَدَيْهِ. ٢ يَوْمٌ إِلَى يَوْمٍ يُذِيعُ كَلاَماً، وَلَيْلٌ إِلَى لَيْلٍ يُبْدِي عِلْماً. ٣ لاَ قَوْلَ وَلاَ كَلاَمَ. لاَ يُسْمَعُ صَوْتُهُمْ. ٤ فِي كُلِّ ٱلأَرْضِ خَرَجَ مَنْطِقُهُمْ، وَإِلَى أَقْصَى ٱلْمَسْكُونَةِ كَلِمَاتُهُمْ. جَعَلَ لِلشَّمْسِ مَسْكَناً فِيهَا»
في هذا المزمور يوجه المرنم نظر القارئ إلى وسيلتين بهما نتوصل لمعرفة الله. الأولى النظر للسماء والنجوم والأفلاك. والثانية النظر إلى شريعة الله ووصاياه ونواميسه. نعم إن الطبيعة وهي كتاب الله المفتوح تشبه لنا وجوده تعالى ولكن كتابه وحده هو الذي يخبرنا عن مشيئته ويعلّمنا كيف نسلك في هذه الحياة.
(١) السموات هي الفلك وما يحويه وأما الفلك فهو رقيع الجلد الأزرق وهنا تكرار من قبل التوازن ليس إلا ولا يريد المرنم أن يبحث في الفروقات بين الاثنين بل يهمه أن يخبر أن النظر للسماء يلهم الناظر أن يرى الله فيه. وهذه السموات تعلّمنا وتحدثنا بعمل يدي الله العلي الذي صنع كل شيء بحكمة تفوق العقول.
(٢) اليوم يقصد به الأرجح النهار فإن للنهار خدمته مما ترسله الشمس من شعاع ينعكس على الكائنات فترى جمالها وألوانها وذلك فإن الليل بقمره ونجومه يوحي للراصدين أعظم المعاني وأجمل الصور. وكلا الليل والنهار يتممان رسالتهما بدون صوت ولا كلام بل بهدوء وسكون. وهذا القول أو الكلام لا ينتمي إلى أي لسان خاص أو أية أمة خاصة ومع ذلك فهو مفهوم من كل الشعوب والألسنة.
(٣) إذاً هو كلام وفي نفس الوقت ليس بكلام. وهو حديث للإنسان ولكنه ليس من إنسان بل من الخالق العظيم الذي أبدع هذه الكائنات. هو حديث بغير كلام إذ هو أعلى من الكلام ولا يستطيع الكلام أن يعبر عن العواطف التي تختلج فينا فإن هذا حقيقي حينا نكون في روعة أو جلال.
(٤) وقد لاحظ المرنم هذا الدوران المتواصل في الفلك فقال إن منطقهم قد خرج إلى أقصى المسكونة وهكذا كلماتهم. الشمس تسكن في هذه السموات وليس فقط تدور كما تفعل بقية النجوم لأنها هي نبع الحياة وبدونها لا يمكن أن يعيش أي الأحياء من نبات أو حيوان.
«٥ وَهِيَ مِثْلُ ٱلْعَرُوسِ ٱلْخَارِجِ مِنْ حَجَلَتِهِ. يَبْتَهِجُ مِثْلَ ٱلْجَبَّارِ لِلسِّبَاقِ فِي ٱلطَّرِيقِ. ٦ مِنْ أَقْصَى ٱلسَّمَاوَاتِ خُرُوجُهَا، وَمَدَارُهَا إِلَى أَقَاصِيهَا، وَلاَ شَيْءَ يَخْتَفِي مِنْ حَرِّهَا. ٧ نَامُوسُ ٱلرَّبِّ كَامِلٌ يَرُدُّ ٱلنَّفْسَ. شَهَادَاتُ ٱلرَّبِّ صَادِقَةٌ تُصَيِّرُ ٱلْجَاهِلَ حَكِيماً».
(٥) إن العروس أو العريس (المذكر) له احتفالاته الخاصة في وقت الزفاف فتحمل أمامه المشاعيل ويرافقه الأصدقاء والأقارب بكل بهجة وأبهة إلى بيت عروسه حيثما يعود بها إلى مكان الإكليل وهذا ما يسمى (الزفة). وكان الأقدمون يحسبون السيارات الدائرة حول الشمس كأنها وصائف وأخدان لخدمتها وهكذا حسب الشمس كأنها خارجة إلى زفافها اليومي وهي تشرق بأنوارها الساطعة على العالمين. بل يجتاز من ذلك إلى القول بأنه كالجبار المسرع في جريه للسباق كإنما يتسابق مع الناس في انصراف النهار فلا تكاد تشرق الشمس حتى تغيب ولا تكاد تغيب حتى تشرق من جديد في يوم آخر (راجع أيوب ٣٨: ٣١ و٣٢).
(٦) ويصف مدى دورانها اليومي المعتاد والذي هو عجيبة أبدية قلما نحفل بها أو نعيرها أقل اهتمامنا. وهي تطال كل مكان وتملأه بالنور والحرارة إذ لا حياة ولا لون ولا جمال بدونها. ولفظة الشمس مع أنها في العربية مؤنث هي في العبرانية والآرامية مذكر بوجه العموم.
وفي العدد (٥) الحجلة هي تلك القبة التي تصنع خصيصاً للعروسين وقت الإكليل لذلك فالعروس يخرج من حجلته هذه بتمام الجلال والجمال والكلمة بالعبرانية تأتي من «حفّ» أي تعتبر القبة والقوم الذين يحفون بالعروسين ويحتفون بهما.
(٧) وهنا يأتي للقسم الثاني من هذا المزمور وهو الحديث عن ناموس الرب هو «كامل» لا خطأ فيه لذلك يمكن أن يعتمد عليه في هدايتنا إلى الصواب. والنفس قد تبتعد وتقع في الشطط وتحتاج إلى ما يردعها ويرجعها ولا شيء يفعل ذلك سوى هذا الناموس الإلهي السديد. والشهادات هنا معناها التحذيرات والتنبيهات والمواعظ التي تجعلنا نفهم وندرك العواقب. وهي صادقة لا تغشنا قط لأنها تحوي الاختبارات التي تزيد الحكيم حكمة وتجعل الجاهل الذي يتبنى الحكمة أن يصير حكيماً أيضاً. ويمكن ترجمة «صادقة» أمينة أي يمكن الوثوق بها فهي محققة وثابتة وليست من قبيل الكلام يلقى على عواهنه بل كلام الحق الأبدي.
«٨ وَصَايَا ٱلرَّبِّ مُسْتَقِيمَةٌ تُفَرِّحُ ٱلْقَلْبَ. أَمْرُ ٱلرَّبِّ طَاهِرٌ يُنِيرُ ٱلْعَيْنَيْنِ. ٩ خَوْفُ ٱلرَّبِّ نَقِيٌّ ثَابِتٌ إِلَى ٱلأَبَدِ. أَحْكَامُ ٱلرَّبِّ حَقٌّ عَادِلَةٌ كُلُّهَا. ١٠ أَشْهَى مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلإِبْرِيزِ ٱلْكَثِيرِ، وَأَحْلَى مِنَ ٱلْعَسَلِ وَقَطْرِ ٱلشِّهَادِ. ١١ أَيْضاً عَبْدُكَ يُحَذَّرُ بِهَا، وَفِي حِفْظِهَا ثَوَابٌ عَظِيمٌ».
(٨) هي مستقيمة لأنها تعني أسمى الأفكار وتتضمن دائماً خير الجنس البشري لذلك على هذا القلب أن يفرح بها (راجع ٢تيموثاوس ٣: ١٥). وهي مستقيمة لأن مشيئة الله صالحة دائماً. ويجب أن يفرح القلب بها لأنها تعزيه في الضيقات وتنير له الطريق في التجارب. أمره طاهر أي لا شيء من الأنانية فيه فهو يأمرنا من أجل خيرنا فقط وليس ليتمجد هو بل لنترقى ونتهذب نحن. لذلك فعلينا أن نفتح عيوننا وننظر إلى ما حولنا ونسترشد ولا نبقى في ظلمة قط. يقود باليد ويسدد الخطى وينبه الضمير.
(٩) خوف الرب أي هيبته ووقاره يجب أن تملأ قلوبنا هو نقي لأنه ليس لإرهابنا بل لتهذيبنا وهو ثابت لأنه لا يمكن أن يتزعزع لجهالة بعض الجاهلين الذي يكفرون بالله ويعصون أوامره وهو يطيل أناته عليهم ويحتملهم. وهؤلاء إذا لم يخافوا الله الآن فسوف يخافونه يوم الدين حينما تقدم كل نفس جزاء ما فعلت إن خيراً فخيراً أو شراً فشراً. و «أحكامه» أي ما يأمر به ويقضي علينا هو العدل بعينه وخوف الرب معنا. التدين بعينه أي أن نكون على أنفسنا رقباء ونلاحظ سيرنا بحسب ما يأمر به الدين.
(١٠) وإذا كانت كذلك فيجب أن يطلبها الإنسان ويشتهيها لأن العقل يقضي بها الذهب هو المال وأثمن ما يقتنيه الإنسان وأجمله والإبريز هو الذهب الخالص وتكراره من قبيل التوكيد والمبالغة.
وكذلك هي لذيذة لأنه يشبهها بأحلى شيء عرفه الإنسان القديم أي العسل. وقطر الشهاد هو ما ينفثه الشهد من كثرة ما هو مملوء به دون ضعط أو كبس عليه. وهكذا فإن كلام الله لذيذ الطعم ولكن على شرط أن نأكله. ولا نستفيد معرفة بالعسل وشهده إن سمعنا سماعاً بلذة طعمه بل علينا أن نستطعمه نحن وهكذا كلام الله علينا أن نقرأه نحن.
(١١) ويلخص كلامه عن هذه الشريعة بأنها موضوعة للتحذير والتنبيه كأنها تنادينا لنا لكي نقبل إليها ونسترشد بأنوارها. وهنيئاً لمن يحفظها ويتمشى بموجب تعاليمها وحينئذ يكون الجزء عظيماً على نسبة عظمة هذا الاهتداء.
«١٢ اَلسَّهَوَاتُ مَنْ يَشْعُرُ بِهَا! مِنَ ٱلْخَطَايَا ٱلْمُسْتَتِرَةِ أَبْرِئْنِي. ١٣ أَيْضاً مِنَ ٱلْمُتَكَبِّرِينَ ٱحْفَظْ عَبْدَكَ فَلاَ يَتَسَلَّطُوا عَلَيَّ. حِينَئِذٍ أَكُونُ كَامِلاً، وَأَتَبَرَّأُ مِنْ ذَنْبٍ عَظِيمٍ. ١٤ لِتَكُنْ أَقْوَالُ فَمِي وَفِكْرُ قَلْبِي مَرْضِيَّةً أَمَامَكَ يَا رَبُّ، صَخْرَتِي وَوَلِيِّي».
(١٢) لأن الشريعة هي ليست نسخة طبق الأصل عن المشيئة الإلهية بل هي مرآة تعكس ذات الإنسان أيضاً. وهكذا من ينظر في هذه المرآة يجب أن يعرف نفسه وعليه أن يصلي لكي ينقيه الله من كل السهوات التي لم يقترفها عمداً بل لعدم تقديره الحق في مشيئته تعالى. والمرنم يلتمس أن يبرأ حتى من الخطايا التي لا يراها الناس ولكن الله يراها.
(١٣) والمتكبرون هم الخطاة الذين يفخرون بخطاياهم ويتواقحون على الله ويدعون الكمال. وهؤلاء لهم سلطتهم أما من جهة عقلية فلهم العلم ربما المعارف أو من جهة مدنية فلهم المقام الاجتماعي والنفوذ لذلك نتهيبهم ونستحيي منهم ويؤثرون علينا التأثير السيء. بل قد يكون لهم أكثر من التأثير علينا فيتسلطون علينا ويتحكمون بنا كما يشاؤون. وهكذا حينما أحفظ الوصايا تماماً وأتوقى السهوات وأنجو من سلطة المستكبرين المستهترين الذين لا يرعون حرمة الدين أصبح عندئذ كاملاً لا غبار على الخلق الذي أتخلق به وأنجو وأسلم. فهو يريد أن يحتفظ بعلاقة وثيقة مع الله ولا يريد أن يسمح لأي الخطايا أو السهوات أن تقف حاجزاً عن الرضا الإلهي.
(١٤) وأخيراً يلتمس المرنم أن يكون قد أحسن أداء التسبيح والسجود لله بالفم كما أنه قد أحسن الخلوص له تعالى بالقلب فينال الرضا التام وحسن القبول. وشفيعه في ذلك هو إيمانه الحي بإلهه. والصلاة بكمال معانيها يجب أن تحوي الاثنين اي ظاهر التعبد الذي يذيعه هذا الفم العجيب من هذا الإنسان الحيوان الناطق وينضم مع هذا هو فكر القلب والنية المخلصة لأن هذه هي الأساس لتلك وبدونها فاللسان وحده لا ينفع شيئاً بل يتحول من آلة التسبيح والحمد إلى آلة تضرم من جهنم. والله هو الصخرة التي عليها يرتكز في حياته وهو الولي في كافة أموره لأنه مهما بلغ من كمال يظل ضعيفاً قاصراً إلى أن ينور الله عليه بنوره ويكلأه بعنايته وحينئذ يتم كل الوصايا ويفهم يقيناً كيف يتعبد.


اَلْمَزْمُورُ ٱلْعِشْرُونَ


لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ. مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ


«١ لِيَسْتَجِبْ لَكَ ٱلرَّبُّ فِي يَوْمِ ٱلضِّيقِ. لِيَرْفَعْكَ ٱسْمُ إِلٰهِ يَعْقُوبَ. ٢ لِيُرْسِلْ لَكَ عَوْناً مِنْ قُدْسِهِ، وَمِنْ صِهْيَوْنَ لِيَعْضُدْكَ. ٣ لِيَذْكُرْ كُلَّ تَقْدِمَاتِكَ وَيَسْتَسْمِنْ مُحْرَقَاتِكَ. سِلاَهْ. ٤ لِيُعْطِكَ حَسَبَ قَلْبِكَ وَيُتَمِّمْ كُلَّ رَأْيِكَ. ٥ نَتَرَنَّمُ بِخَلاَصِكَ، وَبِٱسْمِ إِلٰهِنَا نَرْفَعُ رَايَتَنَا. لِيُكَمِّلِ ٱلرَّبُّ كُلَّ سُؤْلِكَ».
هذا المزمور هو دعاء للملك بالنصر في وقت الحرب. هي صلاة شفاعية لأجل الملك كما أن المزمور الذي يليه وهو الحادي والعشرون صلاة شكر للأمة بلسان الملك. لذلك فكلا المزمورين يتلاحم واحدهما بالآخر ويتمم واحدهما معنى الآخر والأرجح أن كليهما من نظم شخص واحد. (١) في هذا المزمور عدد من التمنيات فأولاً يطلب أن يستجيب له الله لا سيما وهو في زمن ضيق ويطلب الرفع والنهوض. وفي العدد (٢) يطلب له عوناً والأرجح أن مكان الصلاة كان على مرتفعات صهيون في المعبد المخصص هناك لأن الهيكل لم يكن قد بني بعد. (٣) الملك يقدم تقدمات كما كانت العادة. وهذه التقدمات هي تقدمات طعام فيجدها الله مرضية سمينة في عينيه.
و(٤) يلتمس له نجاحاً تاماً في المهمة التي يشرع بها ويحاول إتمامها وتكون برأي الله وتدبيره وثم (٥) في هذه الأثناء ترفع أصوات الحمد والترنيم للعلاء.
«٦ اَلآنَ عَرَفْتُ أَنَّ ٱلرَّبَّ مُخَلِّصُ مَسِيحِهِ. يَسْتَجِيبُهُ مِنْ سَمَاءِ قُدْسِهِ، بِجَبَرُوتِ خَلاَصِ يَمِينِهِ. ٧ هٰؤُلاَءِ بِٱلْمَرْكَبَاتِ وَهٰؤُلاَءِ بِٱلْخَيْلِ أَمَّا نَحْنُ فَٱسْمَ ٱلرَّبِّ إِلٰهِنَا نَذْكُرُ. ٨ هُمْ جَثَوْا وَسَقَطُوا، أَمَّا نَحْنُ فَقُمْنَا وَٱنْتَصَبْنَا. ٩ يَا رَبُّ خَلِّصْ. لِيَسْتَجِبْ لَنَا ٱلْمَلِكُ فِي يَوْمِ دُعَائِنَا».
(٦) بعد فترة من الصلوات والأدعية وتقديم القرابين المختلفة إذا بصوت يرتفع وقد يكون من اللاويين بأن هذه القرابين قد قبلها الرب ورضي تماماً عن صاحبها أو المقدمة باسمه. وقوله «الآن» هي كلمة التفات من شيء لآخر. وهو مخلص مسيحه فقد تم كل الوعد له وقبل الله الصلاة ويخلص إلى التمام. والجالس على العرش في صهيون هو جالس بالأحرى على عرش السماء وجبروته الظاهر على الأرض لا يقاس بشيء من جبروته الذي في السماء.
(٧) قد يكون هؤلاء الأعداء من آرام فقد كان عندهم خيل ومركبات ولم تستعمل هذه في إسرائيل بصورة جدية إلا في أيام سليمان وما بعده. هؤلاء الأعداء يعتمدون على قوة مادية لا يستهان بها أشداء في الحرب ومستعدون للقتال ولكن إنما الرب إلهنا هو لنا ومعنا وليس لهم. هم يعتزون بقوتهم هذه أما نحن فباسم إلها نعتز وننتصر.
(٨) وكانت النتيجة كما كان متوقعاً فقد انخذل الأعداء وتذللوا أمامنا جثواً ساقطين محطمين أما نحن فبالعكس قمنا أشداء. وكانت الشريعة قديماً تمنع وجود جيش دائم (تثنية ١٧: ١٦) ولكن تغيرت الحالة في أيام سليمان (١ملوك ١٠: ٢٦ - ٢٩).
(٩) فبعد أن ينتهي الصوت الفردي في الأعداد الثلاثة السالفة يعود الجوق فيختم الترنيمة بهذا العدد الأخير. وقد تكون الترجمة الأفضل «يا رب خلّص الملك واستجب لنا في يوم دعائنا».
ويرجح أن يكون الكاتب قد عاش في عصر داود ولذلك ضم مزموره مع مجموعة المزامير الداودية وقوله اسم الرب دليل على ذلك كما خاطب داود جليات (١صموئيل ١٧: ٤٥).
وإن الدعاء للملك وأركان دولته والحكام والقضاة هو من الواجب على الرعية ليرسل الله رحمته عليهم جميعاً ليحكموا بالعدل والإنصاف ويكون الخير والرفاه في أيامه ويظل حكمه على الشعب أجمعين.


اَلْمَزْمُورُ ٱلْحَادِي وَٱلْعِشْرُونَ


لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ. مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ


«١ يَا رَبُّ بِقُوَّتِكَ يَفْرَحُ ٱلْمَلِكُ، وَبِخَلاَصِكَ كَيْفَ لاَ يَبْتَهِجُ جِدّاً! ٢ شَهْوَةَ قَلْبِهِ أَعْطَيْتَهُ، وَمُلْتَمَسَ شَفَتَيْهِ لَمْ تَمْنَعْهُ. سِلاَهْ. ٣ لأَنَّكَ تَتَقَدَّمُهُ بِبَرَكَاتِ خَيْرٍ. وَضَعْتَ عَلَى رَأْسِهِ تَاجاً مِنْ إِبْرِيزٍ. ٤ حَيَاةً سَأَلَكَ فَأَعْطَيْتَهُ. طُولَ ٱلأَيَّامِ إِلَى ٱلدَّهْرِ وَٱلأَبَدِ. ٥ عَظِيمٌ مَجْدُهُ بِخَلاَصِكَ، جَلاَلاً وَبَهَاءً تَضَعُ عَلَيْهِ».
(١) في المزمور السابق صلاة من الشعب لأجل الملك وفي هذا المزمور تأكيد أن الله قد استجاب الصلاة وسمعها. في المزمور السابق دعاء لكي يوليه الله نصراً على الأعداء وعزة وأما هنا فلتقديم الشكر وعقد الآمال وقد يكون الأول في بدء معارك الحرب وأما هنا ففي خاتمتها وألوية النصر ترفرف فوق الرؤوس.
يبدأ المزمور بتعداد بركات الله على الملك السابقة واللاحقة وهكذا يستمر المرنم على ذلك حتى العدد الثالث. القوة يقصد هنا ما هو ظاهر للعيان من أبهة ومجد أما الخلاص فهو ما ليس ظاهراً بل يمنح من السماء.
(٢) الشهوة هنا تأتي بالعبرانية من شيء يفيد الإرث أي ما هو غريزي متأصل في قلبه وليس شيئاً عارضاً وأنت يا رب قد حققت له ذلك. وما طلبه بلسانه كذلك منحته له. ولأنه يختم هنا سلاه فالأرجح أن هذا المزمور هو ختام لدعاء معروف لدى الشعب جميعاً.
(٣) ليست كل البركات بركات خير فقد يكون بعضها للشر ولكن الالتماس هنا لما هو للبنيان والنجاح والتقدم. وقد يكون هنا إشارة لما ورد (٢صموئيل ٢٢: ٣٠) بعد انتصار داود على ربة العمونيين ووضع التاج بعد غلبة تلك المدينة الملكية وانتصاره عليها.
(٤) ويظهر أن هنا إشارة لتاريخ هذا المزمور أنه كان في أخر أيامه. والدعاء للملك أن يعيش للأبد هو شيء اعتيادي وقديم أيضاً. (انظر ١ملوك ١: ٣١) والمعنى في ذلك أن يعيش مدة من السنين غير محدودة. وقد سأل الناس هذه الأمنية من قبل والرب قد حققها الآن.
(٥) إن نعمة الله وحدها قادرة أن تحتفظ بهذا المجد والجلال لذلك فالفضل كله يعود لما يمنحه الله لا ما يمنحه البشر. إن عطايا الله أعظم من سؤلنا. وهذا المجد هو حمل على الملك ومسؤولية لذلك عليه أن يؤدي حساباً عن كل أعماله. وعلى الحكام والملوك أن يعلموا أن لا مجد ولا جلال إلا ما يمنحه الله من رحمته وخلاصه ولا صولجان أسمى من المحبة للرعية والرعية تخلص للملك وتطيعه وتنجده وتسنده. هذا لأنه بركة الله على الملك وعلى كل نسله.
«٦ لأَنَّكَ جَعَلْتَهُ بَرَكَاتٍ إِلَى ٱلأَبَدِ. تُفَرِّحُهُ ٱبْتِهَاجاً أَمَامَكَ. ٧ لأَنَّ ٱلْمَلِكَ يَتَوَكَّلُ عَلَى ٱلرَّبِّ، وَبِنِعْمَةِ ٱلْعَلِيِّ لاَ يَتَزَعْزَعُ. ٨ تُصِيبُ يَدُكَ جَمِيعَ أَعْدَائِكَ. يَمِينُكَ تُصِيبُ كُلَّ مُبْغِضِيكَ. ٩ تَجْعَلُهُمْ مِثْلَ تَنُّورِ نَارٍ فِي زَمَانِ حُضُورِكَ. ٱلرَّبُّ بِسَخَطِهِ يَبْتَلِعُهُمْ وَتَأْكُلُهُمُ ٱلنَّارُ».
(٦) «جعلته بركات» أقوى جداً من القول منحته أو أعطيته بركات. وهنا قد يكون المعنى أن الله قد باركه جداً كما في (تكوين ١٢: ٢) حتى صار وجوده بين شعبه سبب بركة أيضاً. معروف عن بعض خدم الأغنياء أنهم قد صاروا أغنياء لأنهم التصقوا بهم وعاشوا من خيرهم فكم بالأحرى الملك فإنه سبب بركة للآخرين لا سيما في تلك الأيام القديمة حينما كانت كلمة من فمه ترفع الإنسان لأعلى الدرجات وكلمة أخرى تنزل به لأحط الدرجات. وكلمة تفرح بالعبرانية قريبة باشتقاقها جداً من العربية أي إنعاش الجمال بواسطة أغاني الحادي. وهكذا فإن نعمة الله تفرح الملك وتعينه على حمل أثقال الملك والقيام بالواجبات الكبيرة.
(٧) هنا ينتقل المرنم من مخاطبة الله إلى مخاطبة الملك. على الملك أن يتكل على الله وتكون النتيجة أنه لا يتزعزع قط. هنا سر القوة والنعمة. فكما أن البناء لا يقوم إلا بعد أن يصل الأساس حتى الصخر كذلك فإن بناء حياتنا الروحية لا يثبت إلا بعد أن نلقي كل اتكالنا على صخر الدهور. ونعمة هنا قد تترجم رحمة أيضاً وهذه من العلي مصدر الصلاح والقدرة والسلطان. لذلك فهذا الاتكال يجب أن يبطل كل مخاوفنا ويزيل كل همومنا.
(٨) إن يد الملك القوية الآن بقوة الله تستطيع أن تضرب الأعداء جميعهم. ولأن الملك قد انتصر على كل الأعداء كان له في آخر أيامه سلامة وطمأنينة. إن الله بواسطة الملك سينتقم من المبغضين وحينئذ لا شيء يستطيع أن يحميهم حتى لا التلال ولا الجبال بل تصبح كأنها أوراق التين التي حاول آدم أن يتستر بها لأن قدرته تصل إلى كل إنسان.
(٩) إن أعداء الملك الذين هم أعداء الله وهم أيضاً أعداء شعبه (انظر لاويين ٢٠: ٦ ومراثي ٤: ١٦). لا شيء يستطيع أن يقف في وجه النار ولذلك فهؤلاء الأعداء هم الهشيم المشتعل أمام وجهه. هم الآن ولكن بعد قليل سيضمحلون ولا يكونون. لا يستطيعون أن يقفوا في وجه الملك ويقاوموه كما أن كل ما يشتعل لا يستطيع أن يقف في وجه النار المحترقة بل يحترق هو بدروه أيضاً. إذاً ليخف الأشرار وليرتعبوا لأن نهايتهم أكيدة ومحزنة (انظر ٢صموئيل ١٧: ١١) «التنور» على ما يظهر كان معروفاً ومستعملاً عندئذ وهو شبيه بتنور اليوم.
«١٠ تُبِيدُ ثَمَرَهُمْ مِنَ ٱلأَرْضِ وَذُرِّيَّتَهُمْ مِنْ بَيْنِ بَنِي آدَمَ. ١١ لأَنَّهُمْ نَصَبُوا عَلَيْكَ شَرّاً. تَفَكَّرُوا بِمَكِيدَةٍ. لَمْ يَسْتَطِيعُوهَا. ١٢ لأَنَّكَ تَجْعَلُهُمْ يَتَوَلَّوْنَ. تُفَوِّقُ ٱلسِّهَامَ عَلَى أَوْتَارِكَ تِلْقَاءَ وُجُوهِهِمْ. ١٣ ٱرْتَفِعْ يَا رَبُّ بِقُوَّتِكَ. نُرَنِّمُ وَنُنَغِّمُ بِجَبَرُوتِكَ».
(١٠) نعم إن ظهور داود في مدينة ربة بني عمون كان سبب الاستظهار عليهم واندحارهم التام (راجع ٢صموئيل ١٢: ٢٦) وما يتبع ثمرهم أو ذريتهم كلمتان مترادفتان أي تأكيد هلاك هؤلاء الأعداء حتى لا يقوم لهم قائمة. الثمر يحوي البزر عادة يخلف نوعه وكذلك الذرية هم الأولاد. أي لا هم يبقون ولا أولادهم ايضاً.
(١١) ذلك لأن هؤلاء الأعداء قد أرادوا الشر وتفكروا به وصمموا عليه بل عملوا مكيدة لم يستطيعوها. وقوله «نصب» تدل على وضع شبكة أو أحبولة للإيقاع بالآخرين. ولو استطاعوا لأضروا ضرراً عظيماً ولكن حفظ الله ينجد وعنايته هي التي تخلص.
(١٢) يضرب بسهام على وجوه الأعداء المهاجمين. فهو لا يهابهم ولو كانوا شجعاناً أشداء بل يهاجمهم أيضاً وتكون النتيجة أنهم يرتدون على الأعقاب. وقد بدأ بالعبارة أنهم يتراجعون «يتولون» ثم فسر ذلك بالعبارة التي كملت المعنى بعد ذلك بأنه أطلق السهام عليهم وجابههم بها ولم يتهيبهم قط. وهكذا يكون المعنى متناسباً مع ما سبقه فقد تفكروا بالباطل ورتبوه ونصبوا أشراكاً ولكنهم فشلوا وكان فشلهم تاماً لأنهم ارتدوا على الأعقاب وتراجعوا ولم يستطيعوا أن يواجهوا قوة الملك وجبروته.
وهنا يصل المرنم للختام فقد حلق بعيداً وعالياً والآن يتراجع كما يتراجع الطائر المحلق إلى عشه ومكان راحته. لقد صور الانتصار تصويراً دقيقاً وأسهب في وصفه وكيفية انخذال العدو وكان من الممكن أن يهنئ الملك بالفوز ولكنه يتركه جانباً ويعطي المجد لله. هذا ختام بديع لموضوع بديع وكانما أوحي للشاعر الانكليزي رديرد كبلنغ أن يكتب لئلا ننسى في حفلة اليوبيل الألماسي للملكة فكتوريا. إن العزة والقدرة هي لله وحده فليصمت البشر وليتذللوا أمام العلي. وفي الوقت ذاته فإن كمال الفرح والترنم هو بجبروت الله وليس بأي جبروت آخر. فإن نال الملك نصراً فإنه من الله وإن نال مجداً فليكن من الله.


اَلْمَزْمُورُ ٱلثَّانِي وَٱلْعِشْرُونَ


لإِمَامِ ٱلْمُغَنِّينَ عَلَى «أَيِّلَةِ ٱلصُّبْحِ». مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ


«١ إِلٰهِي! إِلٰهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي، بَعِيداً عَنْ خَلاَصِي عَنْ كَلاَمِ زَفِيرِي؟ ٢ إِلٰهِي، فِي ٱلنَّهَارِ أَدْعُو فَلاَ تَسْتَجِيبُ. فِي ٱللَّيْلِ أَدْعُو فَلاَ هُدُوءَ لِي. ٣ وَأَنْتَ ٱلْقُدُّوسُ ٱلْجَالِسُ بَيْنَ تَسْبِيحَاتِ إِسْرَائِيلَ. ٤ عَلَيْكَ اْتَّكَلَ آبَاؤُنَا. ٱتَّكَلُوا فَنَجَّيْتَهُمْ. ٥ إِلَيْكَ صَرَخُوا فَنَجَوْا. عَلَيْكَ ٱتَّكَلُوا فَلَمْ يَخْزَوْا».
هذا المزمور عزيز علينا لأن منه اقتبس السيد عبارته وهو على الصليب «إيلي إيلي لما شبقتني». وهو يحوي أعمق الشعور والشكوى وسط الضيق والحالة النفسية الصعبة. لذلك فهو يختلف كل الاختلاف عن المزمور الحادي والعشرين الذي يطفح بالبهجة والحبور. ويشبهه المزمور ٥٩ ولكن يختلف هذا عن ذاك بشدة وطأته على الأعداء ومرارة نفسه. وقد حسب البعض أن هذا المزمور كتب في ايام إرميا أو ما بعده حتى أيام المكابيين ولكن أغلب الظن هو أن داود نفسه الكاتب والاختبارات المذكورة فيه تنطبق تماماً على حياة داود الداخلية في ذاك الحين. بل هذا المزمور يحوي نبوءة عن المسيح وآلامه العظيمة كيف ثقبت اليدان والرجلان وانفصلت العظام الخ. ثم وصفه العطش الشديد (انظر يوحنا ١٩: ٢٨) ثم جمهور الساخرين والذين اقتسموا ثيابه (انظر متّى ٢٧: ٣٩) وقد عدت الكنيسة قديماً أن المسيح ذاته يتكلم بهذا المزمور لا داود. ولكننا نحسب أن هذه النبوءة تمت كلها بعمل الفداء على الصليب.
أما العنوان «أيلة الصبح» فيزيد هذا المزمور شجواً بأن يغني قبيل انبلاج شمس الصباح حاملاً معه ذلك الليل الطويل بآلامه ودموعه.
(١) شعور المرنم أنه متروك من الله فيتساءل لماذا؟ هل الله بعيد عن تلك التنهدات العميقة المعربة عن آلام نفسه؟ قوله إلهي إلهي مكرراً تدل على العلاقة بينه وبين الله بصورة التوكيد. لذلك أخذ السيد المسيح هذا الصراخ على الصليب معبراً عن الآلام النفسية وفي الوقت ذاته يؤكد علاقته الوطيدة بالآب بأنه لم يترك وحده. بل وسط الغضب كان الإيمان. هو يحمل آلام البشرية ولكن أكثر من ذلك يحمل غضب الآب من أجل خطيئة هؤلاء البشر وعلى هذا الفادي أن يحتمل كل شيء حتى يصل إلى محبة الآب. وقال يسوع شبقتني وليس عزبتني لأن هذه عبرانية وأما الآولى فآرامية وهي اللغة التي تكلم بها ويفهمها الشعب.
(٢) يعود فيقول «إلهي» وهنا التكرار له وقعه العظيم. لا يرى استجابة لصلاته الحارة في العدد الأول. وتكراره هنا الدعاء في النهار وفي الليل أيضاً أي وهو لا يهدأ إذ لا يستطيع أن ينام نوم الهدوء والطمأنينة. وبحالته المحزنة هنا تساوى عنده الليل والنهار فهو يستمر على الصلاة ويلتمس من الله أن يلطف به ويرحمه.
(٣) يتساءل كيف لا يستجيب الله وهو الجالس بين شعبه لذلك يسمعهم حينما يدعون ويقبل تسبيحهم حينما يرفعون قلوبهم إليه. أفليس عجيباً أن لا يكون استجابة لصلاته إذاً؟ هو القدوس فلا يقرب إليه بالنسبة لطهارته الإلهية ومع ذلك هو بين شعبه يصغي لتسابيحهم.
(٤) يرجع للتاريخ ويرى أن الاختبارات القديمة المدونة عن الآباء تبرهن أنه كان متكلهم ولأنهم اتكلوا نجاهم وأنقذهم فكيف لا ينجي وينقذ الآن؟
(٥) كذلك في هذا العدد مراجعة للفكرة الواردة في العدد الرابع. إن أعمال الله وخلاصه كانت تذكر أمام الشعب بالترنيم فهي أشبه بأجنحة الكروبيم عليها يرتفع الله ممجداً وعليها ينزل بالتذكار ليسكن بين شعبه. إذ أي شيء أقوى من مثل هذه التذكارات فتتمكن هذه الأفكار المقدسة في جمهور العابدين فالقديم الأيام هو مخلص آبائهم ومخلصهم بالتالي أيضاً.
«٦ أَمَّا أَنَا فَدُودَةٌ لاَ إِنْسَانٌ. عَارٌ عِنْدَ ٱلْبَشَرِ وَمُحْتَقَرُ ٱلشَّعْبِ. ٧ كُلُّ ٱلَّذِينَ يَرَوْنَنِي يَسْتَهْزِئُونَ بِي. يَفْغَرُونَ ٱلشِّفَاهَ وَيُنْغِضُونَ ٱلرَّأْسَ قَائِلِينَ: ٨ ٱتَّكَلَ عَلَى ٱلرَّبِّ فَلْيُنَجِّهِ. لِيُنْقِذْهُ لأَنَّهُ سُرَّ بِهِ. ٩ لأَنَّكَ أَنْتَ جَذَبْتَنِي مِنَ ٱلْبَطْنِ. جَعَلْتَنِي مُطْمَئِنّاً عَلَى ثَدْيَيْ أُمِّي. ١٠ عَلَيْكَ أُلْقِيتُ مِنَ ٱلرَّحِمِ. مِنْ بَطْنِ أُمِّي أَنْتَ إِلٰهِي. ١١ لاَ تَتَبَاعَدْ عَنِّي لأَنَّ ٱلضِّيقَ قَرِيبٌ. لأَنَّهُ لاَ مُعِينَ».
(٦) يصور حقارته العظيمة وحالته السيئة بتشبيه ذاته بالدودة التي هي أدنى المخلوقات. وهذه الفكرة منقولة في (إشعياء ٤١: ١٤) وكذلك نجد عبد الرب وكيف هو محتقر الشعب الخ (إشعياء ٤٩: ٧ و٥٣: ٣) ووجه الشبه هو أنه لا منقذ له ولا معين.
(٧) هم قوم هازئون لا شيء من الكرامة يوقفهم عند حد. لقد فغروا الشفاه أي الفم (قابل أيوب ١٦: ١٠) وهذه الإشارة للتحقير كما انغاض الرأس هو لإظهار التعجب لدى الأمر الذي لا يوافقون عليه (انظر إرميا ١١: ٢٠ و٢٠: ١٢).
(٨) هنا يقتبس ما قاله الهازئون ليعبر عما احتمله منهم. وقريب من هذا ما قاله الهازئون عند الصليب «إن كان ابن الله فلينزل عن الصليب» وهنا منتهى القحة وعدم التدين لأنهم أولاً يريدون أن يقللوا إيمانه وثقته بإلهه وفي الوقت ذاته يهزأون حتى بالعلي القادر على كل شيء (انظر متّى ٢٧: ٤٣).
(٩) ولكن المرنم لا يعبأ بكلامهم ولا يصغي لهزئهم ويستمر على إيمانه واتكاله ويلتمس من الله أن يجيبه على هذا الإيمان لأنه هو الذي أوجده وأخرجه من بطن أمه وهو الذي جعله يرضع لبنها لكي يتغذى ويحيا. هذه علاقة متينة قديمة لا يغيرها الزمان ولا يبدلها قول الهازئين. هنا يؤكد بصورة جازمة ما قالوه يهزأون بأتكاله ويطلبون له معجزة النجاة من البطن ورحم منذ بدء وجوده. وأي اطمئنان هو أعظم من اطمئنان طفل على صدر أمه فيشعر أن الدنيا كلها له وهكذا يعيش وينمو.
(١٠) ولكن اتكاله على أمه هو بالنسبة لاتكاله على الله. فالأم إذاً هي يد الله الحنونة تعمل لأجل نموه وحياته. وكأنه ورث هذا الإيمان وراثة فمذ فتح عينيه للنور فتح قلبه أيضاً لمحبة الله والإيمان به.
(١١) لذلك فهو يلتمس القرب من الله. ويظهر أن المرنم قد ولد في بيت فقير وهذا صحيح عن داود وكذلك صحيح بالنسبة للسيد المسيح الذي ولد في المذود الحقير. أما وإن لا عون من الأرض فالعون يأتي من السماء. ولأن الضيق موجود فليكن الفرج من السماء أيضاً.
«١٢ أَحَاطَتْ بِي ثِيرَانٌ كَثِيرَةٌ. أَقْوِيَاءُ بَاشَانَ ٱكْتَنَفَتْنِي. ١٣ فَغَرُوا عَلَيَّ أَفْوَاهَهُمْ كَأَسَدٍ مُفْتَرِسٍ مُزَمْجِرٍ. ١٤ كَٱلْمَاءِ ٱنْسَكَبْتُ. ٱنْفَصَلَتْ كُلُّ عِظَامِي. صَارَ قَلْبِي كَٱلشَّمْعِ. قَدْ ذَابَ فِي وَسَطِ أَمْعَائِي. ١٥ يَبِسَتْ مِثْلَ شَقْفَةٍ قُوَّتِي، وَلَصِقَ لِسَانِي بِحَنَكِي، وَإِلَى تُرَابِ ٱلْمَوْتِ تَضَعُنِي. ١٦ لأَنَّهُ قَدْ أَحَاطَتْ بِي كِلاَبٌ. جَمَاعَةٌ مِنَ ٱلأَشْرَارِ ٱكْتَنَفَتْنِي. ثَقَبُوا يَدَيَّ وَرِجْلَيَّ. ١٧ أُحْصِي كُلَّ عِظَامِي، وَهُمْ يَنْظُرُونَ وَيَتَفَرَّسُونَ فِيَّ. ١٨ يَقْسِمُونَ ثِيَابِي بَيْنَهُمْ، وَعَلَى لِبَاسِي يَقْتَرِعُونَ».
هنا بعد أن ملك المرنم روعه وتناسى قليلاً ما به من هموم وأحزان وآلام أخذ الآن يصف حالته الواقعية وحالة أعدائه. فيصف شعوره الداخلي كما يصف موقفها الخارجي ويحاول أن يصور كل شيء بدقة متناهية. «ثيران» وتترجم أيضاً أقوياء. وباشان هي اليوم حوران حيثما كثر شجر السنديان قديماً وكانت مراعيها من أحسن المراعي وهي لا تزال من أفضل الأمكنة للمحاصيل الزراعية ولا سيما القمح.
(١٣) لقد فغروا أفواههم للافتراس كالأسود. ومنذ السقوط كان للحية اليد الطولى في إغراء حواء على العصيان ولذلك فإن الحيوانات لها تأثيرها منذ ذلك الحين على حالة بني آدم (انظر مراثي إرميا ٢: ١٦ و٣: ٤٦) ومن جهة تشبيه الأسد (راجع عاموس ٧: ٤).
(١٤) وهنا يصل إلى أعظم مظاهر الخوف والرعب. فالماء متى انسكب ذهب هدراً وضياعاً إذ لا يقف بنفسه بدون الوعاء الذي يحويه. ويتابع الصورة وإذا بعظامه كلها تتفكك وتتباعد ولا يبقى له شيء من القوة بل يزيد قائلاً إن قلبه قد ذاب ولم يعد فيه شيء من القوة والشجاعة لمواجهة أية المخاطر. لذلك أصبح كل ما فيه مائعاً رخواً لا حول فيه ولا نجاة له.
(١٥) لم يعد فيه قوة فقد اضمحلت وليس من الضروري وضع كلمة شقفة في الترجمة والأفضل «لقد يبست قوتي». أو أن نقول كشقفة خزف فيستقيم المعنى أكثر. وإذا باللسان يلتصق بالحنك من شدة الانفعال والعطش بل يتذلل حتى يكاد يلتصق بالتراب.
(١٦) يراجع ما ورد من قبل في العدد ١١ وينعت الأعداء بالكلاب لأنهم يهرون ويعضون وقد أحاطوا به من كل جانب حتى لا يتركون له منفذاً للهرب. وهكذا لا يسمحون ليديه بالدفاع ولا لرجليه بالهرب فقد قضي عليه أن يبقى محاصراً حيثما هو.
(١٧) وفي هذا العدد مراجعة أيضاً عن عظامه إنها تكاد تعد بسبب النحول والضنى. ولا يكتفي هؤلاء الأعداء بحالته الزرية المؤسفة ولا يتركونه جانباً بل يستمرون على الهزء به والسخرية فيتفرسون به لزيادة البلبلة والتحقير.
(١٨) ولأنهم قد تأكدوا من الظفر أصبح موتي محتوماً لذلك يحصون ثيابي غنيمة ويقترعون على بعضها لعدم الخلاف بينهم (راجع يوحنا ١٩: ٢٣ الخ وكذلك زكريا ٩: ٩ ومتّى ٢١: ٥) وقد تمت النبوءة بالمسيح بصورة عجيبة كما نعلم.
«١٩ أَمَّا أَنْتَ يَا رَبُّ فَلاَ تَبْعُدْ. يَا قُوَّتِي أَسْرِعْ إِلَى نُصْرَتِي. ٢٠ أَنْقِذْ مِنَ ٱلسَّيْفِ نَفْسِي. مِنْ يَدِ ٱلْكَلْبِ وَحِيدَتِي. ٢١ خَلِّصْنِي مِنْ فَمِ ٱلأَسَدِ، وَمِنْ قُرُونِ بَقَرِ ٱلْوَحْشِ. ٱسْتَجِبْ لِي. ٢٢ أُخْبِرْ بِٱسْمِكَ إِخْوَتِي. فِي وَسَطِ ٱلْجَمَاعَةِ أُسَبِّحُكَ. ٢٣ يَا خَائِفِي ٱلرَّبِّ سَبِّحُوهُ. مَجِّدُوهُ يَا مَعْشَرَ ذُرِّيَّةِ يَعْقُوبَ. وَٱخْشَوْهُ يَا زَرْعَ إِسْرَائِيلَ جَمِيعاً. ٢٤ لأَنَّهُ لَمْ يَحْتَقِرْ وَلَمْ يَرْذُلْ مَسْكَنَةَ ٱلْمِسْكِينِ، وَلَمْ يَحْجِبْ وَجْهَهُ عَنْهُ، بَلْ عِنْدَ صُرَاخِهِ إِلَيْهِ ٱسْتَمَعَ. ٢٥ مِنْ قِبَلِكَ تَسْبِيحِي فِي ٱلْجَمَاعَةِ ٱلْعَظِيمَةِ. أُوفِي بِنُذُورِي قُدَّامَ خَائِفِيهِ».
(١٩) هنا يستنجد بالنسبة للحالة السيئة التي هو فيها. يلتمس من الرب أن لا يبعد عنه بل أن يسرع للنجدة والعون.
(٢٠) يلتمس إنقاذاً لنفسه من القتل كذلك يكرر الطلب فيلتمس النجاة من هؤلاء المطاردين الأشداء بقوتهم والمستمرين بطرادهم ومداورتهم كالكلاب التي لا تفتأ تصيح وتعوي حتى تطرده من ذلك المكان. و «الوحيدة» هي على الأرجح النفس التي لا يملك الإنسان سواها فيكون تكرار المعنى من قبيل التوكيد فقط.
(٢١) وكذلك في هذا العدد يطلب الخلاص من أفظع المخاطر فم الأسد المفترس بأنيابه الحادة وبطشه كما وإن قرون البقر الوحشي التي تنطح ولا ترحم أحداً. والنفس هي أثمن ما يملكه فمن خسرها فقد خسر كل شيء. وفي هذا الطلب إيمان قوي بأن الله يخلّص وينجي خائفيه من كل المخاطر والشرور.
(٢٢) هنا ينتقل المرنم إلى موضوع آخر فإنه بعد أن يشكو سوء حاله ويصف كيد أعدائه إذا به يلتفت للتسبيح. يريد أن يخبر إخوته عن هذا الخلاص. فهو ينشر بينهم هذا الفداء الذي اختبره بنفسه ويلمسه.
(٢٣) وهنا أيضاً يلتمس التسبيح لاسم الرب ويطلب أن يمجده كل ذرية يعقوب ولا يكتفي كما في العدد السابق أن يوجه كلامه «لإخوته» اي لأخصائه بل للجميع. وكذلك يوجه الفكر لخوف الرب لأن به رأس الحكمة.
(٢٤) في هذا العدد جوهر الدين كله وهنا إنجيل الخلاص (انظر إشعياء ٦١) لقد حسب عبد الرب أن الله يحتقره ويرذله ولكنه الآن يتحقق محبته تعالى وإحسانه العظيم نحوه. فهو لا يحجب وجهه ولا يتصام عن صراخه لأنه مستعد دائماً ليريه طريق الفرج والسلام. فهو السامع لصراخه وحده (إرميا ٣٦: ١٣).
(٢٥) يسبح لله بين جمهور العابدين ولا يخجل بذلك قط بل يتمم كل فروضه ويوفي نذوره بالطبع بصورة عملية وليس فقط بصورة روحية فهو يقدم للرب القرابين والذبائح المطلوبة منه. عليه أن يرش الدم ويضع قطع الشحم على المذبح وبعد ذلك يحق له أن يعيّد بما بقي من لحم الذبيحة. ويدعو الفقراء ليقاسموه (راجع لاويين ٧: ١٥ الخ).
«٢٦ يَأْكُلُ ٱلْوُدَعَاءُ وَيَشْبَعُونَ. يُسَبِّحُ ٱلرَّبَّ طَالِبُوهُ. تَحْيَا قُلُوبُكُمْ إِلَى ٱلأَبَدِ. ٢٧ تَذْكُرُ وَتَرْجِعُ إِلَى ٱلرَّبِّ كُلُّ أَقَاصِي ٱلأَرْضِ. وَتَسْجُدُ قُدَّامَكَ كُلُّ قَبَائِلِ ٱلأُمَمِ. ٢٨ لأَنَّ لِلرَّبِّ ٱلْمُلْكَ وَهُوَ ٱلْمُتَسَلِّطُ عَلَى ٱلأُمَمِ. ٢٩ أَكَلَ وَسَجَدَ كُلُّ سَمِينِي ٱلأَرْضِ. قُدَّامَهُ يَجْثُو كُلُّ مَنْ يَنْحَدِرُ إِلَى ٱلتُّرَابِ وَمَنْ لَمْ يُحْيِ نَفْسَهُ. ٣٠ ٱلذُّرِّيَّةُ تَتَعَبَّدُ لَهُ. يُخَبَّرُ عَنِ ٱلرَّبِّ ٱلْجِيلُ ٱلآتِي. ٣١ يَأْتُونَ وَيُخْبِرُونَ بِبِرِّهِ شَعْباً سَيُولَدُ بِأَنَّهُ قَدْ فَعَلَ».
(٢٦) الودعاء هنا أي بسطاء القلب وكذلك البسطاء في حياة الدنيا. يأكلون بروح الشكر على ما أسداه الله نحوهم. وهنا إشارة إلى مراسيم ذبائح السلامة. إن داود الذي يقدم مثل هذه الذبيحة شكراً لله عن نفسه ويدعو الآخرين أن يشاركوه بهذا الفرح. وقد يؤخذ هذا الفكر إلى أن المسيح الذي أعطانا ذبيحة نفسه علينا أن نشترك معه بأخذ الوليمة في العشاء الرباني ونذكره كل حين.
(٢٧) هنا أمل الأمم الوحيد أن تُرجع الجميع إليك يا الله فيتعلمون أن يسجدوا أمامك ويعترفوا باسمك ويعيشوا بحسب شرائعك ووصاياك (انظر إرميا ١٦: ١٩ و١٠: ٧) وفي هذا بيان لعلاقة الله مع جميع الشعوب فهو إلههم كما هو إله إسرائيل.
(٢٨) هو وحده المالك على العالم أجمع وله وحده السلطة والحكم في كل شيء. وإلى أقاصي المسكونة كلها.
(٢٩) يعود فيرجع لأكل الوليمة التي هي عربون الشكر القلبي على خلاص الرب فالطعام روحي بالشكر كما أنه جسدي لأنه يغذي الجسد ويشبعه. والذين ينتظرون أن يخلصوا بالله هم الذي يأكلون من هذا الطعام الروحي. فليس الودعاء يأكلون وحدهم بل أيضاً العظماء ومن لهم الحول والغنى أيضاً. ذلك لأن السجود هو لله وحده. بل هذه الوليمة تتناول المهمومين الذين يعانون أثقال الحياة فهم أقرب للموت منهم للحياة.
(٣٠) هنا ذكر لثلاثة أجيال أولاً داود ثم ذريته ثم الجيل الذي يأتي بعدهم. هم يسخرون مما فعله الله ولا ينفكون يخبرون حتى الذين لم يولدوا سيصلهم الخبر أيضاً في حينه.
(٣١) وهكذا يستمرون على هذا الخبر عما فعله الله إلى كل جيل.
إن طريق الخلاص للبشرية وليس لداود بن يسى فقط. فكما أن هذا قد احتمل الاضطهاد والآلام من وجه شاول عدوه وأصبح مستحقاً أن يكون الملك المطاع على شعب الله كذلك فإن يسوع ابن داود وابن الله الأزلي بواسطة ما سيحتمله من آلام الصليب سيغلب ويجلس عن يمين العرش في الأعالي.


اَلْمَزْمُورُ ٱلثَّالِثُ وَٱلْعِشْرُونَ


مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ


«١ اَلرَّبُّ رَاعِيَّ فَلاَ يُعْوِزُنِي شَيْءٌ. ٢ فِي مَرَاعٍ خُضْرٍ يُرْبِضُنِي. إِلَى مِيَاهِ ٱلرَّاحَةِ يُورِدُنِي. ٣ يَرُدُّ نَفْسِي. يَهْدِينِي إِلَى سُبُلِ ٱلْبِرِّ مِنْ أَجْلِ ٱسْمِهِ. ٤ أَيْضاً إِذَا سِرْتُ فِي وَادِي ظِلِّ ٱلْمَوْتِ لاَ أَخَافُ شَرّاً، لأَنَّكَ أَنْتَ مَعِي. عَصَاكَ وَعُكَّازُكَ هُمَا يُعَزِّيَانِنِي».
لقد تقدم في المزمور السابق ذكر وليمة الرحمة والخلاص للجنس البشري ولا شيء أنسب أن يلحقه هذا المزمور الذي يجعل الرب أنه الراعي المحب لشعبه. وهو مزمور التقوى العميقة التي تفوح أزهار أفكارها بأطيب العبير والرائحة الزكية. وهو يتمنى بعد كثرة الهجر والجولان أن يسكن مستقراً في بيت الرب ليكون له السلام المنشود.
(١ و٢) الراعي مذكور في (إشعياء ٤٠: ١١ وحزقيال ٣٤: ٣٧) وإذا كان الناظم داود والأرجح كذلك فهو يتذكر به أيامه القديمة حينما كان راعياً للغنم في بيت أبيه لأن دقة الوصف والحاسات التي يصورها يجب أن يكون مصدرها عن اختبار حقيقي في عمل الراعي وخلقه. ولأن الرب يرعى فلا نحتاج. فهو يقودنا إلى أماكن الكلاء الطيب ويضمنا حيث الراحة والهناء ويعطينا الغذاء اللازم والماء.
(٣) ولأنه راع صالح فهو لا يسمح للغنم أن تشرد إذ هي لا تستطيع أن تقود نفسها فيلزمها من يمشي أمامها ويدلها على السبيل الأمين الذي يجب أن تسلكه لكي تصل بأمان. هو يهدي أي يعطينا الناحية التي يجب أن ننتحيها. المهم في هذه السبل أن توصل أخيراً للهدف وليس الأهمية أن تكون معوجة أو مستقيمة طالما الغاية التي سنصلها واضحة. إن سبل الله كلها بر وسلام وهو يفعل ذلك ليتمجد فهو الرب الكريم المجيد وبعمله هذا يبرهن لي عن نفسه وحينئذ أخضع لقيادته وأسلّمه ذاتي.
(٤) هوذا الغنم تسير وراء الراعي آمنة مطمئنة لأنها تعرف القائد جيداً وتثق به. ليس من الضروري أن تكون «ظل الموت» بل يمكن ترجمتها كلمة واحدة «الظلمات» فإن كلمة ظلم وأظلم مشتقتان في الأصل من ظل الثنائية. ووادي الظلمات هذه هي حينما يكون الراعي سائراً في برية منفردة موحشة فقد تخاف الغنم وترتعب ولكن عزاءها هو بصوت الراعي وعصاه وعكازه.
« ٥ تُرَتِّبُ قُدَّامِي مَائِدَةً تُجَاهَ مُضَايِقِيَّ. مَسَحْتَ بِٱلدُّهْنِ رَأْسِي. كَأْسِي رَيَّا. ٦ إِنَّمَا خَيْرٌ وَرَحْمَةٌ يَتْبَعَانِنِي كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِي، وَأَسْكُنُ فِي بَيْتِ ٱلرَّبِّ إِلَى مَدَى ٱلأَيَّامِ».
(٥) في هذا العدد يتحول المرنم إلى صورة جديدة وفكر جديد. وإذا الرب هنا يصبح المضيف ونحن ضيوفه. ومتى دخل البيت فلا يستطيع المضايقون أن يفعلوا شيئاً لأنهم أصحبوا تحت حماية المضيف الذي يعدها أكبر إهانة له أن امتهنهم أحد داخل بيته. بل هذا المضيف يسمح بأن يكون مائدة سخية كريمة ثم يملأ الكأس تماماً فيأكل هذا الضيف مريئاً ويشرب هنيئاً. بل أن المضيف يكرمه كما على مائدة فخمة ملكية فيمسح ضيفه بالزيت المطيب.
(٦) وحيئنذ فإن الأعداء والمضايقين لا يتبعون فيما بعد بل بالعكس فإن الخير والرحمة كلاهما يكونان من نصيبه ولبس لوقت قصير ثم تتغير الحال بل دائماً (انظر هوشع ١٢: ٧ ومراثي ٥: ٢٠).
إن السكن مع الله هو ختام لطيف لهذا المزمور العظيم. فكما أن الغنم تأتي لمبيتها وتستريح وكما أن الضيف يأتي نزلاً يأويه ويطعمه كذلك فإن بيت الرب هو المأوى إلى كل الأيام.


اَلْمَزْمُورُ ٱلرَّابِعُ وَٱلْعِشْرُونَ


لِدَاوُدَ. مَزْمُورٌ


«١ لِلرَّبِّ ٱلأَرْضُ وَمِلْؤُهَا. ٱلْمَسْكُونَةُ وَكُلُّ ٱلسَّاكِنِينَ فِيهَا. ٢ لأَنَّهُ عَلَى ٱلْبِحَارِ أَسَّسَهَا، وَعَلَى ٱلأَنْهَارِ ثَبَّتَهَا. ٣ مَنْ يَصْعَدُ إِلَى جَبَلِ ٱلرَّبِّ، وَمَنْ يَقُومُ فِي مَوْضِعِ قُدْسِهِ؟ ٤ اَلطَّاهِرُ ٱلْيَدَيْنِ، وَٱلنَّقِيُّ ٱلْقَلْبِ، ٱلَّذِي لَمْ يَحْمِلْ نَفْسَهُ إِلَى ٱلْبَاطِلِ، وَلاَ حَلَفَ كَذِباً. ٥ يَحْمِلُ بَرَكَةً مِنْ عِنْدِ ٱلرَّبِّ وَبِرّاً مِنْ إِلٰهِ خَلاَصِهِ».
هذا المزمور يصور دخول الرب إلى مدينته بينما المزمور السابق قد صور لنا شوق المرنم للمكوث في بيت الرب. وقد يكون الداعي لنظم هذا المزمور حينما نقل داود تابوت العهد من قرية جعاريم إلى جبل صهيون حيثما وضعه داود في خيمة خاصة (راجع ٢صموئيل ٥: ١٧ و١١: ١١ و١ملوك ١: ٣٩). وذهب بعضهم أن هذا المزمور مركب من قسمين متباينين من العدد (١ - ٦ وثم ٧ - ١٠) وهذان جمعا معاً كما نراه الآن. دخول الرب إلى هيكله كما في (ملاخي ٣: ١) ثم فتح الأبواب كما في (إشعياء ٤٠: ٣).
(١) يبدأ بتعظيم الله أنه ملك الأرض وكل ساكنيها ما فيها وما عليها.
(٢) هنا فكرة قديمة أن الله أخرج اليابسة من المياه (انظر تكوين ٧: ١١). وهي قدرة الله وحدها التي تستطيع أن ترفع اليابسة وتبقيها مرتفعة هكذا.
(٣) إذا كان العددان الأول والثاني مقدمة فيكون هذا العدد أهم موضوع يبحثه المرنم. والصعود والإقامة هنا من باب الكناية إذ ليس من الضروري أن تكون حرفية وقد تكون أيضاً. سؤال جوهري عن معنى العبادة الحقة لأن القصد من مثل هذا الصعود والإقامة هو أن يقول كيف نقترب لله وكم هذا السؤال شبيه بسؤال (ميخا ٦: ٦ الخ). هو سؤال قديم حديث وعلينا أن نجيب عليه بكل إخلاص وأمانة ولا يهدأ لنا بال حتى يكون الجواب وافياً.
(٤) هنا يبدأ بالجواب فيقول أولاً على اليد أن تعمل الخير وعلى القلب أن يتنقى. وهو نفسه الذي يغتر بالباطل ولا سبيل للكذب في حياته لا سيما حينما يتعهد بشيء أو يقسم فهو دائماً صادق. وقوله يحمل نفسه أي يغرر بنفسه أو هي تغرر به وتخدعه (راجع عاموس ٦: ٨ إرميا ٥١: ١٤).
(٥) ويتابع الجواب أيضاً ويقول عنه أنه مبارك ببركة الرب. فالخير الذي له هو من الله وعليه أن يستعمله في سبيله. وكذلك فالبر الذي فيه ليس براً ذاتياً يتفاخر به بل هو بر الله في قلبه. هو لا يكتفي بصورة نفسه بل يريد صورة الله في نفسه وهكذا يستطيع الإنسان المؤمن أن يعود «لصورته تعالى ومثاله» على شرط أن يقبل الخلاص بالمسيح.
«٦ هٰذَا هُوَ ٱلْجِيلُ ٱلطَّالِبُهُ، ٱلْمُلْتَمِسُونَ وَجْهَكَ يَا يَعْقُوبُ. سِلاَهْ. ٧ اِرْفَعْنَ أَيَّتُهَا ٱلأَرْتَاجُ رُؤُوسَكُنَّ، وَٱرْتَفِعْنَ أَيَّتُهَا ٱلأَبْوَابُ ٱلدَّهْرِيَّاتُ، فَيَدْخُلَ مَلِكُ ٱلْمَجْدِ. ٨ مَنْ هُوَ هٰذَا مَلِكُ ٱلْمَجْدِ؟ ٱلرَّبُّ ٱلْقَدِيرُ ٱلْجَبَّارُ، ٱلرَّبُّ ٱلْجَبَّارُ فِي ٱلْقِتَالِ! ٩ ٱرْفَعْنَ أَيَّتُهَا ٱلأَرْتَاجُ رُؤُوسَكُنَّ، وَٱرْفَعْنَهَا أَيَّتُهَا ٱلأَبْوَابُ ٱلدَّهْرِيَّاتُ، فَيَدْخُلَ مَلِكُ ٱلْمَجْدِ. ١٠ مَنْ هُوَ هٰذَا مَلِكُ ٱلْمَجْدِ! رَبُّ ٱلْجُنُودِ هُوَ مَلِكُ ٱلْمَجْدِ. سِلاَهْ»
(٦) إذاً هؤلاء جماعة من الناس يطلبون من الله ويسعون في سبيله ويلتمسون وجهه ليكونوا في خير وسعادة. وهم الآن أولاد يعقوب ليس باللحم والدم فقط بل بالسيرة والحق (انظر إشعياء ٤٦: ٢ وكذلك رومية ٩: ٦ وغلاطية ٦: ١٦) والأرجح أن اللاويين هنا كانوا يصرخون مترنمين بعد هذا العدد وتكون ختاماً لطيفاً للموضوع لأن في الأعداد التالية ينتقل المرنم على ما يظهر إلى موضوع آخر.
(٧) في هذا العدد يبدأ المرنم بصورة جمهور العابدين قادمين للهيكل وقد وقفوا على الأبواب ويتمنون أن تكون ثابتة للأبد. وهنا يمكن أن نلاحظ أن المزمور لم يكتب في عصر داود بل بعده ربما لأن الهيكل بني بعد زمانه. أو قد يكون إشارة لأمور تاريخية قديمة منذ أيام اليبوسيين الذين منهم اشترى داود أرض الهيكل أو منذ ملكي صادق. ذلك لأن ملك المجد يريد الدخول إلى هيكله. أو هذه أبواب قلعة صهيون عليها أن ترتفع وتسمو لتكون أهلاً لدخول ملك المجد (انظر أيوب ١٠: ١٥ وزكريا ٢: ٤).
(٨) هنا سؤال من الأبواب ذاتها لماذا عليها أن ترتفع؟ ومن هو هذا ملك المجد؟ فيجيب أنه الملك الجبار. هو الرب إله إسرائيل الإله القدير المنتصر في القتال. وهنا صورة دخول الملوك والقواد الظافرين بعد أن يحرزوا المعارك والانتصارات فتستقبلهم بلادهم بمجالي العظمة والتقدير والتكريم؟ وهل التكريم هنا لملك أرضي؟ لقد ربح الإسرائيليون هذه الأرض بحد السيف وكان الرب منتصراً في الحروب كلها.
(٩) لا شك يوجد روعة عظيمة في تكرار السؤال وكذلك تكرار الجواب فهي من التوكيد بمكان عظيم. يريد السائل أن يرسخ الحقيقة في ذهن السامعين ولا يرغب بأي تردد في المعنى تجاه مديح الملك العظيم.
(١٠) رب الجنود «صباؤوت» هو الاسم العلم للرب أيضاً لأنه إله القتال. وتستعمل صباؤوت للنجوم لذلك فإن جنوده سماوية وليست أرضية وانتصاراته هي بقوة السماء على أجناد الأرض وشرورها (انظر يوئيل ٢: ١١ وإشعياء ٤٠: ٢٦). وهذه الأفكار مستقاة من تاريخ إسرائيل القديم (انظر تكوين ٣٢: ٢ الخ وتثنية ٣٣: ٢ وقضاة ٥: ٢٠). هو الرب الملك يريد الدخول لهيكله ليجلس على الكاروبيم في مقدسه بين تسابيح شعبه وتهاليلهم.


اَلْمَزْمُورُ ٱلْخَامِسُ وَٱلْعِشْرُونَ


لِدَاوُدَ


«١ إِلَيْكَ يَا رَبُّ أَرْفَعُ نَفْسِي. ٢ يَا إِلٰهِي عَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، فَلاَ تَدَعْنِي أَخْزَى. لاَ تَشْمَتْ بِي أَعْدَائِي. ٣ أَيْضاً كُلُّ مُنْتَظِرِيكَ لاَ يَخْزَوْا. لِيَخْزَ ٱلْغَادِرُونَ بِلاَ سَبَبٍ. ٤ طُرُقَكَ يَا رَبُّ عَرِّفْنِي. سُبُلَكَ عَلِّمْنِي. ٥ دَرِّبْنِي فِي حَقِّكَ وَعَلِّمْنِي. لأَنَّكَ أَنْتَ إِلٰهُ خَلاَصِي. إِيَّاكَ ٱنْتَظَرْتُ ٱلْيَوْمَ كُلَّهُ».
هذا المزمور أيضاً يجيب بكل وضوح على سؤال المزمور السابق من يصعد إلى جبل الرب وفي الوقت ذاته هو صلاة هادئة عميقة يطلب فيه المرنم الغلبة على الأعداء بإرشاد الله وغفرانه ونعمته التي تقودنا. وهو مزمور من المزامير التسعة المرتبة حسب أحرف الهجاء في كتاب المزامير. كذلك من جهة موضوعه ومحتوياته فهو عام ويتناول فكرة الفداء ويتناسب بهذا المعنى مع المزامير التي كتبت بعد السبي.
(١) يرفع نفسه لأنه يشعر أنه في أسفل وعليه أن ينهض وكذلك يشعر أنه يحتاج أن يصلح ذاته ويترقى. ولا يمكنه أن يصل لغايته بدون الله. و هكذا في العدد (٢) يتمم الطلب ويقول أنه بالاتكال يستطيع ذلك. هو يسندنا فلا نفشل ولا نتراجع وهكذا فإن أعداءنا يغلبون على أمرهم. هو يؤمن إيماناً وطيداً ولذلك يثق ويتكل على إلهه ويتحد به اتحاداً كاملاً.
(٣) في هذا يصل للجواب بأن الذين ينتظرون الرب لا يخزون أبداً. هذا شعور المؤمنين الحقيقيين (انظر رومية ٥: ٥). إن الرجاء هو العين التي بواسطتها يستطيع رجل الإيمان أن يرى لأنه يتطلع بثبات وجلاء في المستقبل. فالمستقبل ليس مخيفاً ولا مجهولاً طالما الله فيه لذلك يصبح منيراً سعيداً ولا نخاف من أي المصاعب والضيقات تعترضنا. وهنا مقابلة بديعة بين أعدائه وبين الله فإن الأعداء الغادرين يتمنون له الهلاك والدمار ولكن الله ينتشله وينجيه ويرد إليه نفسه ويشجعه حتى لا يهاب أي شيء مهما كان. وهنا يطلب نجاته من الذين يغدرون لغير سبب. يلتذون بالأذية ولا سيما إذا كانت في الخفاء بل قد يدعون الصداقة ولكنهم لا يطبقونها ولا يمشون بموجبها في حياتهم اليومية.
(٤) ولأنه في خطر بالنسبة لما هو فيه يطلب من الله أن يهديه في الطريق المستقيم. إن الله قد أعطانا كلامه لنهتدي به ولكننا لا نقدر أن نفهم بدون إرشاده الإلهي. لذلك يطلب المرنم أن يتعلم فيعرف كيف يتصرف في مختلف سبل الحياة ومنعطفاتها في همومها وأحزانها كما في مسراتها وأفراحها. والنور لا يكفي إذا لم يكن لنا النعمة لكي نتبع النور ونبتعد عن الظلام.
(٥) يطلب أن يتدرب في معرفة الحق الذي هو إعلان نعمة الله في قلوب المؤمنين. إن خلاصه هو الرب بل هو إله خلاصه ولا نجاة له إلا به لذلك هو لا يعدم صبراً وانتظاراً وقد يكون حسب الظاهر أن النجاة بعيدة ولكن ليس الأمر كذلك في الحقيقة. ولا نعمة ولا رحمة تصل للإنسان بدون أن تخرج من لدن الله أولاً فهو المحب العطوف علينا فهو يتنازل بأن يرفعنا إليه وينهضنا لنكون معه كل حين.
«٦ ٱذْكُرْ مَرَاحِمَكَ يَا رَبُّ وَإِحْسَانَاتِكَ، لأَنَّهَا مُنْذُ ٱلأَزَلِ هِيَ. ٧ لاَ تَذْكُرْ خَطَايَا صِبَايَ وَلاَ مَعَاصِيَّ. كَرَحْمَتِكَ ٱذْكُرْنِي أَنْتَ مِنْ أَجْلِ جُودِكَ يَا رَبُّ. ٨ اَلرَّبُّ صَالِحٌ وَمُسْتَقِيمٌ، لِذٰلِكَ يُعَلِّمُ ٱلْخُطَاةَ ٱلطَّرِيقَ. ٩ يُدَرِّبُ ٱلْوُدَعَاءَ فِي ٱلْحَقِّ، وَيُعَلِّمُ ٱلْوُدَعَاءَ طُرُقَهُ. ١٠ كُلُّ سُبُلِ ٱلرَّبِّ رَحْمَةٌ وَحَقٌّ لِحَافِظِي عَهْدِهِ وَشَهَادَاتِهِ. ١١ مِنْ أَجْلِ ٱسْمِكَ يَا رَبُّ ٱغْفِرْ إِثْمِي لأَنَّهُ عَظِيمٌ».
(٦) إن مراحمه عظيمة وقديمة منذ أن يولد الإنسان بل قبل أن يولد وهو في أحشاء أمه فإن عناية الله تظهر حينئذ وتعضد وتشدد. والإحسان هو أن يعطي شيء بدون مقابل سوى المحبة. ونحن لا نستطيع أن نعطي الله شيئاً لذلك فكل ما نناله من يده هو من قبيل الإحسان ليس إلا. ولأن رحمتك وإحسانك قديمان لذلك أرجو يا الله أن تبقيهما نحوي.
وهذا العدد هو مقدمة للتالي لأنه في العدد السابع (٧) يرجو الله لأنه غفور رحيم أن يصفح ويسامح. فإن كانت الخطيئة تقف ضدنا فإن محبة الله ورحمته تقفان معنا وتتشفعان بنا. ولا سيما خطايا أيام الصبا والجهل فإن الإنسان كلما تقدم في السن يجب أن يعود عن طريق الجهل والغواية إلى الرشاد. هي معاصي لأنها في جوهرها تعصى أوامر الله تعالى وتتعدى شرائعه الإلهية والغفران هو أن لا يذكر الله هذه الخطايا. من أجل جودك من أجل رحمتك وهذا باب الغفران الوحيد إذ بدونه لا نجاة لنا ورحمة الرب ومحبته العظيمة ظهرت بالأحرى بصليب المسيح.
(٨) يعلمهم طريق النجاة الطريق الصالحة (أيوب ٣١: ٧) وهنا موضوع التعليم الذي يلتمس من الله أن يعلمه إياه (انظر مزمور ٣٢: ٨ وأمثال ٤: ١١ وأيوب ٢٧: ١١). إن الله يتنازل من أجل الخطاة لكي يعلّمهم الطريق التي تقودهم للحياة وعلينا أن نثق ثقة تامة بما يفعله الله نحونا ونخلص له ولا نحيد عن طريقه قط لكي لا نهلك بل نحيا.
(٩) ذاك من جهة الله وأما من جهة الإنسان فعليه بالوداعة أي قبول الإرشاد والتدريب والامتثال للأمر والخضوع التام لمشيئته تعالى. والودعاء هم اللطفاء بالحق الذين لهم قابلية التعليم. فالرب يريد تلاميذ يصغون للنصح ويقبلونه ويضعونه في قلوبهم للحاضر والمستقبل أيضاً.
(١٠) وهنا تكرار للتوكيد عن سبل الرب. وهؤلاء الودعاء اللطفاء هم الذين يحفظون عهد الله ومواعيده. فكل ما يقوله لهم الله هو حق وعدل إذاً فليس من المستطاع أن ينال الرحمة سوى الذين يسلكون سلوكاً مرضياً ومقبولاً أمام الله. وعلى هذا النحو يختم بالدعاء الحار الذي يلي.
(١١) يطلب غفران الإثم لأنه يشعر بثقل الخطايا عليه. لأجل اسم الرب. وقد علمنا يسوع أن نأتي للآب بواسطته «مهما طلبتم من الآب باسمي...» (انظر إرميا ١٤: ٧ وإشعياء ٤٣: ٢٥) إذاً كم يجب أن يفرح ذلك الشخص الذي يترجى رحمة الله ويقترب إليه بطلب العفو والغفران. وكلما عظمت خطيئتنا عظمت أيضاً محبة الله وغفرانه لكي يمحوها عنا.
«١٢ مَنْ هُوَ ٱلإِنْسَانُ ٱلْخَائِفُ ٱلرَّبَّ؟ يُعَلِّمُهُ طَرِيقاً يَخْتَارُهُ. ١٣ نَفْسُهُ فِي ٱلْخَيْرِ تَبِيتُ، وَنَسْلُهُ يَرِثُ ٱلأَرْضَ. ١٤ سِرُّ ٱلرَّبِّ لِخَائِفِيهِ وَعَهْدُهُ لِتَعْلِيمِهِمْ. ١٥ عَيْنَايَ دَائِماً إِلَى ٱلرَّبِّ، لأَنَّهُ هُوَ يُخْرِجُ رِجْلَيَّ مِنَ ٱلشَّبَكَةِ».
(١٢) هنا سؤال وجواب. الخائف الرب هو الذي يتعلم طريق الرب ويسلك فيها. بل يفرح بالذهاب فيها. هو لا يتردد كثيراً في الاختيار ولا يقف محتاراً على مفترق الطرق وفي منعطفاتها ولا يضيع وقته وجهوده في مذل هذا الذهول غير المجدي. لذلك فهو يختار الطريق والرب نفسه يعلمه كيف يسلك فيها. والرب لا يكتفي أن يدله عليها بل يقوده ويهديه لئلا يضيعها مرة ثانية وتكون الضلالة الأخيرة شراً من الأولى. فخائف الرب المتكل عليه لا يطيل الوقت في ضعفه البشري لأنه يتقوى بالله فقط.
(١٣) إن البار يشبه هنا كأنه مسافر يقطع براري الحياة وإذا به يقاد بيد علوية إلى ملجأ الخير وهناك يبيت ليلته هانئاً مطمئناً. قد يصادفه الشر مصادفة ولكنهه يهرب منه ويتغلب عليه أخيراً وأما مكوثه الطويل ففي البر والصلاح. ولأنه كذلك فإن نسله موفقون سعداء وأولاده وأحفاده وذراريه لهم العز والكرامة لهم المقام العالي والصيت الحسن بين الناس. أمور كثيرة قد تزعجنا وتكدرنا ولكن لنا رحمة الله فيه وحدها يجب أن تكفينا وحينئذ يذهب كل انزعاجنا ويضمحل كالبخار.
(١٤) هنا صورة لطيفة للعلاقة الكائنة بين الله والبار فهي علاقة قلبية سرية وليست بالأولى علنية وفي الظاهر فقط. وإذاً فإن ماء الحياة عنده ينبع من خفايا الله غير المنظورة ويهمه السريرة. ويجد في عهد الله ووصاياه سبيلاً للتعليم. والتعليم هنا ليس لأمور عقلية فحسب بل ذلك التعليم الاختباري الذي يفهمه شعب الله كلما مرت بهم السنون يزدادون معرفة وورعاً وتقوى. إنه لعهد مجيد عميق ووافر الغنى لأنه يفيد الإنسان هذه الفائدة العظيمة.
(١٥) من عيناه دائماً نحو الرب فهو إذا يتعبد له ويتخشع أمامه. فهو دائماً في موقف الصلاة التي لا تذهب ضياعاً. وهذه المرة نجد غرض العبادة أن الله يخرج أرجلنا من شبكة الأعداء التي نصبوها لكي يوقعونا فيها. هو الذي يستطيع ويريد أن ينجينا من شبكة التجارب التي تعترض سبيلنا. وهذه الشبكة هي ليست من وضعه ولا من ترتيبه ولكنها موجودة لا شك. والذين هم في هذه الحالة يبتعد عنهم الأصحاب والخلان ويتركونهم ولا يبقى لهم ملجأ سوى إلههم. لذلك يجلسون وحدهم ويبكون ويتذكرون أموراً سالفة (مراثي ٣: ٢٨).
«١٦ اِلْتَفِتْ إِلَيَّ وَٱرْحَمْنِي لأَنِّي وَحْدٌ وَمِسْكِينٌ أَنَا. ١٧ اُفْرُجْ ضِيقَاتِ قَلْبِي. مِنْ شَدَائِدِي أَخْرِجْنِي. ١٨ ٱنْظُرْ إِلَى ذُلِّي وَتَعَبِي وَٱغْفِرْ جَمِيعَ خَطَايَايَ. ١٩ ٱنْظُرْ إِلَى أَعْدَائِي لأَنَّهُمْ قَدْ كَثُرُوا. وَبُغْضاً ظُلْماً أَبْغَضُونِي. ٢٠ ٱحْفَظْ نَفْسِي وَأَنْقِذْنِي. لاَ أُخْزَى لأَنِّي عَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ. ٢١ يَحْفَظُنِي ٱلْكَمَالُ وَٱلٱسْتِقَامَةُ لأَنِّي ٱنْتَظَرْتُكَ. ٢٢ يَا اَللّٰهُ ٱفْدِ إِسْرَائِيلَ مِنْ كُلِّ ضِيقَاتِهِ».
(١٦) يلتمس من الرب أن لا يهمله ولا يتخلى عنه بل يلتفت إليه (راجع مزمور ٨٦: ١٦ ولاويين ٢٦: ٩) وذلك لأنه يشعر بالوحدة والانفراد والناس لا يهمهم أن يكون لهم أي علاقة به. لمن يشكو همومه؟ لمن يبث لوعته ويطلعه على حالته السيئة؟ لله وحده الذي يستطيع أن يسمع كل شكواه ويصغي لصلاته ودعائه.
(١٧) وبالعبرانية تفيد كلمة «أفرج» الرحب والسعة أي أن يكبر الله نفسه حتى يستطيع أن لا ينحصر في الضيقات بل يسمو عليها ويتركها جانباً (انظر ٢ملوك ٨: ٦ وقابل مع مزمور ١٠٩: ٦ و٢كورنثوس ٦: ١١) إن شعوره بالخطيئة هي التي جعلته في ضيق قلبي. وهو يلتمس أن يخرج من الشدائد فهي ثقيلة الوطأة عليه حتى لا يستطيع معها الحركة.
(١٨) أما ذلّه فهو بسبب حالته السيئة وأما تعبه فبسبب كثرة جهاده لكي يتغلب على الصعوبات التي يجتازها. ولذلك فهو يلتمس غفران الخطايا.
(١٩) لا سيما يلتمس من الله أن ينقذه من أولئك الأعداء المبغضين الظالمين الذين يبدأون بالظلم وينتهون به. فهم يظلمون بأفكارهم وبأفعالهم أيضاً. وهو لا يريد أن ينتقم منهم بل يترك ذلك للرب.
(٢٠) لذلك يلتمس من الرب أن يحفظ نفسه وينجيه من كل شر. ويلتمس من الله أن لا يفشل (انظر ١أخبار ٢١: ١٣). ولأنه يتكل على إلهه لذلك فلا يتزعزع ولا يمكن لهؤلاء الأعداء أن يطالوه بسوء.
(٢١) إن أساس الحفظ هو ما فيه من كمال واستقامة. والإنسان الكامل هو المخلص لله بالسر والعلن ويتمم مشيئة الرب في حياته اليومية. أما الاستقامة فهي السلوك بدون عوج والتواء. هو قريب أن يصلح نفسه ويعود عن غيه. هو ملتمس وجه الرب دائماً يستنير بالنور الداخلي لكي يستمر على سيره في هذه الحياة ويصل أخيراً للأحضان الأبدية. وكإنما الكمال والاستقامة ملاكان صادران من عند الله ويخدمانه بتخليص شعبه.
(٢٢) وهنا يختم المرنم بدعاء ليس لذاته الضيقة بل ينساها تماماً ويسمو عليها ويمتد ببصره إلى إسرائيل كشعب الله. وهكذا يعبر عن ضيقات الشعب كله وفي الوقت ذاته يلفت نظرهم أنه لا خلاص لأحد منهم إلا برحمة الله ولطفه. وما أجمل كلمة الفداء هنا فإنه يعطي شركة الله في ضيقة شعبه فهو معهم دائماً إذا كانوا معه.